الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة
طُلِب الي أن أكتب مقدمة الطبعة الجديدة لكتاب (ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ) الذي ألفه والدي الشيخ مبارك الميلي منذ أكثر من نصف قرن.
وقد صادف أن تلقيت منذ أيام، في هذا الشهر أفريل 1986، رسالة من وزارة الشؤون الدينية طلبت فيها الي أن اكتب ترجمة لوالدي.
ونفس الاقتراح سمعته منذ شهرين، من أحد تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس.
تساءلت: كيف لم أفكر في مثل هذا الموضوع قبل اليوم؛ أليس ذلك واجبا كان يتحتم علي أن اضطلع به قبل هذا الوقت؟
الواقع أن الفكرة راودتني قبل سنوات. لكني أحجمت عن تنفيذها لسبيين رئيسيين: الأول اني متيقن ان هناك غيري، من يستطيع ان يكتب مقدمة لكتاب "ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ) أكثر موضوعية وأدق تحليلا. والثاني أن كتابات الشيخ مبارك نفسها تقدم مادة خصبة لمن يريد الكتابة عنه، قد تغنى عن اللجوء الى الذكريات الشخصية والمعلومات الخاصة.
لكني أعدت النظر في هذا الموقف على ضوء الطلبات التي صدرت الي من جهات متعددة ومتباعدة وفي أوقات متقاربة. خصوصا وان هناك جوانب من شخصيته قد لايستطيع غيرى أن يعرف بها.
صحيح انه توفى، رحمه الله، ولم أكن قد تجاوزت مرحلة التعليم المتوسط. لكني استطعت ان اختزن ذكريات تلقى بعض الضوء على شخصيته، سواء بحكم معاشرتي له، أو بحكم الأوراق والرسائل الخاصة التي اطلعت عليها بعد وفاته، والتي كان يحتفظ بها في مكتب له كانت تتصدره صور جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد نصيف.
وقد أتيح لي، خلال السنوات القليلة التي عشتها جنبه بعد أن أصبحت واعيا بأهمية بعض الاحداث، ان أختزن في الذاكرة بعض تصرفاته ومواقفه وتعليقاته.
وعلى الرغم من الصورة المهيبة التي كانت تفرض نفسها على من يقترب منه، وعلى الصرامة التي اشتهر بها، فقد كان يتوفر على جانب يطفح بالمحبة والمرح والفكاهة.
وقد كان مشهد تحلقنا حوله، أمي، اخوتي وأنا، في ليالي الشتاء قرب مدفأة يشتعل فيها الحطب، بغرفة نومه، من بين المشاهد التي رسخت في الذاكرة، مثلها في ذلك مثل حلقات تدريسه لنا في "مدرسة حياة الشباب" أو املاآته الأدبية علي، عندما كان يتولى تدريسي في البيت بعد وقوع حادث معين، لا باس من ان اسوقه في هذا المجال لأنه يكشف عن جانب من شخصيته.
كان بعد ان اشتد عليه مرض السكر، قد توقف عن القاء الدروس على تلاميذ المدرسة، وان كان قد استمر في اعطاء الدروس المسجدية ليلا، وفي إلقاء محاضرات عصرا في النادي حتى يشمل بدعوته الشباب الذي لم يكن يتردد على المسجد.
وقد خطر لي ذات يوم، وقد شعرت ان مستوى التعليم في المدرسة لم يعد يلبي حاجتي، ان اطلب منه ان يعطيني دروسا في اللغة والأدب والنحو. فكان جوابه:
- لا استطيع ان اخصك بدروس دون رفاقك.
قلت له: فليكن. لماذا لا تعطي دروسا لكل الذين بلغوا المستوى الذي بلغته.
وكذلك كان. خصص لنا ساعة كل يوم، من السابعة صباحا الى الثامنة. كنا حوالي عشرة. وكان على مرضه يحرص على عدم التخلف عن القاء ذلك الدرس. وكان الجميع يحضرون طالما كان الوقت صيفا أو خريفا. حتى إذا دهم الشتاء راح عدد الحاضرين. على قلتهم ينقص. حتى انه لم يجد ذات يوم، في القاعة سواي.
غضب. كان مرض السكر قد جعله شديد الانفعال. لم يلق ذلك اليوم درسه وقال لي: أخبر زملاءك انهم إذا لم يحضروا من الغد، فلن يسمعوا مني درسا بعدها.
وأبلغتهم. ومن الغد لم يحضر أي أحد منهم. آنذاك قرر أن يخصني بالتدريس لكن في المنزل.
كان تحلقنا حوله في السهرة حول المدفأة هي الفترة الوحيدة التي نجتمع فيها اليه فنحن لم نكن نأكل معه. لأن اصابته بداء السكر منذ سنوات شبابه كانت تفرض عليه نظاما خاصا للأكل، ومن هنا كان يتجنب الجلوس الى مائدتنا خشية ان تمتد يده للمحرمات عليه بسبب المرض. وهذا في الوقت الذي كنت أتصور فيه انه محظوظ بفعل نظام أكله الخاص: فقد كان منظر الخبز الخاص الذي يشتريه من قسنطينة في علب كارتون كبيرة، والمصنوع من مادة الغلوتان فقط، يسيل لعابي.
أما في السهرات الشتوية فقد كان يقاسمنا أحيانا أكل البرتقال والجوز. وكانت اجراءات تكسير الجوز وتقشير البرتقال التي تتولاها أمي غالبا من بين الطقوس التي نحرص على حضورها. وكنت اتعجب كيف يفضل أبي أكل البرتقال الحامض، في الوقت الذي كنا فيه نحن الصغار نتنازع صنفا من البرتقال الحلو، لم أعد أجد له أثرا في الاسواق اليوم.
وكان استهلاك الأسرة للجوز عاليا: فهو زيادة عن سهرات الشتاء يستعمل في صنع الحلويات، لأن وجود بعض أصناف الحلوى كان ضروريا على مدار السنة وليس في الاعياد فقط، فلم
يكن يصح أن يأتي زائر على حين بغتة دون ان يكون في وسع أمي ان تقدم له بعض الحلويات.
لهذا كان والدي يشتري الجوز بكميات كبيرة من مصدرين أساسيين: من أحد الاسواق القريبة، التي تغذيها بعض مناطق فرجيوة، ومن الاوراس الذي كان يزود أسواق باتنة وخنشلة.
أذكر أن منظر جوزة بيضاء، قشرتها ناصعة، استهواه ذات ليلة، فأصر على ان يكسرها بنفسه، وكم كانت دهشته ودهشتنا أيضا- عندما وجد بداخلها كتلة سوداء لا تشبه لب الجوز من بعيد ولا من قريب.
