الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باَبُ الشفعَة
الشفعة: بضم الشين وسكون الفاء.
والشفع: لغة، الزوج، قسيم الفرد، فإذا ضمت فرداً إلى فرد، فأنت شفعته. ومن هنا اشتقت الشفعة، لأن الشافع يضم حصة شريكه إلى حصته.
والشفعة: تطلق على التملك وعلى الحصة المملوكة فتعريفها- شرعاً- على المعنى الأول: [استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض] . وهى ثابتة بالسنة، بحديث الباب، وبإجماع العلماء. ولما كان موضوعها، العقارات المشتركة.
- وبطبيعة الشراكة والخلطة يحصل أضرار عظيمة ومشاكل جسيمة. وكثير من الخلطاء يبغي بعضهم على بعض. إلا من آتى الشركة حقها، وقليل ما هم- لما كان الأمر هكذا صارت الشفعة على وفق القياس الصحيح أيضا. فإن انتزاع حصة الشريك بثمنه من المشترى، منفعة عظيمة للشريك المنتزع، ودفع للضرر الكبير عنه، بلا مضرة تلحق البائع والمشترى فكل قد أخذ حقه كاملا غير منقوص.
وبهذا تعلم أنها جاءت على الأصل وفق القياس والحكمة، والشرع كله، خير وبركة. فلا يأمر إلا بما تتمحض مصلحته أو تزيد على مفسدته، لا ينهى إلا عما تتمحض مضرته أو تزيد على مصلحته.
ولم يستحق الشفيع (1) نزع الشقص (2) من يد المشترى بغير رضاه إلا للمصلحة الخالية من المضرة.
فحينئذ تكون ثابتة بالسنة، والإجماع، والقياس، خلافاً لمن توهموا ثبوتها على خلاف الأصل والقياس.
الحديث الأول
عَنْ جَابِرِ بن عَبْدِ الله رضي الله عنهما قَالَ. جَعَلَ (3)(وفي لفظ: - قضى) النبي صلى الله عليه وسلم بالشُّفعَةِ فيِ كُل مَال لَم يقسم. فَإذَا وقَعَتِ الحُدودُ وَصرفَتِ الطرقُ فَلا شُفعَة.
الغريب:
وقعت الحدود: عينت. و" الحدود " جمع " حد " وهو _ هنا _ ما تميز به الأملاك بعد القسمة.
صرفت الطرق: بضم الصاد وكسر الراء المثقلة، يتخفف. بمعنى بينت مصارفها وشوارعها.
(1) الشفيع: صاحب الشفعة المنتزع حصة شريكه بعوض
(2)
الشقص: السهم والنصيب والشرك.
(3)
أخرجه " ابن الجوزي " في " تحقيقه " عن طريق أبي سلمة عن جابر بلفظ: " إنما جعل " وقال: انفرد لإخراجه البخاري، ثم أخرجه عن أبي الزبير عن جابر بلفظ " قضى "
المعنى الإجمالي:
هذه الشريعة الحكيمة جاءت لإحقاق الحق والعدل ودفع الشر والضر ولها النظم المستقيمة والأحكام العادلة للغايات الحميدة والمقاصد الشريفة، فتصرفاتها حسب المصلحة وفق الحكمة والسداد.
ولهذا فإنه لما كانت الشركة في العقارات يكثر ضررها ويمتد شررها وتشق القسمة فيها، أثبت الشارع الحكيم الشفعة للشريك.
بمعنى أنه إذا باع (1) أحد الشريكين (2) نصيبه من العقار المشترك بينهما، فللشريك الذي لم يبع أخذ النصيب من المشترى بمثل ثمنه، دفعاً لضرره بالشراكة.
هذا الحق، ثابت للشريك ما لم يكن العقار المشترك قد قسم وعرفت حدوده وصرفت طرقه.
أما بعد معرفة الحدود وتميزها بين النصيبين، وبعد تصريف شوارعها وتشقيقها فلا شفعة، لزوال ضرر الشراكة والاختلاط الذي ثبت من أجله استحقاق انتزاع المبيع من المشترى.
ما يستفاد من الحديث:
1-
هذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة وهو مستند الإجماع عليها.
2-
صدر الحديث يشعر بثبوت الشفعة في المنقولات وسياقه يخصها بالعقار، ولكن يتبعها الشجر والبناء إذا كانا في الأرض.
