الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ الذكر عَقب الصَّلاة
للدعاء والاستغفار بعد الصلاة، حِكَمٌ عظيمة، وفوائد جليلة من إظهار التقصير والعجز عن إكمالها، وترقيع الخلل الواقع فيها، وعقب الصلاة من مواطن استجابة الدعاء.
كما أنه دليل على الرغبة في الطاعة وعدم الملل، لأن المتعبد كالحالِّ المرتحل بين العبادات، مع مافي الدعاء من زيادة الحسنات، وتكفير السيئات، ورفعة الدرجات.
الحديث الأول
عَنْ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أنَّ رَفْعَ الصوت بالذِّكْرِ حِين يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ- كان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابنُ عبَّاس: كُنْتُ أعْلَمُ إِذَا انصَرَفُوا بِذلك إِذَا سَمِعْتُهُ.
وفي لفظ: "مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقضَاءَ صَلاةِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتَّكبِير" متفق عليه.
المعنى الإجمالي:
يذكر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير وذكر الله تعالى بعد انصرافهم من الصلوات الخمس المفروضة، ولذا فإنه كان يعرف انقضاء صلاتهم برفع أصواتهم به.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
استحباب الذكر بعد الصلاة، لما فيه من الفوائد الجليلة والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
2-
أن يرفع الذاكر صوته بالذكر، لفعله صلى الله عليه وسلم، وفعل أصحابه معه.
3-
يحتمل أن يكون ابن عباس صغيراً لم يحضر الجماعة، فسمع صوتهم بالتهليل وهو خارج المسجد.
ويحتمل أنه يحضر الجماعة، ولكن الصفوف بعيدة، وليس هناك مُبلِّغ، فكان لا يعلم بانقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بسماع التهليل من الصفوف الأوَلى.
الحديث الثاني
عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرةِ بْنِ شُعْبَةَ قال: أمْلَى عَلَىَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ في كِتَاب إِلَى مُعَاوِيَةَ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صلَاةٍ مَكتُوبَةٍ:
" لَا إلهَ إِلَاّ الله وَحدَهُ لَاشَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ ولهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير: الَّلهُمَّ لَامَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِى لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الَجْدُّ ".
ثمَّ وَفَدتُ بَعْدَ ذلِكَ عَلَى مُعاوِيَةَ،. فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذلِكَ.
وفي لفظ " كانَ يَنْهَى عَنْ قِيل وَقَالَ. وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالَ"
وكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأمَّهَاتِ، وَوَأد البَنَاتِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ.
غريب الحديث:
دبر كل صلاة: بضم الدال أو فتحها مع إسكان الباء أي آخرها، والمراد بعد السلام.
مكتوبة: أي مفروضة، والمراد الصلوات الخمس. ومكتوبة قيد للرواية المطلقة.
ولا ينفع ذا الجد منك الجد: الجد- بفتح الجيم- ومعناه، الحظ والغنى. أي لا ينفع صاحبَ الحظ والغنى منك غناه وحظه.
ووأد البنات: دفنهن وهن على قيد الحياة. وكان بعض العرب يفعل ذلك في الجاهلية إما خوفاً من العار، أو الفقر.
ومنع وهات- أي بخل بالمال عن الإنفاق في وجوهه المشروعة وحرص شديد على جمعه.
وعقوق الأمهات: قال في " المحكم " عقِّ والده يعقه عقًّا وعقوقاً، شق طاعته، وقد يعم بلفظ العقوق، جميع الرحم. والمراد صدور ما يتأذى به الوالد من ولده، وذلك بالقول أو الفعل.
عن قيل وقال: الأشهر فتح اللام في " قيل " على الحكاية.
مانع ومعطى- الرواية فيهما الفتح، وحقهما النصب، كحكم المضاف. ولكن خرج على إجراء الشبيه بالمضاف إجراء المفرد.
المعنى الإجمالي:
كتب معاوية بن أبى سفيان إلى المغيرة بن شعبة- وكان أميره على الكوفة- أن اكتب لي بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه المغيرة رضى الله عنهما بهذا الحديث، الذي جمع أنواع التوحيد والثناء على الله، وإثبات التصرف والقهر بيد الله. كما اشتمل على حكم نبوية جليلة.
فذكر المغيرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة- يوحد الله بِنَفْي كل معبود سواه، ويثبت العبادة لله وحده، لأنه الواحد الذي ليس له شريك في ملكه وعبادته، وأسمائه وصفاته، وأن التدبير كله بيده. فلا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، ولا يغني صاحب الحظ، والغنى، حظه وغناه، منه شيئاً.
ثم أخبر المغيرة معاوية رضى الله عنهما، بأنه ينهى عن هذه الخصال الذميمة.