- أعوذ بالله .. هذه الجوزة مثل المنافق.
كان تعليقه. وضحكت أمي لتعليقه. وضحكت معجبا ببداهة التعليق ودقة التشبيه.
وقد أتيح لي ان اكتشف جانبا من جوانب شخصيته وأنا بعد طفل، وهو جانب المربي، فهو لم يكن يستعمل الشدة معي الا حيث تكون لازمة، أي عندما يتعلق الأمر بشيء، لا يمكن التساهل فيه، مثل ترك الصلاة. آنذاك لا يتردد في انزال شديد العقاب بي، لا يشفع في ذلك حبه الشديد لابنه- كما سنرى- ولا تدخل والدتي أو جدتي.
أذكر أنه كان ذات صيف يستعد للسفر الى مسقط رأسه في الجبل، وكنت شديد الشوق الى مرافقته في تلك السفرة، فطلبت منه ان يأذن لي بأن أذهب معه. قال لي ما معناه: أنت مخطئ ان كنت تتصور ان "أولاد مبارك " مثل قسنطينة أو مدينة الجزائر. قلت أريد أن أسافر مهما تكن "أولاد مبارك " كان ذلك في صيف 1939.
ونزل عند رغتبي.
كانت فرحتي كبيرة. فلم يكن في حياتنا بالقرية، نحن أطفال ذلك العهد ما يثير. كانت منازل القرية التي يوجد بها "راديو" لا تتجاوز ثلاثة، منها منزلنا. وكان هناك مقهى واحد له راديو بالاظافة الى النادي. وكان السفر بالنسبة للاطفال آنذاك حدثا
سعيدا يشغل حيزا كبيرا من وقتنا عندما يتقرر مشروعا، ونظل نحكي عنه بعد تحقيقه عدة أسابيع من خلال روايات يتدخل فيها الخيال غالبا.
لكن حدث عشية السفر حادث غريب.
كان والدي، أثناء سفره للإستشفاء من داء السكر في فرنسا حيث عالج في فيشي وباريس عام 1938، قد استصحب معه دليلا مفصلا لمدينة باريس.
كانت مكتبته منظمة تنظيما دقيقا، بحيث كان يعرف موقع كل كتاب وصفه وترتيبه. وكنت مغرما بتصفح الكتب حتى ولو لم أكن أفهم ما فيها. وكنت أحرص على اعادتها الى مكانها حتى لا يعرف أني استعملتها.
قبل يومين من السفر، عثرت على دليل باريس. أعجبت بما فيه من صور ومعالم، فحملته الى المدرسة حتى أريه لزملائي وأزهو عليهم.
طلب مني أحد الزملاء أن أعيره اياه مقابل أن يعيرني هو مركبة خشبية تسير بـ "الرولما" كما كنا نقول، ونقصد بذلك عجلات معدنية صغيرة.
وحدث ان والد زميلي عثر على الدليل عنده فسأله من أين جاءه، فأخبره بالحقيقة. فما كان من أبيه الا ان أخذه منه وأتى به الى خالي حتى يعيده الى والدي. وأعاده بالفعل عشية السفر.
وصادف أني رأيت الدليل وقد احتل مكانه، صعقت. كان والدي قد أرجعه حيث كان دون ان يفاتحني في الموضوع. قلت في نفسي: لقد افتضح الأمر. ورحت أتصور صدور العقوبة الصارمة ممثلة في ضرب مبرح، كذلك الذي ينالني عند التخلف عن الصلاة، مع الغاء سفري.
لكن شيئا من ذلك لم يحدث. لم يظهر على أبي أي تصرف يدل على أنه عرف بما حدث. لم تصدر عنه أية ملاحظة. كان تصرفه معي عاديا. تعجبت ولم أستفهمه.
وسافرت معه من الغد، وكانت سفرة من أحلى السفرات التي رسخت في ذاكرتي. دامت حوالي عشرة أيام. تمتعت فيها بركوب البغال، فقد كانت هي وسيلتنا الوحيدة لنقلنا في بعض أشواط الرحلة. وأتيح لي أن أشهد بعض عادات البادية مثل ذبح خروف أو كبش للضيف ولو وصل في ساعة متأخرة من الليل.
بعد ان عدنا الى ميلة، ناداني من الغد. وبعد أن آذن لي بالجلوس راح يحكي لي ظروف اكتشافه لاختفاء الدليل، ثم قال لي ما معناه:
- لم أرد أن ألاحظ لك شيئا حتى لا أنغص عليك السفر، ولا الغي وعدا قعطته لك. وها أنا ذا الأن أعتبرك كبيرا تتعظ بالكلام، ولم تعد بحاجة الى الضرب. فلا تعد لمثلها.
وقد أتيح لي بعد ذلك أن أعيش مشهدا يدل على مدى تقديره للوعد المقطوع. كان يسافر الى قسنطينة في الصباح ويرجع في المساء، أحيانا وقد رأى ان يستصحبني في احدى هذه السفرات اليومية مع اعلامي بأننا سنرجع في نفس اليوم. قبلت رغم ان بعض يوم لم يكن ليشبع نهمي الى المدينة. الا أنه عند الوصول وجد الشيخ العربي التبسي بقسنطينة، فغير برنامجه وقرر أن يقضي بها ثلاثة أيام. ناداني أمام صديقه وقال لي ما معناه:
لقد قلت لك اننا سنرجع في نفس اليوم. لكني اضطررت الى ان امكث مدة أطول. فان كنت تريد البقاء فليكن، وان كنت رتبت امرك على العودة اليوم، فاعلمني حتى أرسلك مع أحد المسافرين الى ميلة.
وعلى ذكر جانب المربي فيه أذكر أني قرأت فيما قرأت من رسائله التي كان يحتفظ منها بنسخة لديه (والتي ضاع معضمها مع الأسف) رسالة كان وجهها الى الشيخ العربي الذي كان قد طلب منه ان يطلعه على أسلوبه في معاملة التلاميذ (فقد كان والدي قد شرع في التدريس بالاغواط، قبل ان يلتحق الشيخ العربي ببلدة سيق التي كانت أول بلدة تولى التدريس فيها للتلاميذ) فكتمب له والدي رسالة
حفظت منها هذا المقطع.
" إذا وعدت فانجز. وإذا أوعدت فتغافل. وان ذكرك أحد التلاميذ بالوعيد فنفذه مع اظهار كراهيتك لمن ذكرك ".
لقد أشرت منذ قليل الى شديد حبه لي. كنت أحس بذلك مثل كل طفل، لكن لم أكن أعرف مدى ذلك الحب الا عندما عثرت، بعد وفاته، على كراسة صغيرة كان قد سجل فيها خواطره عندما سافر للعلاج بفرنسا، كتب في احدى ورقاتها، تحت عنوان "لوعة الشوق" ما يلي حرفيا (فالكراسة ما تزال في حوزتي).
