الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم. وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة وهي قوله: "وهو صائم" وقالوا: الثابت أنه احتجم وهو محرم، وبأنه بأي وجه أراد إخراج الدم فقد أفطر.
والسواك جائز بلا نزاع، لكن اختلف العلماء في كراهيته بعد الزوال، ولكن لم يقم على تلك الكراهية دليل شرعي يصلح أن يخصص عموم نصوص السواك.
وذوق الطعام يكره لغير حاجة، لكن لا يفطر. وأما للحاجة فلا يكره.
بَاب الصَّوم في السَّفر
جاءت هذه الشريعة بالأحكام الميسرة السمحة تحقيقاً لقوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُم في الدِّيْنِ مِنْ حَرَج} وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُم اليسر ولا يُريِدُ بِكُمُ العُسْرَ} .
فلما كان السفر- غالباً- فيه مشقة وصعوبة، وأنه قطعة من العذاب، خفف فيه.
ومن تلك التخفيفات، الرخصة في الفطر في نهار رمضان.
وهي رخصة مستحبة، لقوله صلى الله عليه وسلم:" لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ".
وهى رخصة، تعم الذي يناله بالسفر مشقة، وغيره ممن تكون أسفارهم راحة ومتعة، لأن الحكم للغالب.
وبمثل هذه الأحكام اللطيفة نعلم مدى ما تراعيه هذه الشريعة الكريمة من تخفيف ورحمة وملاءمة للأوقات والظروف، بمطالبة الناس بقدر ما يستطيعون.
رضينا بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
الحديث الأول
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أنَ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرو الأسلمي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
أأصُوْمُ في السًفَرِ (وكان كثير الصيام) .
قال: " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإنْ شِئْتَ فَأَفْطِر".
المعنى الإجمالي:
علم الصحابة رضي الله عنهم أن الشارع الرحيم، ما رخص في الفطر في السفر إلا رحمة بهم وإشفاقاً
عليهم.
فكان حمزة الأسلمي عنده جَلَدٌ وقوة على الصيام، وكان محباً للخير، كثير الصيام رضي الله عنه.
فسأل رسول الله: "أيصوم في السفر؟ ".
فخيَّره النبي صلى الله عليه وسلم بين الصيام والفطر، فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
الرخصة في الفطر في السفر، لأنه مظنة المشقة.
2-
التخيير بين الصيام والفطر، لمن عنده قوة على الصيام. والمراد بذلك صوم رمضان، ويوضحه ما أخرجه أبو داود والحاكم من أن حمزة بن عمرو، قال: يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر وأكريه، وربما صادفني هذا الشهر ـ يعني رمضان – وأنا أجد القوة عليه وأجدني أن أصوم أهون على من أن أؤخره، فيكون ديناً على. فقال:"أي ذلك شئت يا حمزة".
الحديث الثاني
عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال:
كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفطِرِ، وَلا الْمُفطِرُ
عَلَى الصًائِمِ.
المعنى الإجمالي:
كان الصحابة يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فيفطر بعضهم، ويصوم بعضهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرهم على ذلك، لأن الصيام هو الأصل والفطر رخصة، والرخصة ليس في تركها إنكار، ولذا فإنه لا يعيب بعضهم على بعض في الصيام أو الفطر.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
جواز الفطر في السفر.
2-
إقرار النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه على الصيام والفطر في السفر، مما يدل على إباحة الأمرين.
الحديث الثالث
عَنْ أبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال:
خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في شَهْرِ رَمضَانَ في حَرِّ شَدِيدٍ، حَتَّى إنْ كَانَ
أحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَه عَلَى رَأسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، ومَا فِيْنَا صَائِمٌ إلا رَسُولُ الله صلى الله عليه
وسلم، وعبْدُ الله بْنُ رَوَاحَة.
المعنى الإجمالي:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في رمضان، في أيام شديدة الحر.
فمن شدة الحر، لم يصم منهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه.
فهما تحمَّلا الشدة وصاما، مما يدل على جواز الصيام في السفر وإن كان ذلك مع المشقة التي لا تصل إلى حَدِّ التهلكة.
