الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ سُجُود السَهْو
السهو: هو النسيان، وهو الترك من غير علم، وليس على صاحبه حرج. حيث قال صلى الله عليه وسلم:" عُفِي لأمتي عن الخطأ والنسيان".
وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم لِحِكَم كثيرة.
منها: بيان أنه بشر، يقع منه ما يقع من غيره، إلا أنه لا يُقَرُّ عليه، عصمةً لمقام النبوة.
ومنها: التشريع للأمة في مثل هذه الحوادث.
ومنها: التسلية والتعزي لمن يقع منه، فإنه حين يعلم أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، فليس عليه حزن أن يخشى الخلل في دينه، أو النقص في إيمانه، إلى غير ذلك من أسرار الله تعالى.
وأسباب السجود له ثلاثة: 1- إما زيادة في الصلاة 2- أو نقص فيها. 3- أو شك.
وشرع سجود السهو إرضاء للرحمن، وإغضاباً للشيطان، وجبراً للنقصان.
الحديث الأول
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أبي هرَيرة قَالَ: صَلَّى بَنا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِحدَى صَلاتي العَشيِّ (1) .
قال ابن سرين: وَسَمَّاهَا أبو هُريرة وَلكِنْ نَسِيْتُ أنَا قَالَ فَصَلى بنَا رَكْعَتَيْن، ثَم سَلّمَ، فَقَامَ إِلى خَشبَةٍ مَعْرُوضَةٍ في المسجِدِ فَاتَّكََأ عَلَيْهَا كَأنَّهُ غَضبانُ وَوَضعَ يَدَهُ اليمْنَى عَلَى اليسْرَى، وَشَبَكَ بَيْن أصَابِعِهِ وَخَرَجَتِ السَّرعَان (2) مِنْ أبوَابِ المسْجدِ، فقالوا: أقُصِرَتِ الصَّلاةُ؟ وَفي القَوم، أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أن يُكلِّمَاهُ.
وَفي الْقَوْمِ رَجلٌ- فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لهُ " ذو الْيَدَيْن"- فقال: يَا رَسولَ الله، أنَسِيتَ أمْ قُصِرَتِ (3) الصلاة؟.
فقال: " لَم أنسَ وَلَم تُقْصَر " فقال: "أكَمَا يَقُولُ ذو اليَدَين (4) ؟
(1) إما العصر والظهر. وفي البخاري من حديث عمران بن حصين الجزم بأنها العصر.
(2)
بفتح السين والراء جمع سريع، وهم المسرعون في الخروج من المسجد.
(3)
بالبناء للمجهول. وقد جاء في الرواية للبخاري بهمزة الاستفهام، وجاء بغيرها في رواية أخرى له، وكذلك عند مسلم.
(4)
جاء في بعض طرق هذا الحديث من البخاري أن ذا اليدين قال له "بل نسيت".
" قالوا: نعم.
فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ثم سَلَّمَ ثُمَّ كَبر وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أو أطْوَلَ ثُمَّ رَفعَ رَأسهُ فَكَبَّرَ، ثم كبَّرَ وسَجَدَ مِثْلَ سُجُودهِ أوْ أطْوَلَ ثم رَفَعَ رَأسَهُ وَكَبَّرَ. فرُبَّمَا سألوه: ثُمَّ سَلَّمَ؟
قَالَ فَنُبِّئْتُ (1) أنَّ عِمْرانَ بنَ حُصَيْن قال: ثم سَلمَ ".
العَشيّ: ما بين زوال الشمس إلى غروبها.
المعنى الإجمالي:
يروي أبو هريرة، رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى بأصحابه إما صلاة الظهر أو العصر (2) .
فلما صلى الركعتين الأوليين سلّم.
ولما كان صلى الله عليه وسلم كاملا، لا تطمئن نفسه إلا بالعمل التام، شعر بنقص وخلل، لا يدرى ماسببه.
فقام إلى خشبة في المسجد واتكأ عليها بنفس قَلِقَة، وَشبَّك بين أصابعه. لأن نفسه الكبيرة تحس بأن هناك شيئا لم تستكمله.