3-
تكون الشفعة في العقار المشترك، الذي لم تميز حدوده، ولم تصرف طرقه، لضرر الشراكة التي تلحق الشريك الشفيع.
4-
إذا ميزت حدوده، وصرفت طرقه، فلا شفعة لزوال الضرر بالقسمة، وعدم الاختلاط.
5-
بهذا يعلم أنها لا تثبت للجار، لقيام الحدود وتمييزها.
ويأتي الكلام على الشفعة فيما فيه منفعة مشتركة بين الجارين إن شاء الله تعالى.
6-
استدل بعضهم بالحديث: على أن الشفعة لا تكون إلا في العقار الذي تمكن قسمته دون ما لا تمكن قسمته، أخذاً من قوله:" في كل ما لم يقسم " لأن الذي لا يقبل القسمة، لا يحتاج إلى نفيه. ويأتي الخلاف فيه إن شاء الله.
7-
تثبت الشفعة إزالةً لضرر الشريك، ولذا اختصت بالعقارات لطول مدة الشراكة فيها.
(1) عبرت بلفظ " باع " حيث الحديث ورد في البيع، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، والوجه الثاني: يثبت بما انتقل بتصرف غير مالي، اختاره بعض الأصحاب وهو مذهب مالك والشافعي.
(2)
لا فرق بين شريك أو شركاء، وإذا كان الشفعاء أكثر من واحد، فالشفعة بينهم على قدر أملاكهم، فإن أسقط بعضهم شفعته أخذ باقي الشركاء كل الشقص أو تركه، لئلا يضر بالمشتري، فالشرع جاء لمحاربة الضرر عن الطرفين ا. هـ شارح
وأما غير العقار، فضرره يسير. يمكن التخلص منه بوسائل كثيرة، من المقاسمة التي لا تحتاج إلى كلفة، أو بالبيع ونحو ذلك.
فائدة:
يرى بعض العلماء- ومنهم الفقهاء المتابعون للمشهور من مذهب الحنابلة- سقوطها إن علم الشفيع ببيع الشقص ولم يشفع على الفور، ولم يجعلوا له مهلة إلا لعمل الأشياء الضرورية، من أكل، وشرب، وصلاة ونحو ذلك، بناء منهم على أن الأصل في المعاملات الرضا.
والشفيع يريد انتزاع الشقص بغير رضا المشترى فحاربوه، واستأنسوا على ذلك بأحاديث ضعيفة كحديث " الشفعة كَحل العِقَال ".
والحق أنه يرجع في ذلك إلى العرف في التحديد، ويعطى مهلة متعارفة للتفكير والمشاورة.
فائدة ثانية:
يحرم التحيل لإسقاط الشفعة ولإبطال حق مسلم، كما قال ذلك الإمام أحمد رحمه الله.
وقد يعمد من لا يراعى حدود دينه وحقوق إخوانه، إلى محاولة إسقاطها بشيء من الحيل، كأن يعطى الشقص بصورة من الصور، التي لا تثبت فيها،
أو لا يثبتها الحكام فيها، أو يضر الشفيع بإظهار زيادة في الثمن، أو بوقف الشقص، حيلة لإسقاطها.
فهذه حيل لا تسقط فيها الشفعة عند الأئمة الأربعة، كما قال ذلك صاحب الفائق رحمه الله تعالى.
وقال شيخ الإسلام: الاحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز بالاتفاق. وإنما اختلف الناس في الاحتيال عليها قبل وجوبها وبعد انعقاد السبب، وهو ما إذا أراد المالك بيع الشقص المشفوع مع أن الصواب أنه لا يجوز الاحتيال على إسقاط حق مسلم، وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال المحرم فهو باطل.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على ثبوت الشفعة في العقارات التي تقسم قسمة إجبار (1)
واختلفوا فيما سوى
(1) العقارات قسمان:
القسم الأول: عقار كبير واسع لا تميز بين أجزائه كالدور الكبار، والأرض الواسعة، فهذه تجب قسمتها إذا طلب أحد الشريكين، لأنه لا ضرر قي قسمتها، وتسمى هذه " قسمة إجبار ".