الحديث الرابع
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَه رضي الله عنه قال:
كانَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فرَأى زِحَاماً، ورَجُلاً قَدْ ظُلِّل عَلَيْهِ، فَقَالَ:
"ما هذا؟ " قالوا: صائم. قال: لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصيامُ في السَّفَرِ".
وفي لفظٍ لمسلم "عَلَيْكُم بِرُخْصَةِ الله الَّتي رَخَصَ لَكُمْ".
المعنى الإجمالي:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره، فرأى الناس متزاحمين ورجلا قد ظلل عليه، فسألهم عن أمره. قالوا: إنه صائم وبلغ به الظمأ هذا الحد.
فقال الرحيم الكريم صلى الله عليه وسلم: إن الصيام في السفر ليس من البر، ولكن عليكم برخصة الله التي رخص لكم.
فهو لم يرد منكم بعبادته تعذيب أنفسكم.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
جواز الصيام في السفر. وجواز الأخذ بالرخصة بالفطر.
2-
أن الصيام في السفر ليس براً، وإنما يجزئ ويسقط الواجب.
3-
أن الأفضل إتيان رخص اللَه تعالى، التي خفف بها على عباده.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر.
فشدد بعض السلف، كالزهري، والنخعي: وذهبوا إلى أن صيام المسافر لا يجزئ عنه، وهو مروي عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وابن عمر، وهو مذهب الظاهرية.
وذهب جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة، إلى جواز الصيام والفطر.
واحتج الأولون بقوله تعالى: {فَمّنْ شَهِدَ مِنكُمُ الْشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيْضَاً أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
وَوَجْهُهُ: أن الله لم يفرض الصوم إلا على من شهده، وفرض على المريض والمسافر، في أيام أخر.
وما رواه مسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال:"أؤلئك العصاة، أؤلئك العصاة" فنسخ قوله: "أؤلئك العصاة" لصيامه.
وما رواه البخاري عن جابر: "لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ".
واحتج الجمهور بحجج قوية، منها أحاديث الباب.
الأول: حديث حمزة الأسلمى: "إن شِئْتَ فَصُم، وَإنْ شِئْتَ فَأفْطِر".
الثاني: حديث أنس: ثم كُنًا نُسَافِر مَعَ رَسُول الله فَلَمْ يَعِبِ الصَّائمُ عَلَى الُمُفطِرِ ولا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّاِئمِ".
الثالث: حديث أبي الدر داء، فيه صيام رسول الله، وعبد الله بن رواحة.
وأجابوا عن أدلة الأولين بما يأتي:
أما الآية: فالذي أُنْزِلَتْ عليه، صام بعد نزولها، وهو أعلم الخلق بمعناها فيتحتم أن معناها غير ما ذكرتم.
وأكثر العلماء ذكروا أن فيها مُقَدَّراً تقديره: "فأَفْطَرَ".
أما قول: "أولئك العصاة" فهي واقعة عين لأناس شقَّ عليهم الصيام، فأفطر هو عليه الصلاة والسلام ليقتدوا به، فلم يفعلوا فقال:"أولئك العصاة" لعدم اقتدائهم به عليه الصلاة والسلام.
وأما حديث "ليس من البر الصيام في السفر" فمعناه أن الصيام في السفر ليس من البر الذي يتسابق إليه ويتنافس فيه.
فقد يكون الفطر أفضل منه، إذا كان هناك مشقة، أو كان الفطر يساعد على الجهاد، والله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتي معاصيه.
والجمهور الذين يرون جواز الصيام في السفر، اختلفوا، أيهما أفضل، الصيام أم الفطر؟.
فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي،: إلى أن الصوم أفضل لمن لا يلحقه مشقة.
وذهب الإمام أحمد إلى أن الفطر في رمضان أفضل ولو لم يلحق الصائم مشقة.
ويقول باستحباب الفطر أيضاً، سعيد بن المسيب، والأوزاعي وإسحاق.
استدل الأئمة الثلاثة بأحاديث:
منها ما رواه أبو داود عن سلمة بن المحبق، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من كانت له حُمُوْلَةٌ يأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه"
"والحمولة" بالضم: الأحمال التي يسافر بها صاحبها.
