الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسطنطينية. فأدركه شيعة أخيه بطبرقة، وجاؤوا به اليه فاودعه السجن. فعجل جلدون أيام نحسه وانتحر بعدما ملك اثنى عشر عاما.
بعد انتحار جلدون وجهت رومة الى قرطاجنة واليا ليحوز لها أملاك جلدون وأبيه من أراض وأموال وذخائر. وكانت كثيرة جدا خصص لادارتها نائب خاص.
هكذا انتهت حياة جلدون، أما مسيزال فانه أعاد أفريقية تحت السيادة الرومانية. ثم توجه الى ميلان بايطاليا طمعا في ان يعطى منصب أخيه جلدون جزاء انتقامه من جنسه لقتل ولديه وخدماته للرومان. ولكن وزير هنوريوس لم يجازه جزاء العاملين المخلصين بل جزاء الخائنين السافلين فقتله غريقا في الماء وهو ينظر اليه. وقد أصاب هذا الوزير في قتل مسيزال وجه الصواب في خدمة دولته. فانه لو منح هذا البربري مطلوبه لسلك سبيل جلدون. بل انه سبق جلدون الى كراهية الرومان اذ كان في صف أخيه فرموس.
22 - سقوط حكومة الرومان بالجزائر
ابتدأت علاقة الرومان بالجزائر منذ سنة (213 ق. م) على عهد صيفاقس وتعرفوا بالتراب الجزائري منذ سنة (104) بعد يوغورطة. وتصرفوا في التراب النوميدي منذ سنة (46 ق. م) بعد يوبا الاول. وتم لهم الاستيلاء على الوطن الجزائري سنة (42م) بعد بطليموس. فكانت المدة بين ابتداء علاقتهم بالجزائر واستيلائهم عليها خمسا وخمسين ومائتين من السنين.
وفي سنة (430) انهدم سلطانهم على ايدي الوندال، فكانت مدة حكومتهم بالجزائر ثمانية وثمانين وثلاثمائة من السنين.
ولم تكن هذه المدة- على طولها- كافية لتثبيت قدم حكومة الرومان بالجزائر. فان البربر ما انفكوا خلال هذه المدة يعربون عن
كراهيتهم للرومان بالقول والفعل. فمن أقوالهم المأثورة في ذلك: "نقبل رومة في أفريقية بشرط ان تضيفنا اليها" ومن أفعالهم كثرة ثوراتهم التي لم تنحسم مادتها من عصر تقفاريناص الى عصر جلدون.
وقد ظلت جهات محافظة على استقلالها وسط الحكومة الرومانية وهي جبال أوراس وجرجرة ووانشريس، وقد كانت هذه الجهات هي مادة تلقيح الحركة الاستقلالية. ومن وصايا بعض السياسيين الرومانيين:"لا تتم طاعة أية أمة ما دامت حولها أمم غير مطيعة. وإذا أردت ان تحمل أمة على الاستعباد فانزع من بين عينيها منظر الحرية".
وقد عد بعض المؤرخين من الاغلاط الرومانية تركهم لهذه الجهات استقلالها. وعندي ان هذا يعد من الرومان عجزا لا غلطا. فانهم ما كانوا ليمنوا على البربر بمساواتهم لهم في الحقوق فكيف يتركون لبعضهم استقلالهم لو وجدوا الى ذلك سبيلا؟
وإذا بحثت عن علة سقوط حكومة الرومان بالجزائر فلن تجد لذلك غير ضعف الحاكم ونفور المحكوم منه.
اما ضعف الحاكم فهو ضعف مادي وأدبي. وأما نفور المحكوم فبعضه ناشئ من الطبيعة البربرية وبعضه من معاملة الرومان. ونحن الآن نوضح هذه النقط بايجاز:
أ- ضعف الرومان المادي: ظهر هذا الضعف في السلطة المركزية والجندية والعمران.
1 -
اما السلطة المركزية فقد كانت تنتابها بين آونة وأخرى - علاوة على الحروب الخارجية- الفتن الداخلية الناشئة من تنافس العظماء على عرش الامبراطورية. وامتاز عصر ما بين سنتي (192 - 270) بتداخل الجنود في اسناد الامبراطورية لمن وافق هواهم حتى عرف بعصر الفوضى. وبلغ من التلاعب بها أن انتقل مركز
السلطة من رومة الى قرطاجنة سنة (237) على عهد غرديانس الاكبر، وبقي سرير الملك شاغرا بعد سنة (251) مدة عامين.
