الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما روي من طريق عبد الرحمن، موافق لمعنى الآية، من إفادة التخيير بين الثلاثة.
وما ورد من طريق عبد الله بن معقل، يفيد الترتيب.
لهذا فإن ابن حزم، حكم على رواية عبد الله بالاضطراب، وقال في طريق عبد الرحمن:"هذا أكمل الأحاديث وأبينها".
والذي أرى: أن ما ذهب إليه "أبو محمد" هو أحسن جمع، لأن القصة واحدة. فلا يمكن أن يقع فيها إلا صفة واحدة، فلا يمكن الجمع إلا بهذا؛ ولذا قال ابن حجر: وأقرب ما وقفت عليه من طرق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن شئت فانسك شاة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم".
ورواية مالك في الموطأ "أي ذلك فعلت أجزأ "والله أعلم.
بَابُ حرمَة مَكة
حرمة "مكة" المكرمة مستمدة من هذا البيت المعظم، الذي هو أول بيت وُضِعَ في الأرض لِيَؤمَّه الناس لعبادة الله تعالى كما قال تعِالى {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًىً لِلعَالَمِينَ} . وقد بناه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
ومازال معظماً مكرماً محجوجاً منذ بُنيَ حتى يفسد الزمان، ويذهب الإيمان.
فما دام الدين قائماً فقد جعله الله {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنَاً} .
وقد عظمه العرب في جاهليتهم، وجاءوا إليه من أقطار الجزيرة ومن ورائها، فأكرمهم سدنته وخدامه من قريش ومن قبلهم.
وجاء الإسلام فزاد من تعظيمه وتقديسه - وقد حماه الله من كل مُعْتَدٍ، وأكبر دليل، قصة أصحاب الفيل المشهورة.
والمجاورة فيه من أفضل العبادات لمن رزق الاستقامة، لأن العمل عنده مضاعف إلى مائة ألف ضعف كما أنَّ المعاصي عنده وفيه، مغلظة لحرمة المكان.
رزقنا الله العمل الصالح المرضي وجهه الكريم، وجنَّبَنَا الزَّيْغَ والضلالَ والْمِحَنَ والفتن، ما ظهر منها وما بطن. آمين.
وتقدم في أول الكتاب شيء من حِكَمِ الحج وأسرارِه.
وكون الحج إلى هذا البيت له حِكَم ومناسبات أخرى، منها أن هذا البيت ومناسكه، هي آثار أبي الأنبياء إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهي ذكريات، وأعياد إسلامية دينية.
ومنها أن هذه البقعة هي مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه، ومنها شَعَّ نور الإسلام.
فالمسلمون يجددون بها عهداً وهي عاصمتهم الأولى ومُتَوَجَّه وجوههم ومهوى أفئدتهم.
جمع الله المسلمين على التُّقَى ولَمَّ كلمتهم فيما يُعْلي دينهم، ويرفع شأنهم. آمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
الحديث الأول
عَنْ أبِي شُرَيْحٍ خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرو الْخُزَاعِي الْعَدَوِي رَضيَ الله عَنْة:
أَنهُ قَالَ لِعَمْرِو بْن سَعِيدِ بْنِ الْعَاص – وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِيْ أُيُّهَا الأمِيرُ
أنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلاً قَالَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ
أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأبصَرَتْهُ عَينايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ. أنَّهُ حَمِدَ الله وَأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قالَ:
"إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا الله تعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ
لامْرِئ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً ولا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً. فَإنْ أحَدٌ
تَرَخَّصَ بِقِتَال رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُوْلُوا: إنَّ الله أذِن لِرسُولِهِ وَلَمْ يَأذَنْ
لَكُمْ، وإنِّمَا أذِنَ لِرَسُولِهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرمَتِهَا بالأمْسِ.
فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.
فقيل لأبي شريح: مَا قَالَ لَكَ عَمْروٌ؟ قَالَ: قَالَ أنَا أعْلَمُ بِذلِكَ مِنْكَ يَا أبَا شُرَيْح، إنَ الْحَرَمَ لا يُعِيْذُ عَاصِياً وَلا فَارَّاً بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخَرَبَةٍ.
الخربة: بالخاء المعجمة، والراء المهملة. قيل: الخيانة، وقيل: البلية. وقيل: التهمة.