"لا أعلم للشوق سلطانا على عواطفي عجزت عن تخفيف وطأته قوتي الفكرية الا مرتين. أحداهما وأنا شاب علق قلبي فتاة علقتني هي الأخرى. وكانت حرب بين عقلي وهواي، فاز فيها الهوى بالحب العذري وفاز فيها العقل بالعفة، مع وجود دواعي الفاحشة وفقد موانعها.
ثانيتهما في سفرتي هاته الى فرنسا لعلاج داء السكر التي دامت من (28/ 03/ 1357هـ) الى 28/ 05/ 1938م إلى 29/ 05/ 1357هـ (الموافق 27/ 07/ 1938م) فقد كنت أريد ان انسى كل علاقاتي الشخصية والفكرية أيام علاجي. ففزت الا من ناحية ولدي البكر محمد، فقد كنت أهاج لذكراه حتى تكاد تنفلت دموعي أمام الناس. ولولاه لكان غيابي أطول.
لكن الاسترسال في استعراض كل الجوانب التي أعرفها عن والدي، قد يبعد بنا عن موضوع الكتاب الذي وضعه منذ أكثر من نصف قرن.
ان تحديد مكانة ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ تتطلب التذكير، ولو باختصار، بالظروف الفكرية والسياسية والاجتماعية التي ظهر فيها ذلك الكتاب.
ولد الشيخ مبارك الميلي في النصف الأخير من العشرية الأخيرة من القرن الماضي. نشأ في منطقة فقيرة خاضعة لنظام البلديات المختلطة. وكان هذا النظام، الى جانب "الاحواز العسكرية" هو
الركيزة الأساسية التي يعتمد عليها الاستعمار في ادارة البلاد والتحكم في المناطق التي يخشى ثورة سكانها.
والبلدية المختلطة تشمل عادة منطقة شاسعة تضم عدة دواوير وقرى يسيطر عليها حاكم فرنسي يساعده عدد من الاعوان الفرنسيين أيضا، الى جانب بعض الاعوان من "الاهالي".
وإذا كان الاروبيون ممثلين في هذا النظام البلدي بواسطة من ينتخبهم فان الاغلبية الساحقة من سكان الاحواز أو البلديات المختلطة، أي الجزائريون، ممثلون " نظريا " بواسطة رجال تعينهم الادارة الفرنسية. ولا يخفى ان الحاكم الفرنسي لا يعين ضمن ادارته الا من يجد لديه الاستعداد لخضوع مطلق وانقياد أعمى في تنفيذ التعليمات. وكان معروفا ان المعيار الذي تقاس به صلاحية المساعد الجزائري هو مدى تصديه ضد مطالب من يفترض فيه ان يمثلهم وتفانيه في محاربة بني جلدته، فتلك هي الطريقة التي يزكي بها "القائد" أو "الخوجة" نفسه في أعين سادته، وهي التي تمكنه في الوقت نفسه من جمع بعض الاموال الحرام على حساب اخوانه وبني عمومته.
ولا حاجة الى التذكير بالصلاحيات الواسعة التي يملكها الحاكم الفرنسي في تعيين اعوانه من بين الجزائريين، وإذا صادف ان "لقائد" أو غيره من اولئك الاعوان لم يرق للمعمرين الاروبيين، فليس اسهل لديهم من أن يلفقوا ضده تهمة لا يملك ضدها أي طعن، فعزله يتم بنفس السهولة التي تم بها تعيينه. ومن ثم تجده يضطر الى مجاراة الادارة. ونادرا هم اولئك الذين ينجحون في البقاء بمنصبهم دون الاصطدام مع الشرائح الاجتماعية الاكثر تمثيلا لشعبهم.
ولهذا، بقدر ما يكون " القائد" في البلدية المختلطة مجردا من أي حق في مواجهة المعمرين والفرنسيين، بقدر ما يتمتع بصلاحيات واسعة في مواجهة أبناء شعبه. أليس هو الذي يملك حق تحديد حصة الضرائب المفروضة على الجزائريين، دون ان يتحكم في ذلك
الى أية قاعدة؛ أليس هو الذي يعين عادة، وخاصة بعد 1902 قاضيا في المحاكم القمعية التي تنصبها الادارة الفرنسية ضد "الاهالي"؛ أليس هو الذي يفترض فيه ان يمثل منطقته في البلدية دون أن يحتاج الى تزكية الناخبين؛ فهو يملك كل السلطة على شعبه، دون ان يملك هؤلاء اية صلاحيات للاقتراع عليه ومحاسبته.
ولاحاجة الى التذكير بأن الشروط التي تطلبها الادارة توفرها في القائد، لا تتصل من قريب ولا من بعيد بالكفاءة الفنية والمستوى الثقافي والتأهيل المعني.
وإذا كان معروفا ان "ماهية" القائد محدودة، مثل سلطاته الرسمية نظريا، فقد كان معروفا ايضا انه يستطيع بوسائل عديدة ان يبني ثروة في آجال قصيرة، لانه كان يعرف كيف ينتزع المال من الناس ويسطو على ما يملكون دون ان يملك هؤلاء حق الشكوى والتظلم.
على ان هذه "الخصائص" السلبية التي تختص بها البلدية المختلطة هي نفسها التي ادت عمليا، ودون ان تقصد لذلك الادارة الفرنسية، الى استمرار الهوة سحيقة بين الشعب وممثلي الاحتلال.
فممثلو الادارة الفرنسية لم يكن يهمهم ان ينفذوا الى الشعب ويكسبوا وده، طالما كانوا مدينين بوجودهم وثرواتهم وجاههم لغيره. وكان من جراء ذلك ان تطور الشعب، وخاصة بالارياف، في ظل العداء للادارة الاستعمارية. أليست هي التي انتزعت منه الاراضي الخصبة واضطرته الى ان يلجأ الي المناطق القاحلة والاراضي الجدباء؟
كان عمره، عندما توفي ابوه، اربع سنوات. فنزله جده منزله حتى لا يحرم من الميراث. ويا له من ميراث. شجيرات زيتون محدودة العدد، منبته في نحو من اربع هكتارات، ينبت فيها شيء من العناب والتين، ويمكن زراعتها بالشعير.
في مثل هذا المحيط، لا يحتاج المرء الى اعمال الخيال كثيرا كي يستنتج ان الافاق امامه مسدودة، وان كل الابواب في وجهه
موصودة، ان هو رضي بالبقاء في المنطقة مكتفيا بما حفظه في طفولته من قرآن.