والقسم الثاني: صغير كحمام، ودكان ضيق، فهذه لا تقسم غلا برضا الشريكين أو الشركاء جميعا لوجود الضرر في قسمتها، وهذه لها أحكام البيع، أما الأولى فهي إفراز لا بيع ا. هـ شارح
ذلك.
فذهب أبو حنيفة وأصحابه، إلى ثبوتها في كل شيء من العقارات والمنقولات.
مستدلين على ذلك بصدر الحديث الذي معنا، قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم.
وبما رواه الطحاوى عن جابر قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء ".
وعندهم، أن الشفعة جاءت لإزالة الضرر الحاصل بالشركة والقسمة، ولذلك كلفة ومؤنة.
وبعض العلماء- كالقاضي عياض وابن دقيق العيد- عَدوا هذا القول من الشواذ.
وذهب مالك، وأهل المدينة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: إلى أنه لا شفعة للجار، ولا للشريك المقاسم، بل تثبت بالعقار الذي لم يقسم.
فإذا وقعت حدوده، وصُرِّفت طرقه، فلا شفعة عندهم.
وهو مروىُ عن عمر، وعثمان، وعلىّ رضى الله عنهم.
واستدلوا على ذلك بحديث الباب " فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة".
قال الإمام أحمد: إنه أصح ما روى في الشفعة.
وفي البخاري عن جابر " إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة ".
وفي سنن أبي داود عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قسمت الأرض وَحُدَّتْ فلا شفعة فيها " إلى غير ذلك من الأحاديث.
ولأن الشفعة إنما أثبتها الشارع لإزالة الضرر اللاحق بشراكة العقارات التي تطول ويصعب التخلص منها بالقسمة، وتستوجب أعمالا وتغييرات، ولها
مرافق وحقوق، وكل هذا مدعاة إلى جلب الخصام والشجار، فثبتت لإزالة هذه الأضرار.
أما غير العقارات المشتركة، فلا توجد فيها إلا نسبة قليلة من الضرر يمكن التخلص منها بالقسمة، أو البيع، أو التأجير.
والجار ليس عنده هذه الأضرار مادام غير مشارك، ولو أثبتنا للجار لشاعت القضية فما من أحد إلا وله جار.
وذهب بعض العلماء- ومنهم الحنفية- إلى ثبوتها للجار مطلقاً، سواء كان له مع جاره شركة في زقاق، أو حوش، أو بئر ونحو ذلك، أو لم يكن.
ويستدلون على ذلك بما رواه البخاري عن أبي رافع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الجار أحق بصقبِه ".
وبما رواه أبو داود، والنسائي، والترمذى عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جار الدار أحق بالدار ".
وروى أصحاب السنن الأربعة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحدا " وهذا حديث صحيح.
وقالوا: إن الضرر الذي قصد الشارع رفعه، هو ضرر الجوار، فإن الجار قد يسيء إلى جاره بِتَعْلِيَةِ جداره وتَتَبُعِ عوراته والتطلَع على أحواله، فجعل له الشارع هذا الحق، ليزيل به الضرر عن نفسه وحرمه وماله.
وللجار حرمة وحق، حث الله عليهما ورسوله.
فأمر بإكرامه، ونَفَى الإيمان عمن أساء إليه.
فنظر قوم إلى أدلة كل من الفريقين. فرأوا أن كلا منهما معه أثر لا يُرَدُّ، ونظر لا يُصَد. فمع كل منهما أحاديث صحيحة وتعليلات قويه مقبولة. وقد علموا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا تتضارب، بل ينظر بعضها إلى بعض وتتلاحظ بعين التوافق والالتئام، لأنها من عند من {لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} .
لذا فقد توسطوا بين القولين، وجمعوا بين الدليلين فقالوا:
إن منطوق حديث " فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق " ونحوه، انتفاء الشفعة عند معرفة كل واحد حده واختصاصه بطريقه.
وإن منطوق حديث: " الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها، وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً " إثبات الشفعة بالجوار عند الاشتراك في الطريق وانتفائها عند تصريف الطريق، فتوافق المفهوم والمنطوق.
وممن يرى هذا الرأي، علماء البصرة، وفقهاء المحدثين. وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام " ابن تيمية "" وابن القيم " وشيخنا عبد الرحمن آل سعدي. قال شيخ