وأصلها في سرقة الإبل قال الشاعر:
والخارِبُ الِّلصُّ يُحِبُّ الخارِبا
الغريب:
ايذن لي: أصله "إأذن لي" بهمزتين فقلبت الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.
أن يسفك بها دماً: - بكسر الفاء وضمها - قال الهروي:
لا يستعمل السفك إلا في الدم
ساعة من نهار: هي ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر.
لا يعيذ: لا يجير ولا يعصم.
لا يعضد بها شجرة: هو مثل ضرب يضرب - بكسر الضاد ـ ومعناه يقطع.
المعنى الإجمالي:
لما أراد عمرو بن سعيد بن العاص، المعروف بالأشدق، أن يجهز جيشاً إلى مكة المكرمة وهو – يومئذ - أمير ليزيد بن معاوية على المدينة المنورة لقتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، جاءه أبو شريح، خويلد بن عمرو الخزاعي، لينصحه عن ذلك.
ولكون المنصوح كبيراً في نفسه، تلطَّف أبو شريح معه في الخطاب، حكمة منه ورشداً، ليكون أدعى إلى قبول النصيحة وسلامة العاقبة، فاستأذنه ليلقي إليه نصيحة في شأن بعثه الذي هو ساعٍ فيه، وأخبره أنه متأكد من صحة هذا الحديث الذي سيلقيه عليه، وواثق من صدقه إذ قد سمعته أذناه ووعاه قلبه، وأبصرته عيناه حين تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له عمرو بن سعيد في الكلام.
فقال أبو شريح: إن النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة فتح مكة "حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض" فهي عريقة بالتعظيم والتقديس، ولم يحرمها الناس كتحريم الحمى المؤقت والمراعي والمياه، وإنما الله الذي تولَّى تحريمها، ليكون أعظم وأبلغ.
فإذا كان تحريمها قديماً ومن الله "فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر - إن كان يحافظ على إيمانه - أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة.
فإن أحد ترخص بقتالي يوم الفتح، فقولوا: إنك لست كهيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أُذِنَ له ولم يُؤذن لك.
على أنه لم يحل القتال بها دائماً، وإنما هي ساعة من نهار، بقدر تلك الحاجة، وقد عادت حرمتها كما كانت، فليبلغ الشاهد الغائب.
لهذا بلغتك أيها الأمير، لكوني شاهداً هذا الكلام، صبيحة الفتح، وأنت لم تشهده.
فقال الناس لأبي شريح: بماذا أجابك عمرو؟ فقال: أجابني بقوله: " أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارًا بخربة"
وهذه محاولة منه باطلة، فإنه متوجه لقتال من هو أفضل منه وأولى بالخلافة.
وقد سلط عليه عبد الملك بن مروان، فقد قتله غدراً صبراً. وقد هزم جيشه وقتل أميره عليه، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
إفادة العلم وقت الحاجة إليه، وهي مناسباته، لأنه أبلغ.
2-
نصح ولاة الأمور، وأن يكون ذلك بلطف ولين، لأنه أنجح في المقصود.
3-
تأكيد الخبر بما يثبته ويؤيده، من بيان الطرق الوثيقة، التي وصل منها، لكونه سمعه بنفسه، أو تكرر عليه، أو شاهد الحادث، أو نقله عن ثقة، ونحو ذلك.
4-
البداءة بالحمد والثناء على الله تعالى، في الخطب والمخاطبات، والرسائل وغيرها، من الكلام المهم.
5-
تحريم الله لمكة منذ خلق السماوات والأرض، مما يدل على أنها لم تفضل لمناسبات مؤقتة. وإنما هي عريقة أصيلة في التعظيم والتقديس.
أما تحريم إبراهيم عليه السلام، فهو إظهار لتحريم الله.
6-
أن الإيمان الصحيح هو الرادع عن محارم الله وتعدِّي حدوده.
7-
تحريم سفك الدماء في مكة، وظاهره التحريم مطلقاً. ويأتي بحثه إن شاء الله تعالى في الحديث الذي بعد هذا.
8-
تحريم قطع شجرها، ظاهره سواء أن يكون قد نبت بنفسه أو غرسه آدمي. ويأتي بحثه إن شاء الله، في الحديث الذي بعد هذا.
