الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال: لا أعلم شيئاً يدفعه.
وبهذا القول، قال إسحاق، والظاهرية، وانتصر له ابن حزم.
واستدلوا بهذا الحديث الذي جاء في قصة المخزومية، وجعلوا حديث "لا قطع على خائن " مخصصا بغير خائن العارية لحديث الباب.
والمعنى الموجود في السارق موجود مثله في جاحد العارية، بل. الأخير أعظم، لأنه لا يمكن التحرز منه.
والمعُيِرُ مُحْسِن، والجاحد ير يد قطع الإحسان والمعروف بين الناس، فهو مسيء من جهات.
تنبيه:
بإجماع العلماء أن الغاصب والمختلس والمنتهب لا يقطعون، وليس ذلك لأنهم غير مجرمين أو مفسدين، بل هم آثمون ويجب عليهم التعزير، وقد يكون تعزيرهم بليغاً ويجب عليهم ردّ ما أخذوه.
وإنما لم يقطعوا، لما نقلناه في أول الباب عن القاضي عياض ولِحكَمٍ أيضاً، لا يعلمها إلا الذي شرع للناس، ما يصلح حالهم.
بَابُ حد الخمْر
للخمر- في اللغةَ ثلاثة معان:
1-
الستر والتغطية، ومنه: اختمرت المرأة إذا غطت رأسها ووجهها بالخمار.
2-
والمخالطة: ومنه قول كثير عزة:
هنيئا مريئا غير داء مخامر....... أي: مخالط.
3-
والإدراك، ومنه قولهم: خمرت العجين (1) وهو أن تتركه حتى يبلغ وقت إداكه.
فمن هذه المعانيْ الثلاثة أخذ اسم الخمرة، لأنها تُغطى العقل وتستره، ولأنها تخالط العقل، ولأنها تترك حتى تدرك وتستوى.
وتعريفها- شرعاً: أنها اسم لكل ما خامر العقل وغطَاه من أي نوع من
الأشربة لحديث "كل مسكر خمر وكل خمر حرام".
(1) لا يزال هذا اللفظ مستعملا لهذا المعنى- اهـ- شارح.
وهو محرم بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
أما الكتاب، فقوله تعالى:{يَا آُيَّهَا الذِينَ آمَنُوا إنَمَا الْخمر وَالْميسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْس مِنْ عَمَل الشيطَانِ فَاجَتَنِبُوهُ لعلَّكم تفلحون} فقرنه مع عبادة الأصنام، التي هي الشرك الأكبر بالله تعالى.
وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها ما رواه مسلم:"كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" وأجمعت الأمة على تحريمها.
حكمة تحريمها التشريعية: لا يحتمل المقام هنا ذكر ما علمناه ووقفنا عليه من المفاسد، التي تجرها وتسببها ويكفيك قوله تعالى:{إنَّمَا يُريدُ الشيطَانُ أنْ يُوقِعَ بَينَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ في الخَمْرِ وَالميسِرِ وَيَصُدَّ كم عَنْ ذِكْرِ الله وَعَن الصلاةِ فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون؟} فذكر أنه سبب في كل شر، وعائق عن كل خير.
وقال صلى الله عليه وسلم: " الخمر أم الخبائث " فجعلها أما وأساسا لكل شر وخُبْثٍ.
أما مضرتها الدينية، والأخلاقية، والعقلية، فهي مما لا يحتاج إلى بيان وتفصيل.
وأما مضرتها البدنية، فقد أجمع عليها الأطباء لأنهم وجدوها سببا في كثير من الأمراض الخطيرة المستعصية.
لهذا حرمها الشارع الحكيم، وإنَ ما تجره هذه الجريمة المنكرة من المفاسد والشرور ليطول عَدُّه، ويصعب حَصْرُه.
ولو لم يكن فيها إلا ذهاب العقل لكفى سببا للتحريم فكيف يشرب المرء تلك الآثَمة التي تزيل عقله، فيكون بحال يضحك منها الصبيان، ويتصرف تصرف المجانين.
فَدَاء هذا بعض أمراضه، كيف يرضاه عاقل لنفسه؟!
ولِعظَمِ خطرها، وكثرة ضررها، حاربتها الحكومات في (الولايات المتحدة) وغيرها.
ولكن كثيرا من الناس لا يعقلون، فتجدهم يتهافتون عليها، فيذْهِبُونَ بها عقولهم، وأديانهم، وأعراضهم، وأموالهم، وشيمتهم، وصحتهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون
الحديث الثالث والخمسون بعد الثلاثمائة
عن أنسَ بْنِ مَالِك رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صَلَّي الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أتي بِرَجُلِ قدْ شَرِبَ الَخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَريِدِةٍ نَحْوَ أربعين.