أما أدلة الحنابلة، فمنها حديث "ليس من البر الصيام في السفر" متفق عليه.
وحديث " إن الله يحب أن تؤتى رخصه ".
فائدة:
أما مقدار السفر الذي يباح فيه الفطر وقصر الصلاة، فقد اختلف العلماء في تحديده.
والصحيح أنه لا يفيد بهذه التحديدات التي ذكروها، لأنه لم يرد فيه شيء عن الشارع.
فالمشرع أطلق السفر، فنطلقه كما أطلقه.
فما عُدَّ سفراً، أبيح فيه الرخص السفرية، وتقدم بأبسط من هذا في "صلاة أهل الأعذار".
الحديث الخامس
عَن أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في سَفر،
فمِنَا الصَّائِمُ وَمِنَا الْمُفْطِرُ.
قال: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً في يَوْمٍ حَارٍّ وَأكْثَرُنَا ظِلَاّ صَاحِبُ الكساء وَمِنًا مَنْ يَتقى الشَّمْسَ بِيَدِه.
قال: فَسَقَطَ الصُّوَّمُ وَقَامَ الْمُفْطِرُون، فَضَرَبوُا الأَبْنَيَة وَسَقُوا الركابَ.
فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " ذَهَبَ المفْطِرُون اليوْمَ بالأجر"
المعنى الإجمالي:
كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره، فبعضهم مفطر، وبعضهم صائم.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقر كلا منهم على حاله.
فنزلوا في يوم حار ليستريحوا من عناء السفر وحر الهاجرة.
وكانوا رضي الله عنهم متقشفين، لا يجد أكثرهم ما يظله عن الشمس إلا أن يضع يده على رأسه أو أن يضع كساء فوق عود أو شجرة فيستظل به.
فلما نزلوا في هذه الهاجرة، سقط الصائمون من الحر والظمأ فلم يستطيعوا العمل.
وقام المفطرون، فضربوا الأبنية بنصب الخيام والأخبية، وسقوا الإبل، وخدموا إخوانهم الصائمين.
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم وما قاموا به من خدمة الجيش شجعهم، وبين فضلهم وقال:" ذهب المفطرون اليم بالأجر"
ما يؤخذ من الحديث:
1-
جواز الإفطار والصيام في السفر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر كلاً على ما هو عليه.
2-
ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من رقة الحال في الدنيا، ومع ذلك لم تمنعهم رقة الحال من ارتكاب الصعاب في الجهاد في سبيل الله تعالى.
3-
فضل خدمة الإخوان والأهل، وأنها من الدين ومن الرجولة التي سبقنا فيها صفوة هذه الأمة، خلافاً لفعل كثير من المترفعين المتكبرين.
4-
أن الفطر في السفر أفضل لا سيما إذا اقترن بذلك مصلحة من التقوي على الأعداء ونحوه. فإن فائدة الصوم تلزم صاحبها، أما فائدة الإفطار في مثل ذلك اليوم فإنها تتعدى المفطر إلى غيره. ومن هنا كان الإفطار أولى.
5-
حث الإسلام على العمل وترك الكسل، فقد جعل للعامل نصيباً كبيراً من الأجر، وفضله على المنقطع للعبادة
وأين هذه من الناعقين الذين يرونه ديناً عائقاً عن العمل والتقدم والرقي؟ قبحهم الله، فإنهم يهرفون بما لا يعرفون.
الحديث السادس
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كانَ يَكُونُ عَلَيَّ الْصَّوْمُ في رَمَضَان فَمَا أسْتَطِيعُ أَنْ أقْضِيَ
إلا في شَعْبَانَ (1) .
(1) زاد "مسلم" في صحيحه: وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
المعنى الإجمالي:
تذكر عائشة رضي الله عنها أنه يكون عليها الصوم قضاءً من رمضان.
ولمحبة النبي لها وحسن أدبها في مراعاته ومعاشرته، تؤخر صيامها إلى شعبان، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر الصيام فيه، فيعلم ذلك ويقرها عليه.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
جواز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان مع العذر.
2-
أن الأفضل التعجيل مع غير العذر. فعائشة رضي الله عنها قد بيَّنت عذرها في ذلك.