وخرج المسرعون من المصلين من أبواب المسجد، وهم يتناجون بينهم، بأن أمراً حدث، وهو قصر الصلاة، وكأنهم أكبروا مقام النبوة أن يطرأ عليه النسيان.
ولهيبته صلى الله عليه وسلم في صدورهم لم يَجْرُؤ واحد منهم أن يفاتحه في هذا الموضوع الهام، بما في ذلك أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.
إلا أن رجلا من الصحابة يقال له. " ذو اليدين " قطع هذا الصمت بأن سأل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟.
فقال صلى الله عليه وسلم بناء على ظنه-: لم أنس ولم تقصر.
حينئذ لما علم " ذو اليدين " أن الصلاة لم تقصر، وكان متيقنا أنه لم يصلها إلا ركعتين، علم أنه صلى الله عليه وسلم قد نَسِيَ، فقال: بل نسيت.
فأراد صلى الله عليه وسلم أن يتأكد من صحة خبر ذي اليدين، فقال لمن حوله من أصحابه: أكما يقول ذو اليدين من أني لم أصل إلا ركعتين؟ فقالوا: نعم. حينئذ تقدم صلى الله عليه وسلم، فصلى ما ترك من الصلاة.
وبعد التشهد، سلم، ثم كبر وهو جالس، وسجد مثل سجود صُلْب الصلاة أو أطول، ثم رفع رأسه من السجود فكَبَّرَ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم سلم ولم يتشهد.
خلاف العلماء:
الشك في الصلاة أحد أسباب سجود السهو:
روى مسلم عن أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى، ثلاثا أم أربعاً؟ فلينظر في الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ".
فقوله: " إذا شك " هو
(1) نبئت إلخ من قول ابن سرين.
(2)
الشك من محمد بن سرين كما بينه المصنف.
موضع الخلاف، فذهب مالك والشافعي، وهو المشهور عند أصحاب أحمد، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، ورييعة، ويروي عن ابن عمر، وابن عباس، ذهبوا إلى أن كل من لم يقطع فهو شاك، وإن كان أحد الجانبين راجحا عنده، فجعلوا من غلب على ظنه شاكا، وأمروه أن يقطع ما شك فيه، ويبني على ما استيقن، وقالوا: الأصل عدم ماشك فيه، فرجحوا استصحاب الحال مطلقاً، وإن قامت الشواهد والدلائل على خلافه، ولم يعتبروا التحري بحال.
وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه إلى أن المنفرد يبني على اليقين، لحديث أبي سعيد. وأما الإمام فيبنى على غالب ظنه، وقد اختار ذلك الخرقي من أصحاب أحمد، والموفق، وقال الموفق: إنما خصصنا الإمام بذلك، لأن له من ينبهه بخلاف المنفرد.
والقول الثالث ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول كثير من السلف والخلف، ومروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما. وهذا القول هو التحري والاجتهاد. وأن البناء على غالب الظن للإمام وللمنفرد مستند إلى أصح أحاديث الباب، وهو حديث ابن مسعود، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين " فجعل ما فعله بعد التحري تماما لصلاته، وجعله هنا متما لصلاته ليس شاكا فيها، وما دل على الإثبات من أنواع الأدلة فهو راجح على مجرد استصحاب النفي، وهذا هو الصواب الذي أمر المصلى أن يتحراه، فإن ما دل على أنه جمع أربعة من أنواع الأدلة راجح على استصحاب عدم الصلاة. وهذا حقيقة هذه المسألة. ومثل هذا يقال في عدد الطواف والسعي ورمي الجمار وغير ذلك.
الأحكام المستنبطة من الحديث:
1-
جواز السهو من الأنبياء عليهم السلام في أفعالهم البلاغية، إلا أنهم لا يُقَرُّونَ عليه. أما الأقوال البلاغية فالسهو فيها ممتنع على الأنبياء، ونقل في ذلك الإجماع.
2-
الحِكَمُ والأسرار التي تترب على هذا السهو، من بيان التشريع والتخفيف عن الأمة بالعفو عن النسيان منهم.
وبيان أن الأنبياء بشر، يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من السهو في أفعالهم لا أقوالهم البلاغية.
3-
أن الخروج من الصلاة قبل إتمامها- مع ظن أنها تمت- لا يقطعها، بل يجوز البناء عليها، وإتمام الناقص منها.
