الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
(1)
[ق 63]
الإيمان هل هو مخلوق أو غير مخلوق
؟
الجواب: أن هذه المسألة نشأ
(2)
النزاعُ فيها لما ظهرت محنة الجهمية في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ وهي محنة الإمام أحمد وغيره من علماء المسلمين، فقد جرت فيها أمور يطول وصفها هنا. لكن لما ظهر القولُ بأن القرآن كلام الله غير مخلوقٍ، وأطفأ اللهُ نار الجهمية المعطلة، صارت طائفةٌ يقولون: إن كلام الله الذي أنزله مخلوق، ويعبّرون عن ذلك بـ «اللفظ» ، فصاروا يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، أو تلاوتنا أو قراءتنا له مخلوقة. وليس مقصودهم مجرّد أصواتهم
(3)
وحركاتهم، بل يدرجون في كلامهم نفس كلام الله الذي نقرؤه بأصواتنا وحركاتنا. وعارضهم طائفةٌ أخرى قالوا: ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة. وردَّ الإمام أحمد على الطائفتين، وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوقٍ فهو مبتدعٌ.
وتكلم الناس حينئذٍ في الإيمان فقالت طائفة: الإيمان مخلوق، وأدخلوا في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان، مثل قوله:«لا إله إلا الله» ، فصار مقتضى قولهم أنّ نفس هذه الكلمة مخلوقة لم يتكلم الله بها؛ فبدَّع
(1)
هذا السؤال في «مجموع الفتاوى» : (7/ 655 - 665).
(2)
الأصل تحتمل: «فشا» والمثبت من (ف)، وسيأتي نظيرها (ص 79).
(3)
(ف): «كلامهم» .
الإمامُ أحمد هؤلاء، وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله»
(1)
، أفيكون قول «لا إله إلا الله» مخلوقًا
(2)
!
ومراده أن من قال: هي مخلوقة مطلقًا، كان مقتضى قوله أنّ الله لم يتكلم بهذه الكلمة، كما أن من قال: ألفاظنا وتلاوتنا وقراءتنا القرآن مخلوقة، كان مقتضى كلامه أنّ الله لم يتكلم بالقرآن الذي أنزله، وأن القرآن المنزَّل ليس هو كلام الله، وأن يكون جبريل نزل بمخلوقٍ ليس هو كلام الله، والمسلمون يقرؤون قرآ نًا [مخلوقًا] ليس هو كلام الله.
وقد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله تعالى، وإن كان مسموعًا عن المبلِّغ عنه، فإنَّ الكلام قد يُسمع من المتكلِّم به، كما سمعه موسى بلا واسطة [ق 64] هذا سماع مطلق، كما يرى الشيء رؤيةً مطلقةً. وقد يسمعه مِن المبلِّغ عنه، فيكون قد سمعه سماعًا مقيدًا، كما يرى الشيء [في]
(3)
الماء والمرآة رؤيةً مقيَّدةً لا مطلقة، ولما قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 62] كان معلومًا عند جميع من خُوطب بالقرآن أنه يُسمع سماعًا مقيدًا من المبلغ، ليس المراد به أنه يسمع من الله كما سمعه موسى بن عمران، فهذا المعنى هو الذي عليه السلف والأئمة.
(1)
أخرجه مسلم (35) بنحوه مطولًا، وعند البخاري (9) بلفظ «بضع وستون شعبة .. » من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو كذلك في (ف).
(2)
الأصل: «مخلوقة» .
(3)
من (ف).
ثم بعد ذلك حدث أقوال أخر، فظن طائفةٌ أنه سمع من الله. ثم
(1)
من هؤلاء من قال: إنه يسمع صوت القارئ من الله، ومنهم من قال: إن صوت الرب حَلَّ في العبد، ومنهم من يقول: ظهر فيه ولم يحل فيه، ومنهم من يقول: لا نقول ظهر ولا حل، ثم منهم من يقول: الصوتُ المسموع غير مخلوق أو قديم، ومنهم من يقول: يسمع منه صوتان: مخلوق، وغير مخلوق. ومن القائلين بأنه مسموع من الله من يقول: بأنه يسمع المعنى القديم القائم بذات الله مع سماع الصوت المُحْدَث، قال هؤلاء: يسمع القديم والمحدث، كما قال أولئك: يسمع صوتين قديمًا ومحدثًا. وطائفة أخرى قالت: لم يسمع الناسُ كلام الله، لا من الله ولا من غيره، قالوا: لأن الكلام لا يُسمع إلا من المتكلم. ثم من هؤلاء من قال: يسمع حكايته، ومنهم من قال: يسمع عبارته لا حكايته، ومن القائلين بأنه مخلوق من قال: يُسمع شيئان الكلام المخلوق الذي
(2)
خلقه، والصوت الذي للعبد.