3-
أنه لا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان التالي.
واختلف العلماء في وجوب الكفارة مع التأخير إلى دخول رمضان الآخر.
ومذهب الحنابلة أن عليه الكفارة إذَا أخر لغير عذر.
4-
حسن عشرة عائشة رضي الله عنها. رزق الله نساءنا القدوة بها.
الحديث السابع
عَنْ عَاِئشَةَ رضي الله عنها: أنَّ رَسُوْلَ الله قال:
"مَنَ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام صَامَ عَنْه وَلِيُّه".
وأخرجه أبو داود وقال: هذَا في النًذْر خاصَّة، وهو قول أحمد بن حنبل (1) .
المعنى الإجمالي:
الديون التي على الأموات يجب قضاؤها، سواء أكانت لله تعالى كالزكاة والصيام، أم للآدميين، كالديون المالية.
وأولى من يتولى ذلك، ورثتهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:
"من مات وعليه صيام، صام عنه وليه ".
ما يؤخذ من الحديث:
1-
ظاهر الحديث وجوب قضاء الصيام عن الميت سواء أكان نذراً، أم واجباً بأصل الشرع، خلافاً لتقييد أبي داود. وذكر ابن دقيق العيد أن إلحاق غير الصوم به هو من باب القياس وليس في هذا الحديث نص عليه.
2-
أن الذي يتولى الصيام، هو وليُّه
والمراد به الوارث الذي انتفع بمخلفاته.
فمن مقتضى القيام بواجبه قضاء ديون الله عنه.
(1) قال ابن دقيق العيد ليس هذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان.
وليس كما قال ابن دقيق العيد، فقد أخرجه البخاري ومسلم جميعاً، كما نبه عليه عبد الحق في ((الجمع بين الصحيحين)) والمجد في ((المنتقى))
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء فيمن مات وعليه صوم هل يقضى عنه؟ على ثلاثة أقوال أحدها: لا يقضى عنه بحال، لا في النذر ولا في الواجب بأصل الشرع.
وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي في الجديد.
الثاني: يصام عنه النذر دون الواجب بأصل الشرع.
وهذا مذهب الإمام أحمد، وأبي عبيد، والليث، وإسحاق، ونصره ابن القيم.
الثالث: أنه يصام عن الميت النذر والواجب بأصل الشرع.
وهو قول أبي ثور وأصحاب الحديث، ونصره ابن حزم، ورد قول من خالفه، وجماعة من محدثي الشافعية، وهو قول الشافعي في القديم، وعلق القول به على صحة الحديث.
قال البيهقي: ولو وقف الشافعي على جميع طرق الأحاديث وتظاهرها لم يخالفها إن شاء الله.
واختار هذا القول شيخنا "عبد الرحمن السعدي" وقال: إنه اختيار شيخ الإسلام "ابن تيمية" في جميع الديون التي على الميت لله، أو للآدميين، أوجبها على نفسه، أو وجبت بأصل الشرع.
استدل المانعون- مطلقاً- بأدلة.
منها: - قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إلَاّ مَا سَعَى} .
وبما روي عن ابن عباس: "لا يُصَلِّ أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد".
وروي عن عائشة، نحو ما روي عن ابن عباس، وهما راويان لِحدِيثَي الصيام عن الميت، وخالفاها، فاتبع رأيهما لا روايتهما، لأنهما أعلم بمعنى الحديث.
واستدل المجيزون للقضاء- مطلقاً- بحديث الباب، فإنه عام في الواجب بأصل الشرع والواجب بالنذر، وبحديث ابن عباس الآتي بعد هذا الحديث وهو:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟. "
فقال:، لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال نعم. قال:" فدين الله أحق أن يقضى" قال ابن حجر: إن أحمد ومن معه حملوا العموم في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس، وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة منفصلة يسأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة.
أما المفصلون وهم الذين يرون القضاء في النذر دون الواجب بأصل الشرع، فيرون أن حديث الباب، وحديث ابن عباس الذي بعده، مقيدان بالرواية الثانية عن ابن عباس المذكورة في هذا الباب.