فينهى عن لَغو الحديث، والكلام فيما لا ينفع، وعن إضاعة المال الذي جعله الله قياما للناس في الطرق التي لا تعود بفائدة دينية أو دنيوية، وعن كثرة السؤال لمن عنده من المال مايكفيه. وكذلك التعنت والجدل في المسائل العلمية.
كما ينهى عن عقوق الأمهات، اللاتي يجب بِرُّهُنَّ وإكرامهن، لما لهن من الفضل الكبير.
وعن هذه العادة السيئة التي هي دفن البنات وهن حيَّات، لسوء الظن بالله تعالى، وخشية الفقر إذا شاركنهم في طعامهم.
وهذه عادة تدل على القسوة والشح، وعدم الثقة بالله الرزاق لكافة المخلوقات.
وينهى عن الشح والبخل بما عنده في طرق الخير، والحرص الشديد على جمع المال، والنهي في تحصيله من أي طريق.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
استحباب هذا الدعاء عقب الصلوات المكتوبات.
2-
اشتمل هذا الدعاء على توحيد الله ونَفْى الشريك معه، وإثبات الملك المطلق، والحمد الكامل والقدرة التامة له سبحانه وتعالى، كما أن فيه توحده بالتصرف والقهر، وأن كل شيء بيده، فقد جمع توحيد الألوهية والربوبية، والأسماء والصفات.
3-
النهى عن هذه الخصال الذميمة، لما تشتمل عليه من مفاسد دينية ودنيوية.
4-
إذا عرف المؤمن أن الله هو المعطى المانع، تعلق قلبه بالله تعلقا تاما، وصرف النظر عن غيره.
5-
مسارعة الصحابة رضى الله عنه إلى تنفيذ سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن معاوية رضى الله عنه لما بلغه هذا الدعاء، أمر الناس بالعمل به.
6-
فيه العمل بالحظ المعروف، وهو مسألة اتفاقية في جميع الأغراض وأن الله لم يأمر بالعمل بها إلا ليعمل بها.
7-
قبول خبر الواحد.
8-
النهى عن إضاعة المال، أي إنفاقه في غير الطرق المشروعة، فقد جعل الله الأموال لقيام مصالح الناس، في تبذيرها تفويت لتلك المصالح، وطرق الإنفاق ثلاث، فهناك الإنفاق المذموم هو بذل المال في الأمور المذمومة شرعا سواء أكان قليلا أم كثيرا. والإنفاق المحمود هو بذله في الخير والبر، ما لم يفوت حقا آخر أهم منه، أما الثالث فهو الأنفاق في المباحات وملاذ النفس المباحة، فالجائز أن ينفق كل على قدر حاله بدون إسراف.
الحديث الثالث
عَنْ سُمَىّ مَولى أبى بَكر عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الحارثِ بْنِ هِشَامِ عَنْ أبى صَالِح السَّمّانِ عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضِىَ الله عَنْهُ أنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرينَ أتُوْا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله ذَهَبَ أهْلُ الدُّثور (1) بالدَّرَجَاتِ الْعُلى، و َالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
قَالَ: وَمَا ذَاَكَ؟ قَالُوا: يُصَلّونَ كَما نُصَلِّى، وَيَصُومُونَ كمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ ولا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَفَلَا أعَلِّمُكمْ شَيْئَاً تُدْركونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكْم وَتَسْبِقُونَ مَن بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أحَد أفضَلَ مِنْكُمْ إلَاّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعتُمْ؟ " قَالوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله.
قال: " تُسَبِّحُونَ وَتُكِّبرونَ، وَتَحْمَدُونَ، دُبُرَ (2) كُلِّ صَلَاةٍ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ مَرَّة ".
قال أبو صالح: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ إلَى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالوا: يَا رَسُولَ الله، سَمِعَ إخْوَانُنَا (3) أهْل الأمْوَالِ بِماَ فَعَلنَا فَفَعَلوا مِثْلَهُ. -.
فَقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ".
قَالَ سُمَىّ: فَحَدَّثْتُ بَعْضَ أهْلِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: وَهَمْتَ إِنَّمَا قَالَ: تُسبِّحُ الله ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُ الله ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدُ الله ثَلَاثاً وَثلَاثِينَ.
فَرَجَعْت إٍلى أبي صَالِح فَذَكَرتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: قُلْ: "الله أكْبَرُ وَسُبْحَان الله والْحَمدُ لله، حَتَّى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ ثَلَاثَاً وَثَلاثِينَ " رواه مسلم.
المعنى الإجمالي:
معنى هذا الحديث الجليل هو أن فقراء الصحابة رضى الله عنهم، شعروا بسبق إخوانهم الأغنياء بالأعمال الصالحة، بفضل قيامهم بحقوق أموالهم الشرعية فغبطوهم وتَمَنَوا لو كان لهم من العمل مثل مالأولئك الأغنياء.
فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون مصيبتهم في فقد الأجر، فأرشدهم إلى هذا الذكر، الذي ينالون به أكثر مما فاتهم من العبادات المالية.
لما قاموا- بهذا الذكر، سمعهم الأغنياء ففعلوا مثلهم.
فجاء الفقراء مرة أخرى، يشكون حالهم، بأن الفضيلة التي اختصوا بها وأرادوا أن يعوّضوا بها نقص العبادات المالية فعلها الأغنياء، فأصبحوا يشاركونهم في العبادات القلبية والبدنية، ويمتازون عليهم في العبادات المالية.
(1) الدثور: - جمع " دثر" وهو المال الكثير.
(2)
دبر: ظرف، وثلاثا مصدر. وقد تنازعهما كلمن " تسبحون " و " تكبرون " وتحمدون ".
(3)
من قوله: قال أبو صالح إلى آخر الحديث، لم يذكره البخاري، وقد روى " مسلم " هذه الزيادة مرسلة لم يسندها أبو صالح. لكن جاءت متصلة في " مسلم " مع سائر الحديث من وجه آخر.
فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فهو الذي يقسم الأرزاق والهداية، حسب حكمته، وهو الحكيم العليم.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
رغبة الصحابة رضى الله عنهم الشديدة في الخير، وتنافسهم بالأعمال الصالحة.
فالفقراء، شق عليهم حرمانهم من العبادات المالية، والأغنياء لم يكتفوا بغناهم عن مشاركة الفقراء في كل أبواب الخير. ولعل الله يعطى الفقراء بفضله وكرمه من الأجر على نيتهم الطيبة.
2-
الحديث يدل على فضل الغنى الشاكر على الفقير الصابر، لما له من الأعمال.
وهذه مسألة طويلة الخلاف، بين العلماء.
3-
أن الإنفاق: في سبيل الخير سبب رفع الدرجات. قال ابن القيم: فالغنى إذا اتقى الله في ماله، وأنفقه في وجوهه، وليس مقصورا على الزكاة بل مما حقه اشباع الجائع وكسوة العاري وإغاثة الملهوف، ورعاية المحتاج- والمخطر، فطريقه طريق الغنيمة، وهي فوق السلامة فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر الفقراء على ماللأغنياء من هذه الرفعة بسبب إنفاقهم.
4-
فضل هذا الذكر المذكور في هذا الحديث. حيث كان سبباً في سبق من يقوله في أدبار الصلوات في الثوب، وأنه لا يلحقه أحد، إلا من عمل مثل عمله. لما يحصل لنفسه من تطهير ولأخلاقه من رياضة.
5-
أن الهداية والرزق بيد الله، فهو الذي يقسمها بين عباده، فينبغي أن يرضى بقسمة الله تعالى.
6-
مشروعية هذا الذكر، بعد الصلوات المكتوبات، كما ورد في بعض الروايات تقييده بالمكتوبة، وأن يكون بهذه الصيغة. فالتسبيح يتضمن نفي النقائص عن الله تعالى، ثم التحميد المثبت له الكمال ثم التكبير المثبت له صفات العظمة. واستظهر ابن القيم أن تكون الثلاث والثلاثون من جميع كلمات التسبيح والتحميد والتكبير.
الذكر بعد الصلاة
وهو فقرات من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، قال رحمه الله تعالى: في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن ينصرف يستعيذ ثلاثا، ويقول:" اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباكت ياذا الجلال والإكرام " وفي الصحيح أنه كان يقول: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " ويعلمهم أن يسبحوا ثلاثا وثلاثين، ويحمدوا ثلاثا وثلاثين، ويكبروا ثلاثا وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" ولاريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء، وما سواها من الأذكار قد يكون مكروها، وقد يكون محرما، وقد يكون فيه شرك لا يهتدي إليه أكثر الناس.
والذكر من أفضل العبادات، ولذا قالت عائشة:" الذكر بعد الانصراف من الصلاة هو مثل مسح المرآة بعد صقالها" فإن الصلاة تصقل القلب. وليس الذكر عقب الصلاة بواجب، فمن أراد أن يقوم قبله فلا ينكر عليه، ولكن ينبغي للمأموم ألا يقوم حتى ينصرف الإمام عن القبلة، ولا ينبغي للإمام أن يقعد بعد السلام مستقبل القبلة إلا بمقدار ما يستغفر ثلاثا: ويقول: " اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباكت ياذا الجلال والإكرام " وعد التسبيح بالأصابع سنة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء:" سبحن واعقدن بالأصابع، فإنهن مسؤولات مستنطقات ".