الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ الوَقف
قال ابن فارس في [مقاييس اللغة] : الواو والقاف والفاء، أصل يدل على تمكث ثم يقاس عليه. ثم قال: ولا يقال: أوقف.
قلت: ومن أصل التمكث يؤخذ الوقف الشرعي فإنه ماكث الأصل.
وتعريفه شرعاً: حبس مالكٍ مالَهُ المنتفع به مع بقاء عينه عن التصرفات برقبته، وتسبيل منفعته على شيء من أنواع القُرب ابتغاء وجه الله تعالى.
وحكمه: الاستحباب. وقد ثبت بالسنة، لأحاديث كثيرة.
منهاِ حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثلاثٍ، صدقة جارية.. الخ ".
وإجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين على جوازه ولزومه.
قال الشافعي: ولم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته. وإنما حبس أهل الإسلام وهذا إشارة إلى أنه حقيقة شرعية.
وقال الترمذي: " لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافاً في جواز وقف الأرضين " إلا أنه نقل عن شريح القاضي أنه أنكر الْحُبُسَ.
ومثل هذا لا يعطى حكم الوقف من اللزوم والثواب والفضل والأحكام.
وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه.
قال جابر بن عبد الله: " لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا مقدرة، إلا وقف ".
وبهذا يعلم إجماع القرن المفضل عليه، فلا يلتفت إلى خلاف بعدَه.
أما فضله، فهو من أفضل الصدقات التي حث الله عليها، ووعد عليها، بالثواب الجزيل، لأنه صدقة ثابتة دائمة في وجوه الخير.
وقد ورد في فضله آثار خاصة، لحديث عمر، وخالد، وعمل الصحابة رضى الله عنهم أجمعين.
وهذه الأحاديث الواردة في أصله وفضله.
وهذا الفضل الجزيل المترتب عليه، هو إذا كان وقفاً شرعياً حقيقياً واقعاً في موقعه، مقصوداً به وجه الله تعالى، موجهة مصارفه إلى وجوه القرب وأبواب البر والإحسان، من بناء المساجد والمدارس النافعة، والمشاريع الخيرية وصرفه إلى أهله من ذوى القرب والرحم، والفقراء والمساكين، والعاجزين، والمنقطعين، ومساعدة أهل الخير والصلاح، ونحو ذلك.
أما أن يحجر على أولاده وورثته باسم الوقف حتى لا يبيعوه، أو تكثر عليه الديون فيقف عقارَه خشية أن يباع لأصحاب الحقوق، أو يقفه على أولاده، فيحرم بعضهم ويحابى بعضهم، كأن يجعل نصيب البنات لهن ما دمن على قيد الحياة، أو يفضل بعض الأولاد على بعض لغير قصد صحيح أو يقفه على جهة من الجهات التي لا بِر فيها ولا قربة، ونحو ذلك. فهذا كله ليس بوقف صحيح، بل هو تحجير باسم الوقف.
وبهذا يدخل في أبواب الظلم، بدلا من أبواب البر، لأنه ليس على مراد الله، وكل ما أحدث في غير أمر الله فهو رد. أي مردود.
وبما تقدم تعرف الحكمة الجليلة من الوقف، فهو إحسان إلى الموقوف عليهم وبِرّ بهم، وهم أولى الناس بالبر والإحسان، وذلك إما لحاجتهم كالفقراء والأيتام والأرامل والمنقطعين، أو للحاجة إليهم كالمجاهدين والمعلمين والمتعلمين والعاملين- تبرعاً- في خدمة الصالح العام.
وفيه إحسان كبير وبِرّ عظيم للواقف إذ يتصدق بهذه الصدقة المؤبدة التي يجرى عليه ثوابها بعد انقطاع أعماله وانتهاء آماله، بخروجه من دنياه إلى أخراه.
