الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ البيوع
البيوع: جمع للبيع. والبيع مصدر، والمصادر لا تجمع. لكن جمع لملاحظة اختلاف أنواعه.
وتعريفه: لغة- أخذ شيء وإعطاء شيء، فقد أخذوه من البائع الذي يُمَدُّ، إما لقصد الصفقة، أو للتقابض على المعقود عليها من الثمن والمثمن.
ولفظ " البيع"، يطلق على الشراء أيضاً، فهو من الأضداد وكذلك (الشراء) فهو من الأضداد.
لكن إذا أطلق البائع، فالمتبادر إلى الذهن أنه باذل السلعة.
أما تعريفه شرعا: فهو: مبادلة مال بمال، لقصد التملك، بما يدل عليه من صِيَغ القول والفعل.
وجوازه ثابت بأصول الأدلة الأربعة:
1-
الكتاب {وأحَلَّ الله البَيْعَ} .
2-
والسنة " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " ونصوص الكتاب والسنة فيه كثيرة.
3-
وأجمع المسلمون على جوازه
4-
ويقتضيه القياس، لأن الحاجة داعية إليه، فلا يحصل الإنسان على ما يحتاجه إذا كان بيده غيره، إلا بطريقه.
أما الصيغة التي ينعقد بها فالصواب في ذلك ما قاله شيخ الإسلام " ابن تيمية " من أنه ينعقد بكل قول أو فعل، عده الناس بيعا، سواء أكان متعاقباً أم متراخياً لأن الله تعالى لم يُرد أن يتعبدنا بألفاظ معينة، وإنما القصد الدلالة على معناه، وبأي لفظ دل عليه، حصل المقصود.
والناس يختلفون في مخاطبتهم واصطلاحاتهم، تبعا لاختلاف الزمان والمكان.
فكل زمان ومكان، له لغته واصطلاحاته، والمراد من ذلك المعنى.
وينفعنا في هذه (الأبواب منٍ المعاملات) أن نفهم قاعدة جليلة، تحد لنا المعاملات المباحة، وأن نفهم أيضا ضوابط تحيط بجميع المعاملات المحرمة، وترد إليها جميع جزئياتها، وهذه القاعدة
هي:
أن الأصل في المعاملات، وأنواع التجارات والمكاسب، الحل والإباحة. فلا يمنع منها إلا ما حرمه الله ورسوله.
فهذا أصل عظيم، يستند إليه في المعاملات والعادات.
فمن حرم شيئاً من ذلك، فهو مطالب بالدليل، لأنه على خلاف الأصل. وبهذا يعلم سماحة الشريعة وسعتها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتطورها حسب مقتضيات البشر، ومصالح الناس.
وهي قاعدة مطردة، مبناها العدل والقسط، ومراعاة مصالح الطرفين.
ولا تخرج المعاملة عن هذا الأصل العظيم، من الإباحة إلى التحريم، إلا لما يقترن بها من محذور، يرجع إلى ظلم أحد الطرفين، كالربا، والغرر، والجهالة، والخداع، والتغرير.
فهذه معاملات- عند تأملها- نجدها تعود إلى ظلم أحد العاقدين.
والمعاملات المحرمة ترجع إلى هذه الضوابط وما حرمت إلا لمفاسدها وظلمها.
فإن الشارع الحكيم الرحيم، جاء بكل ما فيه صلاح، وحذر عن كل ما فيه فساد.
الحاصل: أن المعاملات المحرمة ترجع إلى ضوابط، أعظمها الثلاثة الآتية: -
الأول: الربا بأنواعه الثلاثة، ربا الفضل، وربا النسيئة، وربا القرض.
الثاني: الجهالة والغرر، ويدخل فيها جزئيات كثيرة، وصوره متعددة.
الثالث: الخداع والتغرير، ويشمل أنواعاً متعددة.
هذا مجملها وسيأتي- إن شاء الله تعالى- تفصيلها في الأحاديث الآتية.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضىَ عنهما عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ:
" إذَا تَبَايَعَ الرجُلانِ فَكُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفرقَا وَكَانا جَمِيعاً، أو يُخَيَر أحَدُهُمَا الآخر قال: فَإِن خَيّرَ أحَدُهُمَا الآخر فَتَبَايَعَا عَلَى ذلِكَ وَجَبَ البيع ".