لكن الى أين يذهب وكيف؟
كانت عين عمه الاكبر، أحمد، لا تغفو، كانوا يسمونه الذئب. ومع ذلك فقد عزم الفتى مبارك على ان يغادر ارضه. وكان قد خبر يقظة عمه اكثر من مرة. هل تحدثه نفسه بأن يقطف تينة بعد ان يكون قد تأكد من خلو المكان؟
انه لا يشعر الا وقد هوت على يديه عصا عمه وكأنه طلع من غار او نزل من سماء.
لذلك اعد خطة محكمة للفرار لن يتفطن لها عمه. قرر ان يكون ذلك يوم شتاء ليس مثل كل الايام. وصادف ان تساقط الثلج بكثرة. ولم نلبث ان تراكمت الثلوج بصورة تردع الحيوان والانسان ان يغامر بأنفه خارج وكره أو كوخه. لم يخطر على بال العم الاكبر مهما تخيل من حيل ان يتوقع فرار ابن اخيه في مثل ذلك اليوم.
"ان الثلج يصل الى الركبة " تلك كانت عبارة الشيخ مبارك في وصف يوم الفرار من دواره ووصاية عمه. روى لي القصة في الاسبوع الاول من نوفمبر 1942. أذكر ذلك جيدا. كنت معه بمدرسة التربية والتعليم في قسنطينة حيث قضينا ليلة في طريقنا من ميلة الى خنشلة. فقد كان على أبي ان يذهب الى هناك ليعود بوالدتي التي كانت في زيارة الى شقيقتها. وكان قد استصحبها هناك قبل نحو اسبوعين مع اخوتي وتركني في ميلة وحدي حتى لا انقطع عن دراستي، ثم عاد هو بعد ثلاثة ايام. وعندما قرر ان يذهب ليعود بأمي واخوتي اليه ان يصحبني، فتغيب بيومين أو ثلاثة عن الدراسة لا يضر. قضينا الليلة الاولى في قسنطينة، لانه كان علينا ان نأخذ الحافلة الى خنشلة باكرا من صباح الغد.
خلال تلك السهرة راح يحكي لي قصة فراره، وقد رسخت القصة في ذهني لانها اقترنت لدى بشعور الاعتزاز ان اصبح والدي يأتمنني على اسرار حياته.
كان فراره الى ميلة، حيث درس على الشيخ محمد الميلي ابن معنصر جدي لأمي، وكان أثمن ما تعلمه عليه هو خشية الله والزهد في المدنيا. فقد كان الشيخ الميلي معروفا بالزهد. كان يعطي من ماله بغير حساب. ذلك ما كنت اسمع عنه منذ صغري. وتروى عنه روايات كثيرة في هذا المجال. منها ان سائلا تقدم منه ذات يوم، وقد كان عائدا من المسجد الى منزله، وصادف انه لم يكن لديه ما يعطيه له، فقال له انتظرني. ثم دخل الى سقيفة المنزل، ونزع صدريته، وكانت فاخرة واعطاها له، متأكدا انه سوف يبيعها بأكثر من ثمنها الحقيقي، فهناك اكثر من شخص يرغب ولا شك في شراء صدرية الشيخ تبركا.
ويروي عنه انه، وقد عرف انه ميت لا محالة بعد طعنة سكين طعنها به مواطن بحجة انه رفض ان يفتيه بما يوافق هواه، سامح من اراد قتله وطلب من ابنائه قبل ان يسلم الروح، ان لا يتتبعوا القاتل قضائيا. لست أشك في ان بعضا من هذه الروح قد ورثها الشيخ مبارك عبر سلوك شيخه اكثر مما ورثها عبر دروسه.
لكن التأثير الحاسم الذي تلقاه مؤلف تاريخ الجزائر، كان هو ذلك الذي تلقاه على الشيخ ابن باديس.
فقد نصحه الشيخ محمد الميلي ان يتردد على ابن باديس مؤكدا له انه سوف يستفيد بذلك اضعاف مما لو بقي في ميلة.
وفعلا فقد كان لقاء مبارك الميلي مع ابن باديس يمثل نقطة تحول هامة في حياة الشيخ مبارك: فقد أخذ عنه روح النقد، وعزز لديه الجرأة على التمرد على الاوضاع.
وعلى الرغم من انه لم يتح لي ان اعرف من أبي الكثير عن هذه العلاقة فقد أتيح لي ان أشهد ما يدل على عمقها. حدث ذلك بمناسبة موت الشيخ عبد الحميد.
اتصل أبي بمكالمة تليفونية من قسنطينة مفادها ان الشيخ مريض. أبدى تعجبه لانه كان وشيك العودة من هناك وتركه صحيحا. فهرع مسرعا. ولم يكد يصل الى قسنطينة حتى وجده قد اسلم روحه.
وكان عليه ان يتولى تأبينه في غياب الشيخ البشير الابراهيمي الذي كان بالمنفى آنذاك. وتقدم يتلو: " {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية " لكنه لم يستطع ان يواصل التأبين، فقام الشيخ العربي بالمهمة. ذلك ما سمعته فيما بعد. لكن الذي شاهدته بنفسي هو حالته حين عودته من الجنازة. كنا نستعد للاحتفال بعيد المولد النبوي. وكان من أحب الاعياد الى الاطفال: فيه نطلق الشماريخ، ونفجر المحارق ونشهد احتفالات وسهرات في النادي تلقى فيها خطب تأسرنا وتشدنا وان كنا لا نفهم الكثير مما يقال فيها.
كنت أفرح بالمولد فرحا زائدا على اقراني واترابي: فقد كان من عادة أبي ان يقضي اربعة ايام من كل اسبوع في قسنطينة، ومن ثم كان يأتي لي من هناك بأصناف من الشماريخ والمحارق لا تتوفر في اسواق ميلة، فتكون لي فرصة للزهو على الاصحاب والاقران. كنت انتظر عودته بفارغ صبر. وهرعت اليه كالعادة سائلا عن المحارق، رغم اني كنت أعرف انه عائد من جنازة الشيخ، لم أكن مدركا لمدى التأثير الذي خلفه لديه موت الشيخ عبد الحميد.
لم يستطع ان يرد علي. فقد القدرة على الكلام. ظل كذلك اياما لا يعبر خلالها عما في نفسه الا اشارة وايماء.
وقد اطلعت فيما بعد، على رسالة وجهها الى الشيخ البشير الابراهيمي. وكان هذا الاخير قد طلب منه ان يصف له يوم الجنازة. وقد حفظت جملة وردت في رسالة الشيخ البشير وهي قوله " لقد غبت يوم الختم، وغبت يوم الاتم " وكان الشيخ البشير يشير الى تغيب والدي عن الاحتفال الذي أقيم بقسنطينة في مناسبة الاحتفال بختم الشيخ بن باديس لتفسير القرآن، اذ كان موجودا آنذاك بفرنسا للعلاج.