9-
أنه لا يحل لأحد أن يترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقاتل في مكة.
10-
أنها أبيحت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة، لم تبح قبلها، ولن تباح بعدها.
11-
أن النبي فتح مكة عَنْوَةً لقوله" فإن أحد ترخص بقتال رسول الله".
12-
وجوب تبليغ العلم لمن يعلمه، لاسيما عند الحاجة إليه. وهذا ما حمل أبا شريح على نصيحة عمرو بن سعيد.
13-
قال ابن جرير: وفيه دليل على قبول خبر الواحد لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة قد لزمه الإبلاغ.
تنبيه:
بحوث هذا الحديث الخلافية، أخرناها إلى الحديث الذي بعد هذا، لأن معنى الحديثين متقارب.
تنبيه آخر:
قال شيخ الإسلام: ولا يقطع شيء من شجر الحرم ولا من نباته، إلا الإزخر وما غرسه الناس أو زرعوه، فهو لهم.
ثم قال رحمه الله: وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام: كمسجد الصفا، وكمسجد المولد، وغيره، فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة. وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة كجبل حراء فإنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة.
تنبيه ثالث:
حينما هم عمرو بن سعيد بمحاربة عبد الله بن الزبير بأمر من يزيد بن معاوية وجه إليه من المدينة جيشاً بقيادة عمرو بن الزبير ـ أخي عبد الله ـ وكانت بين الأخوين عداوة. فسار الجيش من المدينة، وحينما اقترب من مكة أخرج له عبد الله بن الزبير فرقتين من الجيش المرابط معه في مكة، فصارت الهزيمة على الجيش الأموي، وأسر عمرو بن الزبير، فحبسه أخوه وضربه بالسياط إلى أن مات.
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ
فَتْحِ مَكَّةََ.
"لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلكِنْ جِهَاد وَنِيَّة. وَإذَا اسْتُنْفِرْتُم فَانْفِرُوا".
وقال يوم فتح مكة: " إنَّ هذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ
بحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحدٍ قَبْلِي، ولم يَحِلَّ لِي إلَاّ سَاعَةً مِنْ
نَهَار ـ وهي ساعتي هذه - فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولا
يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إِلَاّ مَنْ عَرَّفَهَا، ولا يُخْتَلَى خَلاهُ"
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ الله إلَاّ الإذْخِرَ فَإنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبيُوتِهِمْ، فَقَال:" إلَاّ الإذْخِرَ".
القين: الحدّاد.
الغريب:
استنفرتم فانفروا: "نفر" خرج بسرعة. يعني إذا طلب خروجكم للحرب بسرعة فاخرجوا كما طلب منكم.
لا يعضد شوكه: العضد: القطع.
لا ينفر صيده: لا يزعج من مكانه ويذعر.
لا يختلى خلاه: "الخلا" بالقصر هو الرطب من الكلأ واختلاؤه قطعه.
الإذخر: يجوز فيه الرفع بدلاً مما قبله، ونصبه لكونه مستثنى بعد النفي.
واختار ابن مالك النصب، لكون الاستثناء وقع متراخياً عن المستثنى منه.
و"الإذخر" نبت أصله ماضٍ في الأرض، وقضبانه دقاق، ورائحته طيبة.
وهو كثير في أرض الحجاز، وكانوا يسقفون به، فيجعلونه تحت الطين، وفوق الخشب ليسد الخلل، فلا يسقط الطين، وكذا يجعلونه في القبور.
لقينهم: بفتح القاف وسكون الياء، بعدها نون: هو الحداد، وحاجته لها، ليوقد بها النار.
المعنى الإجمالي:
بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، ودعا أهلها إلى الإسلام، فآمن به قليل منم فآذاهم المشركون في مكة فوسَّع الله لهم بالهجرة منها إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر معه أصحابه، وصارت الهجرة وَاجَبة منها، لأن المسلم لا يتمكن أن يظهر فيها إسلامه.
فلما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم وصارت بلدة إسلامية، انقطعت الهجرة منها، لأنه زال موجبها، وبقي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، ونصر دينه قائماً، إلي يوم القيامة، باللسان، والسلاح، والنية الصالحة، بإخلاص الأعمال لله تعالى.