الحديث الثاني
وفي معناه من حديث حَكِيم بن حزام قال: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
" البيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لمْ يَتَفَرَّقَا- أو قال: حَتًى يَتَفرَقَا- فَإنْ صدَقا وبَينا، بُورِكَ لَهُمَا في بَيعِهِمَا- وَإن كَتَمَا وَكَذبَا مُحِقتْ بَرَكة بَيْعِهمَا".
الغريب:
بالخيار: بكسر الخاء، اسم مصدر " اختار " من الاختيار أي طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الرد.
البيعان: بتشديد الياء، يعنى البائع والمشتري أطلق عليهما من باب التغليب. وقد تقدم أن كل واحد من اللفظين يطلق على معنى الآخر.
محقت: مبنى للمجهول، معناه: ذهبت وزالت زيادة كسبهما وربحهما أو يخير أحدهما الآخر: أي يقول له: اختر إمضاء البيع.
المعنى الإجمالي:
لما كان البيع قد يقع بلا تفكر ولا ترو، فيحصل للبائع أو المشترى ندم على فوات بعض مقاصده، جعل له الشارع الحكيم أمداً يتمكن فيه، من فسخ العقد. وهذا الأمد هي مدة مجلس العقد.
فما دام العاقدان في مجلس العقد، فلكل منهما الخيار في إمضاء العقد أوفسخه
فإذا افترقا بأبدانهما، افتراقا يتعارف الناس عليه، أو عقد البيع على أن لا خيار بينهما، فقد تم العقد، ولا يجوز لواحد منهما الفسخ، إلا بطريق الإقالة.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من أسباب البركة والنماء، وشيئاً من أسباب الخسارة والهلاك.
فأسباب البركة والربح والنماء، هي الصدق في المعاملة، وتبين ما في المعقود عليه من عيب أو نقص أو غير ذلك.
وأما اً سباب المحق والخسارة، فهي كَتم العيوب، والكذب في المعاملة، والتدليس.
وهى أسباب حقيقية لبركة الدنيا بالزيادة والشهرة بحسن المعاملة، وفي الآخرة بالأجر والثواب، وحقيقة لمحق كسب الحياة، من سيئ المعاملة والابتعاد عنه، حتى يفقد ثقة الناس وإقبالهم، وخسارة في الآخرة، لغشه الناس. و " من غشنا، فليس منا "
ما يؤخذ من الحديث:
1-
إثبات خيار المجلس لكل من البائع والمشترى، من إمضاء البيع أو فسخه.
2-
أن مدته من حين العقد إلى أن يتفرقا من مجلس العقد.
3-
أن البيع يلزم بالتفرق بأبدانهما من مجلس العقد.
4-
أن البائع والمشترى لو اتفقا على إسقاطه بعد العقد وقبل التفرق، أو تبايعا على أن لا خيار لهما، لزم العقد، لأن الحق لهما، وكيفما اتفقا جاز.
5-
الفرق بين حق الله تعالى ومحض حق الآدمي.
فما كان لله، لا يكفى لجوازه رضا الآدمي، كعقود الربا.
وما كان للآدمي، جاز برضاه المعتبر، لأن الحق لا يعدوه.
6-
لم يحد الشارع للتفرق حداً، فمرجعه إلى العرف. فما عده الناس مفرقا، لزم البيع به.
فالخروج من البيت الصغير، أو الصعود إلى أعلاه، والتنحي في الصحراء ونحو ذلك، يعد تفرقاً منها لمدة الخيار، وملزماً للعقد.
7-
حرم العلماء التفرق، خشية الفسخ، لما روى أهل السنن من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال و" ولا يحل له أن يفارقه صاحبه، خشية أن يستقيله "، ولأنه تحايل لإسقاط حق الغير.
8-
أن الصدق في المعاملة وبيان ما في السلعة سبب للبركة في الدنيا والآخرة. كما أن الغش والكذب والكتمان، سبب محق البركة وزوالها.
