الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ الاستِسقَاء
هو لغة: طلبك السقيا لنفسك أو لغيرك.
وشرعا: طلبها من الله تعالى عند حصول الجدب على وجه مخصوص.
صلاة الاستسقاء من ذوات الأسباب التي تشرع عند وجود سببها كالكسوف، وصلاة الجنازة.
وسببها: تضرر الناس بالقحط من انقطاع الأمطار، أو تغَوُّر الآبار، أو جفاف الأنهار.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بن عَاصِم المَازنيِّ قال: خَرَج النبي صلى الله يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلى القِبلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَين جَهَرَ فِيهِمَا بالقِرَاءَةِ، وفي لفظ: أتَى المُصَلَّى (1) .
المعنى الإجمالي:
لما أجدبت الأرض في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، خرج بالناس إلى الصحراء، ليطلب السقيا من الله تعالى.
فتوجه إلى القبلة، مظنة قبول الدعاء، وأخذ يدعو الله أن يغيث المسلمين، ويزيل ما بهم من قحط.
وتفاؤلا بتحول حالهم من الجدب إلى الخصب، ومن الضيق إلى السعة، حوَّل رداءه من جانب إلى آخر، ثم صلى بهم صلاة الاستسقاء ركعتين، جهر فيهما بالقراءة لأنها صلاة جامعة.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
مشروعية صلاة الاستسقاء، وأجمع العلماء على استحبابها اٍلا أبا حنيفة فإنه يرى أن الاستسقاء يشرع بمجرد الدعاء، وخالفه أصحابه.
2-
أنه يشرع لها خطبة، تشتمل على ما يناسب الحال، من الاستغفار، والتضرع، والدعاء، والزجر عن المظالم والأمر بالتوبة.
3-
أن تكون الخطبة قبل الصلاة، وقد ورد في بعض الأحاديث.
ففي مسند الإمام أحمد أنه يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وهو مذهب جمهور العلماء من الشافعية والحنابلة وغيرهم.
(1) هذا من أفراد البخاري. كما قاله النووي في شرح مسلم.
وعن الإمام أحمد في ذلك ثلاث روايات:
أ- تقديم الصلاة. ب- عكسها. جـ- وجواز الأمرين.
4-
استقبال القبلة عند الدعاء، لأنها مظنة الإجابة.
5-
مشروعية تحويل الرداء أثناء الدعاء، تفاؤلاً بتحول حالهم من القحط والجدب إلى الرخاء والخصب.
6-
الجهر في صلاة الاستسقاء بالقراءة، وهذا شأن كل صلاة تكون جامعة، كالجمعة، والعيدين، والكسوف.
7-
أن تكون صلاتها في الصحراء، لتتسع للناس، وليبرزوا بضعفهم، وعجزهم أمام الله تعالى، مادِّين يدَ الافتقار والذلِّ.
الحديث الثاني
عَن أنس بن مَالِك: أنَّ رَجُلا دَخَلَ المَسْجِدَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَاِئمٌ يَخطبُ.
فاستقْبَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَاِئماَ ثمَّ قَال: يَا رسُولَ الله، هَلَكَتِ الأموَالُ وَانقَطعتِ السُّبُلُ فادع الله يُغِثْنَا.
قال: فَرَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثمَّ قَالَ: " اللهُمَّ أًغِثنا، الّلهُمَّ أغِثنا، اللهُم أغثنا ".
قال أنس: فَلَا وَالله مَا نَرَى في السمَاءِ مِنْ سَحَاب وَلَا قزَعةٍ وَمَا بيننَا وَبَين سَلع مِنْ بَبْتِ وَلَا دَارٍ.
قال: فَطَلَعَت مِنْ وَرَاَئِهِ سَحَابَة مِثلُ التُّرس، فَلمَّا تَوَسطَتِ السمَاءَ، انتشرَتْ ثُمَّ أمطَرَتْ.
قَال: فَلا والله مَا رأينا الشمسَ سَبْتاَ.
قال: ثم دَخَلَ رَجل مِنْ ذلِكَ البَابِ في الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ الله قائم يخطبُ فَاستقْبَلَهُ قَاِئما فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَلَكتِ الأموَالُ وَانقَطَعَتِ السبلُ، فَادعُ الله يُمسِكْهَا عَنَّا.
قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثم قَالَ: " الَلهُم حوَالينا وَلا عَلَينا، الّلهُم عَلى الآكام وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأوْدِية وَمَنَابِتِ الشجَرِ " قال: فاقلعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشى في الشَّمس.
قال شَريك: فَسَألتُ اُنسَ بنَ مَالكٍ أهُوَ الرجُلُ الأول؟ قال: لَا أدرِى.
الظِّراب: الجبال الصغار. و "والآكام " جمع " أكمة " وهي أعلى من الرابية ودون الهضبة و " دار القضاء ": دار عمر بن الخطاب رضي الله عنه سميت بذلك، لأنها بيعت في قضاء دينه.
الغريب:
دار القضاء: دار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، بيعت لقضاء دينه بعد وفاته، غربي المسجد.