ثم ذكر صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الجهاد، وجوب الخروج بسرعة ونشاط إذا استنفرهم وَلِيُّ الأمر للقتال.
ثم ذكر تحريم الله تعالى لمكة، أنه قديم بقدم خلق السماوات والأرض.
لأن الله هو الذي حرمها، ومن تلك المدة فهي حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل فيها القتال تأسِّياً بقتال النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
فقد أحلت له خاصة، ساعة من نهار، ثم رجعت حرمتها إليها مطلقاً إلى يوم القيامة.
ثم ذكر أن حرمة هذا البيت، شملت ما حوله من شجر، فلا يقطع، ومن صيد فلا يزعج وَيُنفَّر من مكانه، فما بالك بقتله؟ كما حرَّم لقطة الحرم إلا من أخذها لِيُعَرِّفها دائماً.
فلما حرم النبي صلى الله عليه وسلم قطع النبات، قال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فهم في حاجة إليه لتسقيف بيوتهم وسَدِّ خلل قبورهم، وَإيقاد نيرانهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر، فإنه مباح.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
انقطاع الهجرة من مكة إلى غيرها، لأنها ـ ولله الحمد- بلاد إسلامية.
أما الهجرة من غيرها، فهي باقية، من كل بلد لا يقيم الإنسان فيه دينه.
2-
أن الجهاد باقٍ، واجب عند وجوده، ونيته عند عدمه.
وكذلك النية الصالحة، ركن أساسي في قبول الأعمال، وعليها المدار.
3-
قوله "وإذا استنفرتم فانفروا" أي: إذا طلبتم للجهاد فأجيبوا ففيه وجوب النفر من المسلم إذا طلبه الإمام لقتال عدو، إما بتنفير عام، أو تعيين. فمن عَيَّنه الإمام، خرج.
4-
تحريم القتال في مكة، فلا يحل لأحد إلى يوم القيامة.
5-
أن حلها للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة من خصائصه، وأنها أحلت له ساعة، ثم عادت حرمتها كما كانت منذ خلقت السماوات والأرض.
6-
تحريم قطع الشوك في حَرَمِهَا، وتحريم قطع الشجر الذي ليس فيه شوك من باب أولى، وكذلك الكلأ.
7-
تحريم تنفير صيده، وحبسه وقتله أشد حرمة بطريق الأولى. والصيد، هو الحيوان المأكول، المتوحش أصلاً.
8-
تحريم أخذ اللقطة فيها، إلا لمن أخذها لِيُعَرِّفها دائماً.
9-
استثناء "الإذخر" من الكلأ، للحاجة الشديدة إليه. فيجوز أخذه رطباً أو يابساً.
10-
أن بعض السُنَّة، تكون بفهم يلقيه الله على نبيه صلى الله عليه وسلم.
كما قال تعالى: {وأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذكْرَ لِتُبيِّنَ لِلنَاسِ ما نُزِّل إلَيْهِمْ} .
11-
أن الفصل اليسير الذي لا يُعَدُّ قاطعاً للكلام، لا يضر بين المستثنى والمستثنى منه.
12-
أن مكة فتحها النبي صلى الله عليه وسلم عَنْوَةً، ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم وَكَلَئِهِ الْبَرِّيِّ الذي لم ينبته الآدمي.
كما أجمعوا على إباحة أخذ "الإذخر" وما أنبته الآدمي، من الزروع والبقول، أخذاً بالأحاديث الصحيحة المتقدمة وغيرها.
واختلفوا في قطع الشجر الذي أنبته الآدمي، فالجمهور على جواز قطعه، كالزرع الذي ينبته الآدمي.
وذهب الشافعية إلى تحريمه، أخذاً بعموم الحديث، ومال الشيخ "الموفق ابن قدامة" في "المغني" إلى هذا.
واختلفوا في جواز قتل من وجب عليه القتل فلجأ إلى الحرم.
فذهب إلى تحريمه جمهور التابعين، والإمام أبو حنيفة، وأصحابه من الفقهاء، والإمام أحمد، وبعض المحدِّثين وقالوا: يعالج حتى يخرج منه من وجب عليه حَدُّ القتل في غيره ثمَّ لجأ إليه.
وذهب مالك، والشافعي: إلى أنه يستوفى منه الْحَدُّ في الحرم.