ونصر "ابن القيم" هذا القول في كتابه "إعلام الموقعين""وتهذيب السنن" وقال: إنه أعدل الأقوال، وعليه يدل كلام الصحابة.
وقال: وتعليل حديث ابن عباس الذي قال فيه: "لا يصوم أحد عن أحد ويطعم عنه" مراده في الفرض الأصلي.
وأما النذر فيصام عنه، وما روي عن عائشة في إفتائها في التي ماتت وعليها صوم: أنه يطعم عنها، إنما هو في الفرض لا في النذر.
وبهذا يظهر اتفاق الروايات في هذا الباب، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأن النذر ليس واجباً بأصل الشرع. وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّيْنِ الذي استدانه.
ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدَّيْنِ في حديث ابن عباس.
ثم قال أيضاً: وسر الفرق أن النذر التزام المكلف لما شغل به ذمته لا أن الشارع ألزمه به ابتداء، فهو أخف حكماً مما جعله الشارع حقاً له عليه، شاء أم أبى، والذمة تسع المقدور عليه، والمعجوز عنه.
بخلاف واجبات الشرع فإنها على قدر طاقة البدن ا. هـ. ملخصاً منه.
فائدة:
قضاء وَلِيِّه عنه من باب الاستحباب عند جماهير العلماء ماعدا الظاهرية فقد أوجبوه.
وقالت الحنابلة: إن كان الميت خلف تركة، وجب القضاء، وإلا استحب وقالوا: إن صام غير الوارث أجزأه.
الحديث الثامن
عَنْ عَبْدِ الله بِنِ عَبَّاس رضي الله عنهما قال:
جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أمي مَاتَت وَعَلَنهَا صَوْمُ
شَهْرٍ: أفأَقضِيهِ عَنْهَا؟
قال: " لَوْ كانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْن أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ ".
قال: نعم: قال: " فَدَيْنُ الله أحَقُّ أنْ يُقْضَى".
وفي رواية: جَاءَتْ امْرَأة إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إن أُمِّي
مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذرٍ، أَفَأَصُوْمُ عَنْهَا؟
قال: "أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتيِهِ، أَكَانَ يُؤَدَّى ذَلِكَ عَنْهَا؟
قالت: نعم. قال: " فَصُومِي عَنْ أُمِّك".
المعنى الإجمالي:
وقع في هذا الحديث روايتان، والظاهر من السياق، أنهما واقعتان لا واقعة واحدة.
فالأولى: - أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن أمه ماتت وعليها صوم شهر فهل يقضيه عنها.
والرواية الثانية: أن امرأة جاءت إليه صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن أمها ماتت وعليها صوم نذر: فهل تصوم عنها؟
فأفتاهما جميعاً بقضاء ما على والديهما من الصوم، ثم ضرب لهما مثلاً يقرب لهما المعنى؛ ويزيد في التوضيح.
وهو: أنه لو كان على والديهما دين لآدمي، فهل يقضيانه عنهما؟ فقالا: نعم.
فأخبرهما أن هذا الصوم دين لله على أبويهما، فإذا كان دين الآدمي يقضى، فدين الله أحق بالقضاء.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
عموم الرواية الأولى تفيد أن الصيام يقضى عن الميت، سواء أكان نذراً. أم واجباً أصلياً.
2-
الرواية الثانية تدل على قضاء الصيام المنذور عن الميت.
3-
الظاهر أنهما واقعتان لرجل وامرأة، فتبقى كل منهما على مدلولها، ولا تقيد الأولى بالثانية، بل تبقى على عمومها.
4-
عموم التعليل الذي في الحديث يشمل الديون التي لله، والتي للخلق، والواجبة بنذر، والواجبة بأصل الشرع، بأنها كلها تقضى عن الميت، وهذا ما حكاه شيخنا "عبد الرحمن آل سعدي" عن "تقي الدين ابن تيمية " رحمهما الله تعالى.
5-
فيه إثبات القياس، الذي هو أحد أصول الجمهور في الاستدلال. وقد ضرب لهما النبي عليه الصلاة والسلام المثل بما هو معهود لهما، ليكون الفهم أبلغ، وليقربه من أذهانهما، فإن تشبيه البعيد بالقريب، يسهل إدراكه وفهمه.