وقد رد الشيخ مبارك على رسالة صديقه، يصف له وقع الحادث عليه ويقول له فيها ما اذكر معناه:
- عندما سمعت لدى وصولي الى قسنطينة بموته شعرت ان الدورة
الدموية اصبحت تسير في عكس الاتجاه المعهود. وعرفت في الحين ان داء السكر قد عاودني وانه لن يفارقني حتى يقضي علي. وكذلك كان. فقد تضعضعت صحته بعد موت ابن باديس ولم يتمكن من متابعة القيام بدروس الجامع الاخضر التي كان يتولاها شيخه، فتحولت الدراسة الى تبسة حيث تكفل بها الشيخ العربي.
اذن فقد كانت العلاقة التي تربط بين الميلي وباديس اكثر من علاقة بين رئيس ومرؤوسه، وبين أستاذ وتلميذه: لقد كان لها طابع روحي بحيث لم يستطع الشيخ مبارك ان يتصور استمراره في الحياة دون ابن باديس.
وتجدر الاشارة في هذا المجال الى انه على الرغم من هذه العلاقة التي كان فيها ابن باديس يمثل الرئيس والاستاذ والنموذج الى جانب الصديق بالنسبة للشيخ مبارك، فقد كان ابن باديس هو الذي كتب أروع تقدير واشادة بمبارك الميلي عندما صدر الجزء الاول من تاريخه. فقد كتب اثر صدور ذلك الجزء رسالة الى الشيخ مبارك وجهها له من مصيف "حصن الماء" (برج الكيفان حاليا) في صيف 1978 جاء فيها قوله:
الحمد لله.
أخي مبارك،
سلام ورحمة، حياك الله تحية من علم وعمل وعلم، وقفت على الجزء الاول من كتابك، فهو أول كتاب صور الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سوية، بعدما كانت تلك الصورة اشلاء متفرقة هنا وهناك. وقد نفخت في تلك الصورة من روح ايمانك الديني والوطني ما سيبقيها حية على وجه الدهر، تحفظ اسمك تاجا لها في سماء العلا، وتخطه بيمينها في كتاب الخالدين.
أخي مبارك،
إذا كان من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف من أحيا أمة كلها؛ احيا ماضيها وحاضرها، وحياتهما عند ابنائها
حياة مستقبله. فليس- والله- كفاء عملك ان تشكرك الافراد، ولكن كفاءة ان تشكرك الاجيال. وإذا كان هذا في الجيل المعاصر لخلا، فسيكون في الاجيال القادمة كثيرا. وتلك سنة الله في عظماء الامم ونوابغها ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وأنا- واحدا من هذا الجيل- بلسان من يشعرون شعوري، اشكرك لاقوم بما علينا من واجب، لا لأقابل مالك من حق.
جازاك الله خير ما جازى به العاملين المخلصين للدين والوطن بعلم وتحقيق وانصاف، والسلام عليك من اخيك عبد الحميد بن باديس.
وقد حرص الشيخ مبارك على اثبات هذه الرسالة في الجزء الثاني
من تاريخه، لانه يعتبر ابن باديس عظميا من عظماء الجزائر، جدير بأن يثبت نظرته في كتابه في التاريخ الذي هو "من نتائج حياة عظماء الامتين العربية والبربرية" حسب تعبير الشيخ مبارك نفسه.
ولا بأس ان نثبت هنا رسالة لم يسبق ان نشرت وردت الى الشيخ مبارك من شيخه وصهره الشيخ محمد الميلي مؤرخة في 24 جويلية 1928 جاء فيها ما نصه:
الحمد لله.
ابننا العزيز. السلام عليك ورحمة الله.
أما بعد فقد وصلني من ادارة الشهاب الجزء الاول من كتاب تاريخ الجزائر. فلما سرحت فيه الطرف الفيته فوق ما يرام وقلت فيه بحق ما قاله الاستاذ باديس، وابتهجت به ابتهاجا قلبيا خصوصيا زيادة على الابتهاج العام، لأن لي ان شاء الله من الثواب عليه قسطا. بارك الله فيكم وأعانكم على اتمامه بمنه وكرمه، والسلام عليكم.
من والدكم محمد الميلي
ان كلا من تقييم ابن باديس للجزء الاول من التاريخ الذي تجدر الاشارة الى انه كان مخصصا لفترة ما قبل الاسلام- وتقييم مبارك الميلي لذلك التقييم، ورسالة الشيخ محمد بن معنصر الميلي، كل
ذلك يؤكد المكانة التي كان يعطيها نخبة من مثقفي العربية للتاريخ في حركة النهضة الوطنية خلال العشرينات.
ذلك ان التاريخ كان أحد الاركان الثلاث التي اعتمدها الاستعمار لفرنسة الجزائر الى جنب محاربة الاسلام والقضاء على اللغة العربية. فقد اراد الاستعمار ان يخضع تاريخ الجزائر كما اخضع ارضها، واراد ان يلغي الخصائص الوطنية للتاريخ، كما حاول ان ينكر خصائصها الجغرافية عندما اعتبر ذلك ان البحر الابيض المتوسط يشق ارض فرنسا كما يشق السين مدينة باريس.
وهذا ما جعل الاهتمام الفرذسي بتاريخ لجزائر يتركز على عصور ما قبل التاريخ، وعلى العهد الروماني والحقبة الفرنسية واهمال العصور الاسلامية التي اعتبرها غوتي "عصورا مظلمة".
وعبر المؤرخ الفرنسي المعروف- ستيفان غزيل- الذي تخصص في دراسة التاريخ القديم لنطقة المغرب العربي- على التوجيه الذي يحرك الدراسات عندما كتب يقول: ان التاريخ يحدد لنا ايضا واجباتنا: فعلينا ان نتسلح بإرادة لا تقهر في ان نكون اسيادا والى الابد، كما ان هناك ضرورة تتمثل في اقامة استعمار يعتمد على استيطان ريفي اوروبي ضخم، وضرورة تقريب الاهالي منا على اساس الرغبة الصارمة والامل في ان يتحقق انصهارهم في مستقبل قريب أو بعيد. فالتاريخ اذن لا يعتبر في أفريقية اقل العلوم جدوى.