قالَ: وَفَعَلَهُ أبُو بَكْر، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، اسْتَشَارَ النَّاسَ، فقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ:" أخَفُّ الُحْدُودِ، ثَماَنُونَ ". فَأمَرَ به عمر رضي الله عنه (1) .
(1) قال عبد الحق في جمعه بين الصحيحين: لم يخرج البخاري مشورة عمر ولا فتوى عبد الرحمن بن عوف.
المعنى الإجمالي:
شرب رجل الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فجلده بجريدة من سعف النخل نحو أربعين جلدة.
وجلد أبو بكر رضي الله عنه شارب خمر في خلافته مثل جلد النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما جاءت خلافة عمر، وكثرت الفتوحات، واختلط المسلمون بغيرهم، كثر شربهم لها.
فاستشار علماء الصحابة في الحد الذي يطبقه عليهم ليردعهم كعادته في الأمور الهامة، والمسائل الاجتهادية.
فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله مثل أخف الحدود، ثمانين. وهو حد القاذف، فجعله عمر ثمانين جلدة.
ما يستفاد من الحديث:
1-
ثبوت الحد في الخمر، وهو مذهب عامة العلماء.
2-
أن حده على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نحو أربعين جلدة، وتبعه أبو بكر على هذا.
3-
أن عمر- بعد استشارة الصحابة- جعله ثمانين.
4-
الاجتهاد في المسائل ومشاورة العلماء عليها، وهذا دأب أهل الحق وطالبي الصواب.
أما الاستبداد، فعمل المعجبين بأنفسهم، المتكبرين الذين لا يريدون الحقائق.
اختلاق العلماء:
اختلف العلماء في حد الخمر: هل هو ثمانون جلدة، أو أربعون، وما بين الأربعين والثمانيِن يكون من باب التعزير إن رأى الحاكم الزيادة وإلا اقتصر على الأربعين؟.
ذهب الأئمة أحمد، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، ومن تبعهم من العلماء: إلى أن الحد ثمانون، ودليلهم على ذلك إجماع الصحابة، لما استشارهم عمر فقال عبد الرحمن بن عوف:(اجعله كأخف الحدود ثمانين) فجعله.
وذهب الشافعي إلى أن الحد أربعون، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها جملة من أصحابه، منهم أبو بكر، وشيخ الإسلام (ابن تيميةَ) و (ابن القيم) وشيخنا (عبد الرحمن بن سعدى) رحمهم الله تعالى.
قال شيخ الإسلام (ابن تيميه) فيما نقل عنه في الاختيارات:
(والصحيح في حد الخمر إحدى الروايتين الموافقة لمذهب الشافعي وغيره أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه) .
وقال في المغنى (ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النبي ِ، وأبي بكر وعليّ، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزيز، يجوز فعلها إذا رآه الإمام) .
ويقصد بهذا، الرد على من قال: إن الثمانين كانت بإجماع من الصحابة.
وقد أجمعت الأمة على أن الشارب إذا سكر بأي نوع من الأنواع المسكرة، فعليه الحد، وأجمعت أيضا على أنه من شرب عصير العنب المتخمر، فعليه الحد، ولو لم يسكر شاربه.
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف: إلى أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، من أي نوع من أنواع المسكرات، ويستوي أن تكون من عصير العنب، أو التمر، أو الحنطة، أو الشعير، أو غير ذلك. وهو مروى عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وسعد بن أبى وقاص، وأبي بن كعب، وأنس، وعائشة رضى الله عنهم.
وبه قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، والقاسم بن محمد، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز.
وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أحمد، والشافعي، ومالك، وأتباعهم، وذهب إليه أبو ثور، وإسحاق.
وأما أهل الكوفة فيرون أن الأشربة المسكرة من غير عصير العنب لا يحد شاربها ما لم تبلغ حد الإسكار.
أما مع الإسكار فقد تقدم أن الإجماع على إقامة الحد.
وليس لهؤلاء من الأدلة إلا أن اسم الخمر حقيقة لا يطلق- عندهم- إلا على عصير العنب أما غيره فيلحق به مجازا.
واستدلوا على مذهبهم بأحاديث.
قال العلماء- ومنهم الأثرم، وابن المنذر: إنها معلولة ضعيفة.
وأما أدلة جماهير الأمة، على أن كل مسكر خمر، يحرم قليله وكثيره. فمن الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة، واللغة الفصيحة.
فأما الكتاب، فعمم تحريم الخمر، ونهى عنه.
والخمر: - ما خامر العقل وغطاه من أي نوع.
وأما السنة فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " وقال صلى الله عليه وسلم " ما أسكر كثيره فقليله حرام " رواه أبو داود والأثرم.