يغثنا: هو بالجزم لأنه جواب الطلب.
ولا قزعة: " القزعة " القطعة الرقيقة من السحاب، بفتح القاف والزاى والعين.
سَلْع: بفتح السين وسكون اللام، جبل قرب المدينة وهو في الجهة الغربية الشمالية منها، وقد دخل الآن في العمران.
الترسْ: صفيحة مستديرة من حديد، يتَّقُونَ بها في الحرب ضربَ السيوف.
الآكام والظراب: " الآكام " التلون المرتفعة من الأرض " والظراب " الروابي والجبال الصغار، ومفرد " الآكام " أكمه. و" الظراب " جمع "ظَرِب" بفتح الظاء وكسر الراء.
ما رأينا الشمس سبتاً بكسر السين وفتحها: يعنى أسبوعا، من باب تسمية الشيء ببعضه.
يمسكها: يجوز فيه الرفع، ويجوز الجزم في جواب الطلب.
المعنى الإجمالي:
كان النبي صلى الله عليه وسلم قائما يخطب في مسجده يوم الجمعة، ودخل رجل، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله - مبيناً للنبي عليه الصلاة والسلام، ما فيهم من الشدة والضيق، بسبب انحباس المطر الذي جُلُّ معيشتهم عليه، وطلب منه الدعاء لهم بتفريج هذه الكربة - هلكت الحيوانات من عدم الكلأ، وانقطعت الطرق، فهزلت الإبل التي نسافر ونحمل عليها.
ولكونك القريب من الله تعالى، مستجاب الدعاء، ادعُ الله أن يغيثنا، فبالغيث يزول عنا الضرر، ويرتفع القحط.
فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم أغثنا" ثلاث مرات، كعادته في الدعاء، والتفهيم في الأمر المهم.
ومع أنهم لم يروا في تلك الساعة في السماء من سحاب ولا ضباب إلا أنه في أثر دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم، طلعت من وراء جبل " سلع " قطعة صغيرة، فأخذت ترتفع.
فلما توسطت السماء، توسعت وانتشرت، ثم أمطرت، ودام المطر عليهم سبعة أيام.
حتى إذا كانت الجمعة الثانية، دخل رجل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب الناس، فقال- مبيناً أن دوام المطر، حَبسَ الحيوانات في أماكنها عن الرَّعْي، حتى هلكت، وحبس الناس عن الضرب في الأرض والذهاب والإياب في طلب الرزق- فادع الله أن يمسكها عنا.
فرفع يديه ثم قال ما معناه: اللهم إذا قدرت بحكمتك استمرار هذا المطر، فليكن حول المدينة لا عليها، لئلا يضطرب الناس في معاشهم، وتسير بهائمهم إلى مراعيها، وليكون نزول هذا المطر في الأمكنة التي ينفعها نزوله، من الجبال، والروابي، والأودية، والمراعي.
وأقلعت السماء عن المطر فخرجوا من المسجد يمشون، وليس عليهم مطر. فصلوات الله وسلامه عليه.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
مشروعية الخطبة قائماً وإباحة مكالمة الخطيب، وتقدم في الجمعة هذا البحث.
2-
مشروعية الاستسقاء في الخطبة، واقتصر عليها أبو حنيفة، بدون صلاة والجمهور على أن الاستسقاء يكون بصلاة خاصة، وخطبة الجمعة وفي الدعاء وحده.
3-
رفع اليدين في الدعاء، لأن فيه معنى الافتقار، وتحرِّي معنى الإعطاء فيهما، وقد أجمع العلماء على رفعهما في هذا الموقف واختلفوا فيما عداه، فبعضهم عدّاه إلى كل حالة دعاء، وبعضهم قصره على المواطن الوارد فيها. فال الحافظ ابن حجر: إن في رفع اليدين في الدعاء مطلقاً أحاديث كثيرة. عند البخاري والمنذريّ والنووي.
4-
معجز من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وكراماته، الدالة على نبوته، فقد استجيب دعاؤه في الحال، في جلب المطر ورفعه.
5-
أن فعل الأسباب لطلب الرزق، من الدعاء، والضرب في الأرض، لا ينافي التوكل على الله تعالى.
6-
استحباب الدعاء بهذا الدعاء النبوي لطلب الغيث.
7-
جواز الاستصحاء عند الضرر بالمطر. وخص بقاء المطر على الآكام والظراب وبطون الأودية لأنها أوفق للزراعة والرعي في شواهق الجبال التي لا تنال إلا بمشقة.
8-
جواز طلب الدعاء ممَّن يظن فيهم الصلاح والتقى، وهذا التوسل الجائز. وقد قسم شيخ الإسلام " ابن تيمية " التوسل إلى ثلاثة أقسام، اثنان جائزان.
الأول: طلب دعاء الله من الحيِّ الذي يظن فيه الخير.
والثاني: التوسل بفعل الأعمال الصالحة فهذان القسمان مشروعان.
أما الثالث فممنوع، وهو التوسل بجاه أحد من المخلوقين، حياً أو ميتاً، فهذا لايجوز، لأنه من وسائل الشرك.