وشيئا فشيئا، اعيد تشكيل ماضي الجزائر بما يتلاءم مع هذا الهدف، حتى اصبحت "فرنسة" الجزائر هي الاصل واعتبر عهدها الاسلامي، اقتطاعا تعسفيا لهذا "الجزء من الغرب" الذي الحق بالمشرق مع الفتح العربي، حسب تعبير مارسي. بل هناك من المؤرخين الجغرافيين الفرنسيين من لم يتردد في انكار ان يكون لهذه المنطقة تاريخ: فهذا غوتيي يقول متحدثا عن المغرب العربي: "هذه بلاد ليس لها اسم معروف عالميا، مما اضطر الى اعطائها اسما
ما: ذلك انه ليس لها وجود سياسي متميز، وبناء على ذلك لم يكتب تاريخها"
وهكذا أريد ربط الجزائر (بوصفها قلب المغرب العربي، اذ يمكن عبرها التاثير على مجموع الشمال الأفريقي) بالتاريخ الفرنسي خاصة والتاريخ اللاتيني بصورة عامة. يقول لوى بيرتران في كتابه "دماء الجذور".
ما ان يضعف الشرق، حتى تسقط أفريقيا الشمالية في الفوضى التي لازمتها منذ الولادة أو تخضع للهيمنة اللاتينية التي وفرت لها قرونا من الازدهار، والتي اعطتها، لأول مرة، شبه وحدة، كما زودتها بشخصية سياسية وثقافية. (يقصد فرنسية طبعا).
ان العربي لم يقدم لها الا البؤس والفوضى والهمجية. ان كل شيء قد اتاها من الخارج من سوريا، من فارس من اليونان من بيزنطا، ومن البلاد اللاتينية على الخصوص.
من هنا نتبين ان المعركة التي دارت منذ العشرينات حول التاريخ الوطني، كانت من اشد المعارك ضراوة.
ذلك ان المنظرين الاستعماريين في مسعاهم الى فرنسة الانسان بعد الارض، وجدوا ان تزييف التاريخ وحده لا يكفي وانه لابد من اكماله بمسعى معمق على واجهتين اثنتين: تجهيل الجزائريين وحرمانهم من تعلم اللغة العربية بوصفها اداة اساسية في الاطلاع على التاريخ الاسلامي والتفاعل مع نبضه الحضاري، وفي نفس الوقت السعي الى تجريدهم من الاسلام وتمسيح من يمكن تمسيحه منهم.
وفي اطار هذا المسعى المزدوج والمتكامل لا بأس بالابقاء على شكليات وطقوس دينية تفرغ من روحها، وتجعل الانسان الجزائري عاجزا عن مغالبة المشروع الثقافي الاستعماري الذي يقوم على الثالوث المشار اليه: تحريف التاريخ، التجهيل باللغة العربية، افراغ الدين من مضمونه الحضاري وقوته الروحية.
وقد مرت عملية تزييف التاريخ الوطني الجزائري من طرف المنظرين الاستعماريين بعدة مراحل يمكن اجمالها فيما يلي:
اولا: محاربة اللغة العربية وتوسيع مجالات الامية. ولا يخفى ان انتشار الامية بالاضافة الى التفقير يهدد بالقضاء على انسانية الانسان فضلا عن ان تبقى لديه تعلقا بتاريخ او تعزز لديه روح البحث عن الجذور.
ثانيا: بعد تجفيف منابع الثقافة الوطنية وانسداد ابواب التعلم في وجه الجزائريين يمكن ان يسمح لهم بقدر محدود من تعلم اللغة الفرنسية التي يضطر الى دخولها بعد عزوفه عنها ومعارضة لها، فيقبل بها بوصفها اهون الشرين وكونها تمثل شيئا هو خير من لا شيء.
ثالثا: السعي من خلال ذلك التعليم الفرنسي المحدود الى تحقير التاريخ الوطني. فمدارس التعليم المخصصة "للأهالي" لم تكن تستنكف من اللجوء الى الاسفاف الظاهر عندما يتعلق بتدريس مادة التاريخ الجزائري، بل واستعمال الكذب المفضوح.
فقد كانت تلك البرامج في بعض العهود تقدم سقوط الجزائر في 1830 امام الغزو الفرنسي في صورة مهينة خلاصتها ان سكان الجزائر العاصمة باعوا الجزائر للفرنسيين في مقابل قصعة زلابية .. وكان الكتاب الذي يهين التاريخ الوطني هذه الاهانة يشتمل على رسم توضيحي يمثل مجموعة من الجزائريين وقد شكلوا حلقة حول قصعة زلابية يتنافسون على أكل ما فيها ..
فليس مثل تحقير الجدود وتشويه أعمالهم دفعا للأحفاد على التنصل من تاريخهم والبحث عن هوية جديدة.
رابعاً: بعد ذلك كله تتهيأ الظروف الملائمة لوضع تاريخ جديد للجزائر يتماشى والمنظور الإستعماري.
فالمسألة لا تتعلق بايجاد قراءة جديدة للتاريخ، بل صياغة جديدة تبرزه في ثوب لا علاقة له بما كان معروفا حتى ذلك العهد.
وتظهر طبيعة هذه المرحلة في نوعين من المحاولات بكمل أحدهما الآخر يتلخص النوع الأول في التأكيد على أن المغرب العربي، كان
قبل ظهور الإسلام مسيحي الروح، لاتيني الثقافة.
وعلى هذا الأساس ظهر المسعى الذي عرف بتحقيق "انبعاث أفريقيا اللاتينية" وهكذا ظهرت مجلة تحمل عنوان "لفريقيا اللاتينية" كانت تصدر في الجزائر وتحاول ابراز "الهوية الغربية اللاتينية المسيحية للعالم البربري" وقد امتدت هذه المحاولة الى المغرب الأقصى حيث استخلصت بعض الأوساط المسيحية أن سكانه يمكن بسهولة تحويلهم الى مسيحيين لأن بساطة أخلاقهم تقربهم من المسيحية، كما جاء في كتاب أوزج كولير الذي يحمل عنوان "بحث في فكر البربري المغربي".
أما النوع الثاني من محاولات هذه المرحلة، فيتمثل بتسليط كل ما يمكن من أضواء على العهد الروماني وابرازه في صورة العهد المشرق النير، وكذلك العهد الفرنسي. أماما بينهما وهو العهد الإسلامي على الخصوص- فيتم تعتيمه ويعتبر عصورا مظلمة، كما سبقت الإشارة الى ذلك. وبهذا العمل المزدوج، عبر هذه المرحلة الرابعة، تصبح العهود الإسلامية مجرد جملة اعتراضية في أسفار تاريخ المنطقة التي تبدأ والحالة هذه بعهود روما التي تمسحت وتنتهي بفرنسا "البنت الكبرى للكنيسة".
إذا نحن استحضرنا أهم دعائم وأهداف المشروع الإستعماري وخاصة ما يتصل منه بالثقافة الوطنية، أدركنا الدور الذي يؤديه تجديد العناية بالتاريخ الوطني، والمغزى العميق الذي يكتسبه ظهور كتاب باللغة العربية عن تاريخ الجزائر في عام 1928.