ودليل مالك، والشافعي، ومن تبعهم، عمومات النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان. وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل وهو معلق بأستار الكعبة، وقاسوه أيضاً على من أتى في الحرم بما يوجب القتل.
واستدل الأولون بمثل قوله تعالى: {ومَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنَاً} ، {أوَ لَمُ نُمكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِنَاً} ونحوهما من الآيات، ولو لم يكن للتخصيص فائدة، لما ذكر.
وأجابوا عن أدلة المعارضين، بأنَّ العمومات لا تتناوله، لأن لفظها لا يدل عليه، لا بالوضع، ولا بالتضمن، فهو مطلق بالنسبة إليها.
ولو فرض تناولها له، لكانت مخصصة بالأدلة الواردة في وضع إقامة الحد فيه؟ لئلا يبطل موجبها.
أما قتل "ابن خطل" فليس فيه دليل لأنه قتل في الساعة التي أحل فيها الحرم للنبي عليه الصلاة والسلام.
وأما قياسه على من فعل ما يوجب القتل في الحرم، فلا يستقيم، لأن الجاني فيه هتك حرمته، وحرمة الله تعالى، فهما مفسدتان، ولو لم يقم الحد على الجناة فيه، لَعَمَّ الفساد، وعظم الشر في حرم الله.
بخلاف الذي أتى ما يوجب القتل خارجه، فذنبه أخف كثيراً، وهو - بلجوئه إلى الحرم – كالتائب من الذنب، النادم على فعله، فلا يناسب حاجته.
قال ابن حجر في "فتح الباري" فأما القتل، فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها، وخص الخلاف بمن قتل في الحل، ثم لجأ إلى الحرم.
وممن نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر.
قلت: نصر ابن حزم في "المحلى" أن القصاص وأنواع الحدود، لا تقام في الحرم مطلقاً.
وقال: من أتى فيه بما يوجب القتل والحد، فليُخْرَج، ثم يقام عليه.
ونقل عمومات عن بعض الصحابة، ظاهرها معه.
واختلفوا: هل فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة صلحاً أو عنوة؟.
ذهب الأكثرون من العلماء – ومنهم الإمامان أبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه ـ إلى أنها عنوة.
وذهب الشافعي إلى أنها فتحت صلحاً، واستدلوا على ذلك بأنها لو فتحت عَنْوَةً لقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الغانمين كـ"خيبر" ولملك الغانمون دورها، وكانوا أحق بها من أهلها، ولو كانت عنوة لم يؤمِّن أهلها.
واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أحلها ليِ ساعة من نهار".
وبقوله: " فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لك".
واستدلوا أيضاً، بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها في حالة حرب وتعبئة.
فقد جعل للجيش ميمنة، وميسرةً، ومقدمة، ومؤخرة، وَقَلْباً، ودخلها، وعلى رأسه المغفر غير محرم، وحصل القتال بين خالد بن الوليد وبينهم، حتى قتل منهم جماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم للأنصار: "أترون أوباش قريش وأتباعهم، احصدوهم حصداً" حتى قال أبو سفيان: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم.
فقال: "من أغلق بابه فهو آمن" وغير ذلك من الأدلة الواضحة الصحيحة.
وأجابوا عن أدلة المعارضين:
فأما كونه لم يقسِّم أرضها بين الغانمين، فلأن الأرض غير داخلة في الغنائم التي تقسم، وهذا عمل الخلفاء الراشدين في الأرض العنوة التي يأخذونها، لا يقسمونها، وإنما يجعلونها فيئاً على المسلمين أولهم وآخرهم.
على أن النبي صلى الله عليه وسلم مَنَّ على أهل مكة، فَأمَّنَهمْ، ومِنْ تأمينهم، ترك ما بأيديهم.
مع أن هناك خلافاً بين العلماء: هل تملك رباع مكة ودورها؟.
وقد رجح كثير من العلماء عدم تملكها. وقالوا: إنه يستوي فيها المسلمون كالمساجد.
وأما تأمينه أهلها، فبعد القتال مَنَّ عليهم بذلك لكونهم جيران بيت الله تعالى. وبعد أن رأوا أن لا طاقة لهم في القتال طلبوا الأمان، فأجابهم لطفاً بهم ورحمة.