6-
قوله: " فدين الله أحق بالقضاء" فيه دليل على تقديم الزكاة وحقوق الله المالية إذا تزاحمت حقوقه وحقوق الآدميين في تركة المتوفى. وبعضهم قال بالمساواة بين الحقوق.
الحديث التاسع
عَنْ سَهْلِ بِنْ سَعْدٍ السَّاعِدِي رضي الله عنه:
أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَزَالُ النَّاسُ بَخَيْر مَا عَجَّلُوْا الفِطْرَ
وَأَخَّرُّوا السُّحُوْر".
المعنى الإجمالي:
الشارع الحكيم يحث على تمييز العبادة ووقتها عن غيره، ليتبين النظام والطاعة، في امتثال أوامره، والوقوف بها عند حدودها.
ولذا فإنه لما جعل غروب الشمس هو وقت إفطار الصائم، حثَّه على مبادرة الفطر عند أول ذلك الوقت، وأخبر: أن الناس لا يزالون بخير، ما عجلوا الفطر، لأنهم ـ بذلك- يحافظون على السنة.
فإذا أخروا الفطر فهو دليل على زوال الخير عنهم لأنهم تركوا السنة التي تعود عليهم بالنفع الديني وهو المتابعة، والدنيوي الذي هو حفظ أجسامهم وتقويتها بالطعام والشراب، اللذين تتوق أنفسهم إليهما.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
استحباب تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس برؤية، أو خبر ثقة.
2-
أن تعجيل الفطر، دليل على بقاء الخير عند من عجله، وزوال الخير عمن أجله.
3-
الخير المشار إليه في الحديث، هو اتباع السنة، مع أنه من محبوبات النفوس.
4-
الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.
فاٍن تأخير الإفطار عمل به الشيعة، الذين هم إحدى الفرق الضالة.
وليس لهم قدوة في ذلك إلا اليهود، الذين لا يفطرون إلا عند ظهور النجم.
الحديث العاشر
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَابِ رضي الله عنه قال:
قال رَسُولُ الله: "إذَا أَقْبَلَ الْلَيْلُ مِنْ ههُنَا، وَأَدْبَرَ الْنَّهَارُ مِنْ هَهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ".
المعنى الإجمالي:
تقدم أن وقت الصيام الشرعي، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ولذا فقد أفاد النبي
صلى الله عليه وسلم أمته: أنه إذا أقبل الليل من قبل المشرق، وأدبر النهار من قبل المغرب- بغروب الشمس - فقد دخل الصائم في وقت الإفطار الذي لا ينبغي له تأخيره عنه، بل يعاب بذلك، امتثالاً لأمر الشارع، وتحقيقاً للطاعة، وتمييزاً لوقت العبادة عن غيره، وإعطاء للنفس حقها، من مُتَعِ الحياة المباحة.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
استحباب تعجيل الفطر، إذا تحقق غروب الشمس.
2-
أنه لابد من وجود إقبال الليل الذي يقارنه إدبار النهار للإفطار.
فإن مجرد الظُلمة من قبل المشرق مع وجود الشمس، ليس معناه إقبال الليل.
فاٍن إقبال الليل حقيقة، مقارن لإدبار النهار، فهما متلازمان.
3-
قوله: " فقد أفطر الصائم " يحتمل معنيين:
أ- إما أنه أفطر حكماً بدخول الإفطار ولو لم يتناول مفطراً، ويكون الحث على تعجيل الفطر في بعض الأحاديث معناه الحث على فعل الإفطار حساً ليوافق المعنى الشرعي.
ب- وإما أن يكون دخل في وقت الإفطار، كما تقول: أنْجَدَ، لمن دخل "نجد" وأتهمَ لمن دخل "تهامة" ويكون الحث على تعجيل الفطر على بابه وهذا أولى. ويؤيده رواية البخاري "فقد حلَّ الإفطار".
4-
ينبني على هذين المعنيين حكم الوصال.
فإن قلنا: معنى " فقد أفطر الصائم" أفطر حكماً، فالوصال باطل، لأنه لا يمكن
وإن قلنا: معناه فقد دخل في وقت الفطر، فيكره مع اقترانه بالنَّهي عن الوصال.