ويؤكد هذه الأهمية، أن مؤلف ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ، لم تخف عليه هذه الحقائق، فهو يؤكد في المدخل الذي جعل عنوانه "مقدمات" ما يلي:
"فإن التاريخ مرآة الغابر ومرقاة الحاضر. فهو دليل وجود الأمم وديوان عزها ومبعث شعورها وسبيل اتحادها وسلم رقيها. متى درسه أبناء أمه واحاط أخيرا بأدواره شبابها، عرفوا وجودهم فلم تبتلع قوميتهم القوميات الحية النهمة المجاورة لهم، وأدركوا ما
لماضيهم من المجد وما لأسلافهم من الشرف، فلم يقبلوا تنقيص المنقصين وعبث المدلسين وقدح المغرضين، وشعروا بعز السيادة ولذة الحياة، فانفوا من سيطرة المستبدين ولم يخضعوا لذل المستعبدين .... "
فالهدف الوطني المتوخى من الكتاب واضح عنده. فهو يرى أن العناية بالتاريخ تضمن اعادة ربط الشعب بمساره، وبعث اعزازه بماضيه دون تمجيد أعمى، كما يرى ضرورة اعطاء الأولوية في الدراسات التاريخية، للتاريخ الوطني على التاريخ الفرنسي.
ويتعرض الشيخ مبارك في "مقدمات" كتابه لهذه الأهداف، عندما يتناول الموضوع من زاوية واجب المثقف الجزائري إزاء التاريخ. فقد كتب تحت عنوان فرعي هو "المتعلمون الجزائريون والتاريخ". يستعرض وينقد المثقفين سواء منهم الذين تعلموا الفرنسية أو الذين تخرجوا من المعاهد التقليدية للتعليم العربية- الإسلامي.
فهو يقول منددا بالقطيعة بين كل اصناف المنعلمين الجزائريين وتاريخم: "إن المتعلمين اليوم من أبناء الجزائر قطعوا الصلة بينهم وبين ماضيهم فجهلوا ما فيه عن عز وذل ونعيم وبؤس ومدنية وهمجية وسيادة وعبودية.
ثم يحلل المسار الذي أدى الى تجهيل المتعلم الجزائري، بتاريخه. فعن خريجي المدارس الفرنسية يقول: "ترى المتعلم بالمدارس يعرف من تاريخ بعض الأمم الأجنبية وما يجدر به أن العلم مثله من تاريخ شعبه ولا يحسن منه تقديمه عليه فكيف بالإقتصار عليه والإكتفاء به؟
إن النسبة بين التاريخين: الشعبي والأجنبي، مثل النسبة بين الضروري والكمالي، إنما يحصل له هذا المثل إذا جاء بعد الضروري فإن سبقه لم يكن كماليا وكان ضرره اكثر من نفعه.
ومن مضار تقديم تاريخ الأمة الأجنبية قصر الكمال والسيادة عليها وحصر المعارف والحضارة فيها وذلك تزهيد للمتعلم في وطنه وتنفير له من بني جنسه.
ولقد بلغت الحال ببعض هؤلاء المتعلمين أن صار ينظر الي جنسه نظر المؤرخ الى ما قبل التاريخ. فإذا دار الحديث على الشعوب وقسطها من الحياة وافضى الى قومه رأيته- من جهله بتاريخهم- يستدل على حياة الماضين بحياة الموجودين ويستنتج من ذلك أن لا حضارة للأوائل إنما هم قوم عاشوا في الهمجية وسقوط الأخلاق بعيدين عن نظم الحياة وفقه طبيعة الكون وسنن العمران، ويرى انه اعتمد في هذا الحكم القاسي الجائر على أعدل شاهد: قياس الغائب على الشاهد وانه لقياس فاسد وماذا عسى أن تبلغ قيمة قياس دعامته الجهل؟
ثم قد يترقى في حكمه ويلحق المستقبل بالماضي فيقضي على مستقبل أمته بالشقاوة والتعاسة ويرى أن داءها عياء لا يوجد له دواء وربما طلب لها من الأدوية ما هو عين الداء.
ومن الواضح أن في هذه الفترة تلميحا مفهوما الى بعض النتائج التي تترتب على المشروع الثقافي الإستعماري في ما يتعلق بالتجهيل بالتاريخ الوطني وتعميمه، والتي تتمثل في الميل إلى الإدماج باعتباره علاجا وحيدا في حين أنه "عين الداء".
أما المعربون خريجو المعاهد العربية- الإسلامية فقد انتقدهم بلجهة تساوي في قساوتها اللهجة التي انتقد بها المفرنسين، إذ يقول فيهم ما يلي: "وهناك متعلمون تعلموا بالمساجد مبادئ بعض العلوم اللسانية والدينية واهملوا من برامج قرآتهم التاريخية فإذا فارقوا المساجد وقدر لبعضهم أن يحيا حياة علمية، الفيته يقتصر على مراجعة ما درسه من الكتب، وأن دعت الهمة احدهم الى التوسع ففي الفنون التي اخذ مبادئها بالمسجد.
فرطوا بذلك في قراءة علم يعود على اخلاقهم بالتهذيب وعلى عقولهم بالتدريب على التفكير، ذلك علم التاريخ وتلك فوائده.
وان منهم لقوم يخربون عقولهم بأيديهم ويطفئون نور الله- العقل- بأفواههم، ذلك باشتغالهم بقراءة كتب المناقب والخوارق وانها لكتب سيئة الأثر في النفوس.
ثم يقول: فلو اشتغل هؤلاء القوم- بدل هذه الكتب سيكتب تاريخ البشر وحياة الأمم لاناروا عقولهم واطلقوها من ذلك السجن تكتشف من خبايا الأيام وخفايا الطبيعة وما يعود على الإنسانية عامة وبني جنسهم خاصة بالفوائد الجليلة.
إن النفس الوطني في كتاب ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ واضح، فنحن نشمه ونعز عليه في كل ابواب الكتاب، بما فيها الباب الذي خصصه لجغرافية الجزائر الطبعية.
ففي الفقرة الثامنة من هذا الباب- وهي التي تحمل عنوان "الغابات والنباتات الطبيعية" يقول على الاخص:
"ليس في استطاعه احد ان يحصي نباتات الوطن الجزائري. ولكنها على كثرة اصنافها، وعظم فوائدها، لا ينتفع بها الجزائريون إلا انتفاعا بسيطا.
فلو علموا خصائصها واحيوا علم الكيمياء لخدموا الطب خدمات جليلة، وكان لهم البقاء في الميدان الإقتصادي. وليس هذا بالأمر الوحيد الذي فرط فيه شعبنا. فمتى ينتبهون من هذه النومة التي كاد أمرها يجاوز أمد نومه القبر؛ فيتلافون ما فرطوا فيه ويجدون فيما تكاسلوا عنه".