وهذا شيء محسوس في الدنيا، فإن الذين تنجح تَجارتهم، وتروج سلعهم هم أهل الصدق والمعاملة الحسنة.
ما خسرت تجارة وفلست، إلا بسبب الخيانة. وما عند الله لأولئك وهؤلاء أعظم.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في ثبوت خيار المجلس:
فذهب جمهور العلماء، من الصحابة والتابعين والأئمة إلى ثبوته. ومن هؤلاء، على بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو برزة، وطاوس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن البصري، والشعبي، والزهري، والأوزاعى، والليث، وسفيان بن عيينة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، والبخاري، وسائر المحققين المجتهدين.
ودليلهم هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، كحديثي الباب وغيرهما. قال ابن عبد البر وحديث عبد الله بن عمر أثبت ما نقل الآحاد.
وذهب أبو حنيفة، ومالك وأكثر أصحابهما إلى عدم ثبوت خيار المجلس.
واعتذروا عن العمل بهذه الأحاديث بأعذار ضعيفة، أجاب عنها الجمهور بما أوهاها.
ومن تلك الاعتذارات.
أولاً: أن الحديث على خلاف عمل أهل المدينة، وعملهم حجة.
وردّ بأن كثيراً من أهل المدينة، يرون الخيار، ومنهم الصحابة المتقدم ذكرهم، وسعيد بن
المسيب. قال ابن عبد البر ولا تصح دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة، لأن سعيد بن المسيب وابن شهاب- وهما من أجل فقهاء المدينة- روى عنهما منصوصاً العمل به، وقد كان ابن أبى ذئب- وهو من فقهاء المدينة
…
معاصر لمالك- ينكر عليه ترك العمل به، فكيف يصح لأحد أن يدعى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة؟ هذا لا يصح القول به. أهـ. وعلى فرض أنهم مجمعون، فليس إجماعهم بحجة، لأن الحجة إجماع الأمة، التي ثبتت لها العصمة. قال ابن دقيق العيد: فالحق الذي لا شك فيه أن عمل أهل المدينة وإجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم ولا مستند للعصمة سواه. ا. هـ.
ثانياْ: أن المراد بـ " المتبايعان " في الحديث، المتساومان.
والمراد، بالخيار، قبول المشترى أو رده.
وردَ بأن تسمية السائم بائعا مجاز، والأصل الحقيقة.
وأيضاً لا يمكن تطبيق الحديث الذي ذكر فيه التفرق، على حال السائمين. قال ابن عبد البر: إذا حمل على المتساومين لا يكون حينئذ في الكلام فائدة إذ من المعلوم أن كل واحد من المتساومين بالخيار على صاحبه ما لم يقع إيجاب بالبيع والعقد والتراضي، فكيف يرد الخبر بما لا يفيد فائدة! وهذا ما لا يظنه ذو لب على رسول اللَه صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: أن المراد بالتفرق، تفرق الأقوال بين البائع والمشترى عند الإيجاب والقبول.
ورد بأنه خلاف الظاهر من الحديث، بل خلاف نص بعض الأحاديث وهو " أيمَا رَجل ابتاعَ مِنْ رَجل بيعة، فإنَ كل وَاحدٍ مِنْهُمَا بَالخِيَار، حتى يَتَفَرقا مِنْ مَكانِهِما ".
وأيضاً الإيجاب والقبول، لم يحصل بهما افتراق، وإنما حصل بهما إجماع والتئام.
وهذه نماذج من محاولتهم رد الحديث، سقت منها هذه الثلاثة ليعلم القاري أنهم لم يستندوا على شيء. وهم المالكيون والحنفيون.
كما قال ابن عبد البر.
وقد بالغ العلماء بالرد عليهم. حتى نقل عن بعضهم الخشونة على مالك، لرده الحديث الصحيح، وهو من رواته. وقد روى هذا الحديث من وجوه كثيرة عن جماعة من الصحابة، وإن خالف الحكم في هذين الحديثين بعض ظواهر النصوص من تمام البيع بالعقد بدون ذكر التفرق فإن الشرع قد يخرج بعض الجزئيات عن الكليات تعبدا أو لمصلحة تخصها.