الحديث الأول (1)
عَنْ عَبْدِ الله بنٍ عُمَرَ قال: أصاب عُمَرُ أرضا بِخَيْبَرَ فأتى النَبي صَلًى الله عَلَيْهِ ومسَلّمَ يَسْتَأمِرُهُ فِيهاَ، فقال: يَا رَسَوُلَ الله، إني أصبت أرْضاً بِخَيْبَرَ لَمْ أصِبْ مَالا قَط هُوَ أنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ فَماَ تَأمُرُني بِهِ؟
قال: " إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أصْلَهَا وَتَصَدقْتَ بِهَا ".
قال: فَتَصَدقَ بِهَا عُمَرُ، غَيْرَ أنَهُ لا يُباعُ أصلُهَا وَلا يُورَث.
قال: فَتَصَدقَ بهَا عُمَرُ في الفُقَرَاء، وفي القُربَى، وَفي الرقَابِ، وَفي سَبيلِ الله، وَابن السبيلِ، وَالضيفِ، لا جُنَاح عَلَى مَن وَلِيَهَا أن يَأكلَ مِنْهَا بالمعرُوفِ، أوْ يُطْعِمَ صَدِيقاً، غيرَ مُتَمَول فِيهِ. وفي. لفظ: غيْرَ مُتَأثل.
الغريب:
أرضا بخيبر: بلاد شمالي المدينة تبعد عنها 160كم لا تزال عامرة بالمزارع والسكان، وكانت مسكنا لليهود حتى فتحها النبي صلى الله عليه وسلم عام سبع فأقرهم على فلاحتها حتى أجلاهم عمر في خلافته. وأرض عمر هذه، اسمها " تَمغ " بفتح فسكون اشتراها من أرض خيبر.
يستأمره: يستشيره في التصرف بها.
(1) رقم هذا الحديث حسب ترتيب المصنف [279] أخرجناه لنضمه إلى الأحاديث المناسبة له.
قط: ظرف زمان للماضي، مشدد الطاء، مبنى على الضم:
أنفس منه: يعني أجود منه، والنفيس: الشيء الكريم الجيد المغتبط به.
لا جناح: لا حرج ولا إثم.
غرِ متمول، غير متأثل: المتمول: اتخاذ المال أخذا أكثر من حاجته. و" التأثل " اتخاذ أصل المال وجمعه حتى كأنه قديم عنده.
المعنى الإجمالي:
أصاب عمر بن الخطاب رضى الله عنه أرضا بخيبر، قدرها مائة سهم، هي أغلى أمواله عنده، لطيبها وجودتها: كانوا- رضى الله عنهم- يتسابقون إلى الباقيات الصالحات.
- فجاء رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم طمعاً في البر المذكور في قوله تعالى: {لَنْ تَنَالوا البِرً حَتًى تُنْفِقُوا مِمًا تُحِبونَ} - يستشيره في صفة الصدقة بها لوجه الله تعالى. لثقته بكمال نصحه.
فأشار عليه بأحسن طرق الصدقات، وذلك بأن يحبس أصلها ويقفه فلا يتصرف به ببيع، أو إهداء، أو إرث أو غير ذلك من أنواع التصرفات، التي من شأنها أن تنقل الملك، أو تكون سببا في نقله، ويصدق بها في الفقراء والمساكين، وفى الأقارب والأرحام، وأن يَفُكً منها الرقاب بالعتق من الرق، أو بتسليم الديات عن المستوجبين، وأن يساعد بها المجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمته ونصر دينه، وأن يطعم المسافر الذي انقطعت به نفقته في غير بلده، ويطعم منها الضيف أيضا، فإكرام الضيف من الإيمان بالله تعالى.
بما أنها في حاجة إلى من يقوم عليها ويتعاهدها بالري والإصلاح، فقد رفع الحرج والإثم عمن وليها أن يأكل منها بالمعروف، فيأكل ما يحتاجه، ويطعم منها صديقا غير متخذ منها مالا زائدا عن حاجته، فهي لم تجعل إلا للإنفاق في طرق الخير والإحسان، لا للتمول والثراء.