وإذا كان القارئ قد استخلص من هذه الفقرة نتيجة يأس مطلق، فإن الشيخ مبارك يسارع في الفقرة الموالية الى تأكيد الإيمان بالمستقبل، رغم حاضر مظلم، فيقول:
"لا يمكن أي أحد أن يتكهن باليوم الذي تبعث فيه الأمة الجزائرية من مرقدها، فإن المستقبل لله وحده، ولكن لا نيأس من هذا اليوم الميمون فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ويختم باب الجغرافية الطبيعية بجملة لا تحتاج الى تعليق، هي قوله:
"بل كون وطنه (أي الجزائري) بتلك الدرجة من الحسن مما يزيد في حسرته، ويحمله على تدارك هفوته الى التفكير في غده وبناء صرح سعادته بيده".
لقد صدر الجزء الأول من هذا الكتاب، في صيف 1928، أي قبل عامين من احتفال الفرنسيين بمرور قرن على الإحتلال، ومعنى ذلك أن العمل من أجل إيقاظ الروح الوطنية قد بدأ قبل الصدمة التي أحدثتها تلك الإحتفالات الصاخبة. فالقراءة المتمعنة لهذا الكتاب تكشف عن بدايات مشروع ثقافي وطني لإحباط المشروع الإستعماري في المجال الثقافي الذي أشرنا اليه، فالشيخ مبارك، ينص في أكثر من مكان، على كل ما من شأنه أن يوحد الشعب، ويقضي على عناصر التفرقة. فهو يعتز، في الجزء الأول المخصص للفترة السابقة على دخول الإسلام، بشخصيات أمازيغية مثل ماسنيسا ويوغرطا وتاكفاريناس. بل أنه، هو العالم المسلم، يشيد بشخصية مثل "الكاهنة" مدفوعا بروح وطنية لم ينل منها حماسه للإسلام وتدينه الشديد، فهو يقول عن الكاهنة، رغم انها حاربت المسلمين.
"
…
وكل من ينظر الى التاريخ بعين الحقيقة يراها دُرَّةَ في جيد تاريخ المرأة لما كانت عليه من حسن التدبير وشدة البأس وصدق الدفاع عن الوطن والثبات على المبدأ".
لأن المسعى الذي اعتمده رجال الإصلاح الديني في مجال التاريخ لم يكن يضع تاريخ الجزائر قبل الإسلام موضع تعارض مع تاريخ الجزائر الإسلامية، بحيث ينفي احدهما الآخر. لأن هذا المسعى يعتبر ظهور الإسلام بداية تحول عميق في جميع الميادين، سياسيا وثقافيا واجتماعيا انصهرت به المجتمعات الأمازيغية، من حضر وبدو في الإسلام عقيدة وثقافة وممارسات.
فالشيخ مبارك الميلى مثلا، الذي ينسب نفسه الى بني هلال لم يكن يرى أي حرج في أن يطلق على الدول التي أسستها أسر وقبائل بربرية في العهد الإسلامي، عنوان "العصر البربري" لأن الممالك والإمارات التي قامت بالمغرب العربي على سواعد قبائل بربرية، لم تقم على أساس عرقي، ولم تكن تمردا على الإسلام، بل كانت تستمد تبريرها من المذاهب الإسلامية: فالدولة الرستمية والعبيدية
والادريسية أو المرابطية كانت كلها محاولات لتجسيم مباديء حكم وفلسفة ونظام، نادت بها مذاهب اسلامية نشات بالمشرق.
بل أن الدعوة الموحدية التي ظهرت على يد بربري أصيل هو "ابن تومرت" كانت محاولة للجمع بين ما جاء من القول بعصمة الإمام المفدي، مثلما كانت من بعض الوجوه محاولة لتطبيق بعض تعاليم الغزالي ضد التفريقات الفقهية الجامدة.
إن تحليل تناول الشيخ مبارك للتاريخ الجزائري، يكشف عن مسعى وطني واضح من أجل توظيف التاريخ في إيقاظ الشعور القومي، وفي خدمة مفهوم للوطن ومشروع للثقافة لا يمكن إلا أن يكون متناقضا مع استمرار الإستعمار.
ويمكن أن نتبين مقصد الشيخ مبارك من أول صفحة في كتابه وهي التي تتضمن كلمة الإهداء. فهو يهديه الى "الشعب الجزائري" والى "شبابه المفكر ورجاله العاملين والمخلصين" ويعلل سبب الإهداء للشعب بأن الشعوب اصبحت تعرف اليوم "أن إرادة الحاكم إنما تتقوى من جبنهم وجمودهم، وأن الإرادة الحقيقية التي بيدها رفع مستوى الأمم هي إرادة الشعوب".
وهو نفسه، عندما يناقش أطروحة بعض المؤرخين الإستعماريين الذين يريدون ربط ماضي الجزائر بأوروبا تمهيدا لفرنستها، يقول عنه أنه يريد أن (يمزق الجنس البربري كل ممزق ويفرقه شذر مذر ويوزعه على أمم أوروبية بالخصوص يركي تذهب وحدته، ويسهل على البلعوم الأوروبي ابتلاعه .. وتلك امنية يحلم بها بعض مرضى العقول من السياسيين، ولكن لن يلج الجنس في جنس آخر حتى يلج الجمل في سم الخياط" (أي انه يجعل الإدماج مستحيلا استحالة دخول الجمل في ثقب الإبرة).
وبعد أن العمل الذي قام به الشيخ مبارك الميلي في تأليفه لهذا الكتاب، بتلك الروح والإعزاز بكل الماضي قد أدى خدمة كبيرة الى المسعى الوطني العام من أجل اعطاء مضمون حي لفكرة الوطن
الجزائري الذي تكون عبر التاريخ. ذلك المسعى الذي انتصر في النهاية على المسعى الإستعماري الذي أراد أن يتجاهل التكامل بين عهد ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام، وحاول أن ينكر عمق التغيير الذي أحدثه الإسلام وحضارته العربية اللسان.
أن الشيخ مبارك الميلى في أخذه بالمفهوم الوطني ودفاعه عن وحدة التاريخ الجزائري كان أكثر تجاوبا مع منطق التاريخ وأنفذ إلى حقائق الأشياء من أولئك المنظرين الإستعماريين الذين كانوا يحلمون باجترار الماضي اللاتينى، وتكريس الحاضر الفرنسي، والذين كانوا يتصورون أنه في إمكانهم تذويب كيان عريق التاريخ، إسلامي الروح، عربي اللسان.
محمد الميلي