الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَاب استقبال القبْلَة
قبلة المسلمين هي الكعبة المشرفة، التي هي عنوان توحيدهم ووحدتهم ومتجه أنظارهم، وملتقى قلوبهم وأرواحهم.
وقد جعل الله هذه الكعبة قياماً للناس، في أحوال دينهم ودنياهم، وأمْناً لهم عند الشدائد، يجدون في ظلها الطمأنينة والأمن والإيمان. وبقاؤها تُحَجُ وتزَارُ هو علامة بقاء الدين وقيامه.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة يستقبل الكعبة وبيت المقدس معاً على المشهور.
فلما هاجر إلى المدينة وفيها اليهود، اقتصر على استقبال بيت المقدس ستة عشر شهراً، وكان يتشوق إلى استقبال الكعبة، أشرف بقعة على الأرض، وأثر أبي الأنبياء وإمام الحنفاء "إبراهيم الخليل" عليه السلام، فصرفت القبلة إلى الكعبة في السنة الثانية للهجرة.
واستقبال القبلة في الصلاة، ثابت في الكتاب والسنة والإجماع.
وهو شرط للصلاة، لا تصح بدونه إلا عند العجز أو للنافلة على الدابة، كما سيأتي في هذه الأحاديث، إن شاء الله تعالى.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْث كَانَ وجْهُهُ، يومئ برأسه، وَكَانَ ابن عُمَرَ يَفعَلُهُ.
وفي رواية: كَانَ يُوتِرُ عَلى بَعِيرِهِ. ولـ " مسلم ": غَيْر أنّهُ لا يُصَلى عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ. وللبخاري " إلا الْفَرَائِضَ ".
غريب الحديث:
1-
"يسبح على ظهر راحلته": التسبيح هنا، يراد به صلاة النافلة، من تسمية الكل باسم البعض. وقد خصت النافلة باسم التسبيح، قال ابن حجر: وذلك عرف شرعي.
2-
"المكتوبة": يعنى الصلوات الخمس المفروضات.
3-
"الراحلة": الناقة التي تصلح لأن ترحل.
المعنى الإجمالي:
الغالب في الشريعة أن صلاة الفريضة وصلاة النافلة تشتركان في الأحكام، وهذا هو الأصل فيهما. فما ورد في إحداهما من حكم، فهو لهما سواء.
ولكنه يوجد بعض الأدلة التي تخص إحداهما بحكم دون الأخرى.
والغالب على هذه االفروق بينهما، تخفيف الأحكام في النافلة دون الفريضة، ومن ذلك، هذا الحديث الذي معنا.
فإنه لما كان المطلوب تكثير نوافل الصلاة والاشتغال بها خفف فيها.
فكان صلى الله عليه وسلم يصليها في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به ولو لم تكن تجاه القبلة ويومىء برأسه إشارة إلى الركوع والسجود.
ولا فرق بين أن تكون نفلا مطلقاً، أو من الرواتب أو من الصلوات ذوات الأسباب.
لهذا كان يصلى على الراحلة آكد النوافل وهو الوتر.
أما الصلوات الخمس المكتوبات فوقوعها قليل لا يشغل المسافر فيها، ويجب الاعتناء بها وتكميلها، فلذا لا تصح على الراحلة إلا عند الضرورة.
أحكام الحديث:
1-
جواز صلاة النافلة في السفر على الراحلة وفعل ابن عمر له أقوى من مجرد الرواية.
2-
ذهب الإمام أحمد وأبو ثور إلى استقبال القبلة حال ابتداء الصلاة، وذلك لحديث أنس من أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجهه ركابه وظاهر الحديث العموم.
3-
عدم جواز الفريضة على الراحلة بلا ضرورة. قال العلماء: لئلا يفوته الاستقبال، فإنه يفوته ذلك وهو راكب.
أما عند الضرورة من خوف أو سَيْل، فيصح، كما صحت به الأحاديث.
4-
أن الإيماء هنا، يقوم مقام الركوع والسجود.
5-
أن قبلة المتنفل على الراحلة، هي الوجهة التي هو متوجه إليها.
6-
أن الوتر ليس بواجب، حيث صلاه عليه الصلاة والسلام، على الراحلة.
7-
أنه كلما احتيجت إلى شيء دخله التيسير والتسهيل.
وهذا من بعض ألطاف الله المتوالية على عباده.
8-
سماحة هذه الشريعة، وترغيب العباد في الازدياد من الطاعات، بتسهيل سبلها. ولله الحمد والمنة.
9-
ذكر الصنعاني أن ألفاظ هذا الحديث مجموعة من عدة روايات في البخاري ومسلم، وأنه ليس في الصحيحين رواية هكذا لفظها.
10-
لا يستدل بهذا الحديث على أن الخفض في السجود أكثر من الركوع، وإنما ذلك في حديث جابر حيث يقول:" جئت وهو يصلى على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع " وقد أخرجه الترمذى وأبو داود.
11-
ذهب جمهور العلماء إلى جواز ترك الاستقبال في السفر الطويل والقصير إلا مالكا فقد خصه بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة ولم يوافقه أحد على ذلك.