ما يستفاد من الحديث:
1-
يؤخذ من قوله: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" معنى الوقف الذي هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
2-
يؤخذ من قوله: "غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث" حكم التصرف في الوقفة، فإنه لا يجوز نقل الملك فيه، ولا التصرف الذي يسبب نقل الملك، بل يظل باقيا لازما، يعمل به حسب شرط الواقف الذي لا حيف فيه ولا جنف.
3-
مكان الوقف، وأنه العين التي تبقى بعد الانتفاع بها.
فأما ما يذهب بالانتفاع به، فهو صدقة، وليس له موضوع الوقف ولا حكمه.
4-
يؤخذ من قوله: "فتصدق بها عمر في الفقراء.. الخ" مصرف الوقف الشرعي، وأنه الذي يكون في وجوه البر والإحسان العام أو الخاص، كقرابة الإنسان. وفك الرقاب، والجهاد في سبيل الله، والضيف، والفقراء، والمساكين وبناء المدارس والملاجئ والمستشفيات ونحو ذلك.
5-
يؤخذ من قوله: " لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف" صحة شرط الواقف الشروط التي لا تنافى مقتضى الوقف وغايته، والتي ليس فيها إثم ولا ظلم.
فمثل هذه الشروط لا بأس بها لأن للواقف فيها منفعة بلا جور على أحد. فإذا شرطت مثل هذه الشروط نفذت، ولولا أنها تنفذ، لم يكن في اشتراط عمر فائدة.
6-
في قوله: " لا جناح على من وليها.. الخ" جواز أكل ناظر الوقف منه بالمعروف بحيث يأكل قدر كفايته وحاجته، غير متخذ منه مالا، وكذلك له أن يطعم منه الصديق بالمعروف.
7-
فيه فضيلة الوقف، وأنه من الصدقات الجارية والإحسان المستمر.
8-
وفيه أن الأفضل أن يكون من أطيب المال وأنفسه، طمعاً في بر الله وإحسانه الذي جعله للذين ينفقون مما يحبون.
9-
وفيه مشاورة ذوى الفضل. وهم أهل الدين والعلم، وكل عمل له أرباب يعلمونه.
10-
وفيه أن الواجب على المستشار أن ينصح بما يراه الأفضل والأحسن، فالدين النصيحة.
11-
وفيه فضيلة الإحسان والبر بذوي الأرحام، فإن الصدقة عليهم، صدقة وصلة.
12-
يؤخذ من الحديث أن الشروط في الوقف لابد أن تكون صحيحة على مقتضى الشرع؛ فلا تكون مما يخالف مقتضى الوقف من البر والإحسان، ومن العدل والبعد عن الجور والجنف والظلم.
ونسوق هنا خلاصة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك فقد ذكر حديث عائشة " من نذر أن يطع الله فليطعه
…
" وحديث بريدة " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل
…
والمسلمون على شروطهم
…
" ثم قال:
من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة اً والبيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر أو غير ذلك شروطا تخالف ما كتبه الله على عباده، بحيث
تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عنه، أو النهي عما أمر الله به، أو تحليل ما حرمه، أو تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود، الوقف وغيره، ولكن تنازعوا في العقود والمباحات كالبيع والإجارة والنكاح هل معنى الحديث من اشترط شرطاً لم يثبت أنه خالف فيه الشرع، أو من اشترط شرطاً يعلم أنه مخالفا لما شرعه الله.
هذا فيه تنازع، لأن قوله آخر الحديث " كتاب الله أحق وشرط الله أوثق " يدل على أن الشرط الباطل ما خالف ذلك.
وقوله: " من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل " قد يفهم منه ما ليس بمشروع، وصاحب القول الأول يقول: ما لم ينه عنه من المباحات فهو ما أذن فيه فيكون مشروعاً بكتاب الله، وأما ما كان من العقود التي يقصد بها الطاعات كالنذر، فلا بد أن يكون المنذور طاعة، فمتى كان مباحا لم يجب الوفاء به.