وفي عصر ديوقلطيانس بلغ من عجز السلطة المركزية أن قسمت الممالك الرومانية أربعة أقسام على رأس كل قسم متصرف مطلق.
وما زال سرير الامبراطورية يطفو ويرسب حتى جلس عليه ولنتنياس الثالث سنة (423) وكان غلاما ابن ست سنوات، فقامت أمه مقامه. وكان بونيفاس واليا عاما بأفريقية حاذقا في ادارته مخلصا لدولته. وله منافس يدعى ايتيوس، وهو قائد عام. فأوغر عليه صدر بلاصيدية أم الامبراطور الصبي، وروج عليها انه عازم على الاستقلال، وقال لها: ارسلي اليه ليحضر لديك، فان امتنع فتلك آية صدقي. وأرسل اليه أن الامبراطورة تريد قتلك. فلما أرسلت اليه لم يحضر، واذ ذاك ايقنت صدق ايتيوس، فعزلته سنة (427) فرفض عزلها. ووجهت اليه الجنود، فهزمها. ودخل الوالي والامبراطورة في حرب، ولما خشي الغلب راسل الوندال في الاعانة على أن يمنحهم من وادي مساغا الى آخر ما يملك الرومان بالشمال الأفريقي غربا. فصادف ذلك هوى في نفوس الوندال ولبوا مسرعين.
2 -
واما الجندية فأخذ شأنها يضعف منذ امبراطورية سبتموس سويرس اذ أذن للجنود المرابطة على الحدود بالاقامة مع أزواجهم خارج المراكز الرباطية بصفة مستمرة، حتى أصبحت تلك المراكز اما مختزنات للسلاح والمؤن واما ساحات لتمرين الجند.
وفي سنة (237) انتصب غرديانس الاكبر امبراطورا بقرطاجنة باعانة الفرقة الثالثة. فلما انتصر عليه مكسمينوس انتقم منها. قال مرسي: "وربما قضى عليها لمساعدتها غرديانس".
وكما كان لبعض الاباطرة يد في ضعف القوة العسكرية بالجزائر كان للزمان أيضا يد في ذلك. فان الجنود بطول اقامتها في هذا الوطن ومنح الاراضي لها عشقت الحياة الفلاحية، وأصبحت تنافس الاغنياء في تعمير الحقول وتشييد القصور، فابتعدت بذلك عن الصفات الجندية.
3 -
واما العمران فقد كان لضعفه سببان: أحدهما تطلع الاعضاء البلديين لمجلس الشيوخ، وبعد تسنمهم لذلك المنصب تقل عنايتهم بالشؤون البلدية، ويعفون من الاداء على أملاكهم الواسعة. وثانيهما النزاع الواقع بين المذاهب المسيحية. وقد مر ان من المسيحيين طائفة كانت تجوب البوادي لنسف العمران واعدام الطبقة المثرية من البلاد.
ب- واما ضعف الرومان الادبي فذلك انهم وجدوا بالجزائر أرضا طيبة التربة ويدا ناشطة في العمل، فاستغلوهما جميعا. وبلغوا بهما أقصى درجات البذخ والنعيم، فانغمسوا في الملاهي والملذات، حتى ان الديانة المسيحية- على ما فيها من تهذيب للنفوس وتزهيد في الدنيا- لم تصدهم عن ذلك وقد حدث أسقف قرطاجنة القديس قبريان (248 - 258) عن أكثر أساقفة عصره بانهم كانوا سراقا منهمكين في اللذائذ مرابين الى غير ذلك من الصفات الذميمة. وقد جاهد القديس اغسطين في تقويم الاخلاق جهادا أكبر ولكن الامر قد أدبر وفساد الاخلاق عم وانتشر فلم يكن لكلامه بالنفوس كبير أثر وإذا ذهبت أخلاف أمة فبشرها بالزوال
إِنَّمَا الْأُمَمُ الْأَخْلَاقُ مَا بَقِيَتْ
…
فَإِنْ هُمُو ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا
ج- واما نفور البربر الطبيعي فان هذا الجنس سقيت طينته بماء الحرية وعجنت بيد الشدة وجفت بريح الثورة، فليس في وسعه