الحديث الثاني
عَبْد الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بقُبَاءَ (1) في صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُم آتٍ فقَالَ: إنَّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قدْ أنْزلَ عَلَيْهِ اللَّيلَة قُرْآنٌ، وقدْ أمر أنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبةِ" فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
المعنى الإجمالي:
تقدم أنه لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفيها كثير من اليهود، اقتضت الحكمة الرشيدة أن تكون قبلة النبي صلى الله عليه وسلم قبلة الأنبياء السابقين " بيت المقدس " فصلوا إلى تلك القبلة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً (2) .
(1) قباء. - يجوز فيه المد والقصر وقصره أشهر.
(2)
فيه أقوال أخر غير هذين القولين، ولكنهما أصح تلك الأقوال، لأنهما في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشوق إلى صَرْفِهِ إلى استقبال الكعبة المشرفة. فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ في السمَاء فَلَنُوَليَنكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَ فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسجِد الْحَرَاَم} .
فخرج أحدُ الصحابة إلى مسجد " قُباء " بظاهر المدينة، فوجد أهله لم يبلغهم نسخ القبلة، ويصلون إلى القبلة الأولى، فأخبرهم بصرف القبلة إلى الكعبة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل إليه قرآن في ذلك. يشير إلى الآية السابقة وأنه صلى الله عليه وسلم استقبل الكعبة في الصلاة.
فمن فقههم وسرعة فهمهم وصحته استداروا عن جهة بيت المقدس- قبلتهم الأولى- إلى قبلتهم الثانية، الكعبة المشرفة.
أحكام الحديث:
1-
القبلة: أول الهجرة كانت إلى بيت المقدس، ثم صرفت إلى الكعبة.
2-
أن قبلة المسلمين، استقرت على الكعبة المشرفة. فالواجب استقبال عينها عند مشاهدتها واستقبال جهتها عند البعد عنها.
3-
أن أفضل البقاع، هو بيت الله، لأن القبلة أقرت عليه، ولا يقر هذا النبي العظيم وهذه الأمة المختارة إلا على أفضل الأشياء.
4-
جواز النسخ في الشريعة، خلافا لليهود ومن شايعهم من منكري النسخ.
5-
أن من استقبل جهة في الصلاة، ثم تبين له الخطأ أثناء الصلاة، استدار ولم يقطعها، وما مضى من صلاته صحيح.
6-
أن الحكم لا يلزم المكلف إلا بعد بلوغه، فإن القبلة حُولت، فبعد التحويل وقبل أن يبلغ أهل " قباء " الخبر، صلوا إلى بيت المقدس، فلم يعيدوا صلاتهم.
7-
أن خبر الواحد الثقة -إذا حفتْ به قرائن القبول- يصدق ويعمل به، وإن أبطل ما هو متقرر بطريق العلم.
8-
وفيه أن العمل ولو كثيراً في الصلاة، إذا كان لمصلحتها، مشروع.
9-
وفيه دليل على قبول خبر " الهاتف " و " اللاسلكى " في دخول شهر رمضان أو خروجه، وغير ذلك من الأخبار المتعلقة بالأحكام الشرعية، لأنه وإن كان نقل الخبر من فرد إلى فرد، إلا أنه قد حَفَ به من قرائن الصدق، ما يجعل النفس تطمئن ولا ترتاب في صدق الخبر، ولتجربة المتكررة أيدت ذلك.
10-
قال الطحاوى: في الحديث دليل على أن من لم يعلم بفرض الله تعالى ولم تبلغه الدعوة، فالفرض غير لازم له: والحجة غير قائمة عليه، ا. هـ وزاد الأصوليون أن الفهم شرط التكليف وعن ابن تيمية في مثل هذا قولان أحدهما موافق لما ذكر.
الحديث الثالث
عَنْ أنس بْنِ سِيرينَ قَالَ: اسْتَقْبَلْنَا أنَساً رضي الله عنه حِين قَدِمَ مِن (1) الشامِ، فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التمْرِ، فَرَأيتهُ يُصَلى عَلَى حِمَار وَوَجْهُهُ مِنْ ذا الجَانِبِ- يَعْنى عن يسار القبلة- فَقلْتُ: رأيتك تُصَلِّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَاَلَ: لَوْلا أني رَأيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَلُه مَا فَعَلتُهُ.
المفردات:
أنس بن سيرين: أخو الإمام الكبير والتابعي الشهير محمد بن سيرين.
عين التمر: بلدة على حدود العراق الغربية، يكثر فيها التمر.
المعنى الإجمالي:
قدم أنس بن مالك الشام، ولجلالة قدره وسعة علمه، استقبله أهل الشام.
فذكر الراوي -وهو أحد المستقبلين- أنه رآه يصلى على حمار، وقد جعل القبلة عن يساره.
فسأله عن ذلك، فأخبرهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذالك، وأنه لو لم يره يفعل هذا، لم يفعله.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
الحديث لم يبين صلاة أنس هذه، أفرض هي، أم نفل؟.
ومن المعلوم أنها نفل، لأنه المعهود من فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي رآه أنس وغيره.
2-
أن قبلة المصلى على الراحلة، حيث توجهت به راحلته.
3-
جواز صلاة النافلة على الراحلة، في السفر، ولو حماراً.
(1) هذه رواية االبخاري، ورواية " مسلم " حين قدم الشام، بإسقاط " من " قال القاضي عياض: وقيل إنه وهم وأن الصواب إثباتها كما رواه البخاري، وخالفه النووي وقال: رواية (مسلم) صحيحة، ومعناها: تلقيناه في رجوعه حين قدم الشام.