4-
أن الكلام في صلب الصلاة من الناسي لا يبطلها، خلافاً لمن أبطلها بذلك من العلماء. فقد تكلم فيها ذو اليدين والنبي صلى الله عليه وسلم وبعض المصلين.
5-
صحة بناء ما ترك من الصلاة على أوَّلِهَا، ولو طال الفصل.
وكذلك لو نسي السجود، وفعل ما ينافي الصلاة من كلام وغيره، فقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد بعد السلام والكلام.
- أن الحركة التي من غير جنس الصلاة، لا تبطل الصلاة ولو كثرت، إذا وقعت من الجاهل والناسي.
7-
وجوب سَجْدَتَي السهْوِ لمن سها في الصلاة، فزاد فيها، أو نقص منها ليجبر به الصلاة، ويرغم به الشيطان.
8-
أن سجود السهو لا يتعدد، ولو تعددت أسبابه.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم سلَّم ونقص الصلاة، ومع ذلك اكتفى بسجدتين.
9-
أن سجود السهو يكون بعد السلام، إذا سلم المصلى عن نقص في الصلاة وماعداه يكون قبل السلام، وهو مذهب الحنابلة، وهو تفصيل يجمع الأدلة، خلافا لمن قال: السجود كله بعد السلام، وهو مذهب الحنفية، أوكله قبل السلام وهو مذهب الشافعية.
10-
أن سهو الإمام لاحِقٌ للمأمومين لتمام المتابعة والاقتداء، ولأن ما طرأ على صلاة الإمام من النقص يلحق من خلفه من المصلين.
11-
أما التشهد بعد سجدتي السهو فقد قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس في شيء من أقواله صلى الله عليه وسلم أمر بالتشهد بعد السجود، ولا في الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول أن يتشهد بعد السجود، فلو كان تشهد لذكر ذلك من ذكر أنه تشهد. وعمدة من أثبت التشهد حديث عمران، وهو غريب، ليس لمن رواه متابع، وهذا يوهي الحديث.
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بْن بُحَيْنَةَ- وكانَ مِنْ أصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهمُ الظهْرَ، فَقَامَ فِي الركعَتَينِ الأوليين ولم يَجْلس (1) فَقَامَ الناسُ مَعَهُ، حتى إِذَا قضَى الصَّلاةَ وانتظَرَ الناسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّر وهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْل أنْ يُسَلِّم ثمَّ سَلَّم.
المعنى الإجمالي:
صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر، فلما صلى الركعتين الأوليين، قام بعدهما، ولم يجلس للتشهد الأول، فتابعه المأمومون على ذلك.
حتى إذا صلى الركعتين الأخريين، وجلس للتشهد الأخير، وفرغ منه، وانتظر الناس تسليمه، كبَّر وهو في جلوسه، فسجد بهم سجدتين قبل أن يسلم مثل سجود صُلْبِ الصلاة، ثم سلم.
ما يؤخذ من الحديث:
1-
وجوب سجود السَّهْو لمن سها في الصلاة وترك التشهد الأول.
2-
أن التشهد الأول، ليس بركن، ولو كان ركناً، لما جبر النقص به سجودُ السَّهْوِ ويؤخذ وجوبه من أدلة أخرى.
3-
أن تعدد السهو يكفي له في سجدتان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ترك -هنا- الجلوس والتشهد معاً.
4-
أهمية متابعة الإمام، حيث أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على متابعته وتركهم الجلوس مع علمهم بذلك. فقد زاد النسائي وابن خزيمة والحاكم:"فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته".
5-
أن سهو الإمام لاحق للمأمومين، لأنهم تركوا التشهد عمداً، والمتعمد ليس عليه سهو لترك الواجب، وإنما تبطل صلاته في غير مثل هذه الصورة.
6-
أن السجود في مثل هذه الحال، يكون قبل السلام.
7-
أن السلام يلي سَجْدَتي السهو، فلا يفصل بينهما بتشهد أو دعاء.
(1) رواية مسلم بالفاء، فلم يجلس، استدل بها عياض على أنه لم يرجع إلى الجلوس بعد التنبيه له.