ثم تحدث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن البدعة، وبين أنها جميعاً مذمومة في الشرع، وبين أن ما فعل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من جمع المصحف، وجمع الناس على قارئ واحد في قيام رمضان، وطرد اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ليس بدعة، وإنما هو شرعة، لأن أقل ما يقال فيه أنه من سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
وعقب على ذلك بقوله: وبالجملة فلا خلاف بين العلماء أن من وقف على صلاة أو صيام أو نحو ذلك من غير الشرعي لم يصح وقفه والخلاف في المباحات. وهذا أصل عظيم وهو التفريق بين المباح الذي يفعل لأنه مباح وبين ما يتخذ دينا وعبادة وطاعة وقربة، فمن جعل ما ليس مشروعا دينا وقربة، كان ذلك حراما باتفاق المسلمين.
ثم قال رحمه الله تعالى: القسم الثالث عمل مباح مستوى الطرفين فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به، والجمهور من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أن شرطه باطل، فلا يصح عندهم أن يشرط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى، وذلك لأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما له فيه منفعة في الدين والدنيا، فما دام الإنسان حياً فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة، - لأنه ينتفع بذلك، فأما الميت فما بقي بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو أعان عليه أو أهدى إليه ونحو ذلك، فأما الأعمال التي ليست طاعة لله ورسوله فلا ينتفع بها الميت فإذا اشترط الموصي أو الواقف عملا أو صفة لا ثواب فيها كان السعي في تحصيلها سعياً فيما لا ينتفع به في دنياه ولا في آخرته، ومثل هذا لا يجوز.
اختلاف العلماء:
شذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله فأجاز بيع الوقف ورجوع الواقف فيه.
ومذهبه مخالف لنص الحديث ولذا قال صاحبه أبو يوسف: لو بلغ أبا حنيفة هذا الحديث (حديث عمر) لقال به، ورجع عن بيع الوقف.
وقال القرطبي: الرجوع في الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه.
وذهب مالك والشافعي: إلى لزوم الوقف وعدم جوازه وصحة بيعه بحال، أخذاً بعموم الحديث " غير أنه لا يباع أصلها. الخ ".
وذهب الإمام أحمد إلى قول وسط، وهو أنه لا يجوز بيعه ولا الاستبدال به إلا أن تتعطل منافعه بالكلية، ولم يمكن الانتفاع به، ولا تعميره وإصلاحه،
فإن تعطلت منافعه، جاز بيعه واستبداله بغيره. استدل على ذلك بفعل عمر حينما بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب.
فكتب إلى سعد: " أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصلى".
وكان هذا العمل بمشهد من الصحابة، فلم يُنْكَر. فهو كالإجماع.
وشبهه بالهَدْىِ الذي يعطب قبل بلوغه مَحله، فإنه يذبح بالحال، وتترك مراعاة المَحِل، لافضائها إلى فوات الانتفاع بالكلية.
قال ابن عقيل رحمة الله: "الوقف مؤبد، فإذا لم يمكن تأبيده على وجه تخصيصه، استبقينا الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، وإيصال الأبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض"
قال شيخ الإسلام " ابن تيميهَ " رحمه الله: "ومع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله، وبلا حاجة يجوز بخير منه، لظهور المصلحة".
وذكر رحمه الله أنه يجوز إبدال الوقف، ولو كان مسجدا بمثله أو خير منه، وكذلك إبدال الهدي والأضحية والمنذور، وذلك بأن يعوض فيها بالبدل، أو تباع ويشترى بثمنها، إلا المساجد الثلاثة فما يجوز تغيير عرصتها وإنما يجوز الزيادة فيها، وإبدال البناء بغيره، كما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة.
وذكر شيخنا عبد الرحمن آل سعدي رحمه الله أنه إذا نقص الموقوف أو قلت منافعه، وكان