وهذه الأقوال كلها مبتدعةٌ؛ لم يقل السلف شيئًا منها، وكلها باطلة شرعًا وعقلًا، ولكن ألجأ أصحابَها إليها اشتراكٌ في الألفاظ واشتباه في المعاني، فإنه إذا قيل: سمعتُ [كلام] زيدٍ، أو قيل: هذا كلام زيد، فإن هذا يقال على كلامه الذي تكلم هو به بلفظه ومعناه، سواء كان مسموعًا
(1)
«كما سمعه موسى
…
ثم» سقط من (ف).
(2)
(ف): «والذي» .
منه أو من المبلغ عنه، مع العلم بالفرق بين الحالين، وأنه إذا سُمِع منه سُمع بصوته، وإذا سُمع من غيره سُمع من ذلك المبلِّغ لا بصوت المتكلم، وإن كان اللفظ لفظ المتكلم.
وقد يقال مع [ق 65] القرينة: هذا كلام فلان، وإن ترجم عنه بلفظ آخر، كما حكى الله كلامَ من يحكي قولَه من الأمم باللسان العربي، وإن كانوا إنما قالوا بلفظٍ عِبْري
(1)
أو سُرياني أو قبطي أو غير ذلك. وهذه الأمور مبسوطة في موضعٍ آخر.
والمقصود أنه نشأ
(2)
بين أهل السنة والحديث نزاع في مسألتي الإيمان والقرآن بسبب
(3)
ألفاظ مجملة ومعاني متشابهة. وطائفة من أهل العلم والسنة كالبخاري صاحب «الصحيح» ، ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما قالوا: الإيمان مخلوق. وليس مرادهم شيئًا من صفات الله تعالى، وإنما مرادهم بذلك أفعال العباد. وقد اتفق أئمة السنة
(4)
على أن أفعال العباد مخلوقة، وأصوات العباد مخلوقة، وقال يحيى بن سعيد القطان: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة.
(1)
الأصل: «عربي» خطأ.
(2)
تحتمل: «فشا» . وانظر ما سبق (ص 76).
(3)
العبارة في الأصل: «في أنها ليست ألفاظ» ، والتصويب من (ف)، وانظر ما سبق قبل أسطر من قوله:«ولكن ألجأ أصحابها إليها اشتراك في الألفاظ واشتباه في المعاني» .
(4)
(ف): «المسلمين» .
وصار بعضُ الناس يظنّ أنّ البخاريّ وهؤلاء خالفوا أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة، وجرى للبخاريّ محنة بسبب ذلك، حتى زعم بعض الكذّابين أنّ البخاري لما مات أمر أحمد بن حنبل أن لا يُصلى عليه، وهذا كذبٌ ظاهر؛ فإنّ البخاري ــ رحمه الله ــ مات بعد أحمد بن حنبل ــ رحمه الله ــ بنحو خمس
(1)
عشرة سنة، تُوفي أحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين، وتُوفي البخاري سنة ست وخمسين ومائتين، وكان أحمد بن حنبل يحبّ البخاري ويبجّله ويعظّمه، وأما تعظيم البخاري وأمثاله الإمامَ أحمد فهو أمر مشهور.
ولما صنف البخاريّ كتابه في «خلق أفعال العباد» ــ وذكر في آخر كتابه «الصحيح»
(2)
أبوابًا في هذا المعنى ــ ذكر
(3)
أن كلًّا من الطائفتين القائلين بأن لفظنا بالقرآن مخلوق، والقائلين بأنه غير مخلوق ينتسبون
(4)
إلى الإمام أحمد بن حنبل، ويدَّعون أنهم على قوله، وكلام الطائفتين كلام مَنْ لم يفهم [دِقّة]
(5)
كلام أحمد رضوان الله عليه.
(1)
الأصل: «خمسة» .
(2)
انظر الأرقام (7485 - 7515). والعبارة في (ف): «وذكر في آخر الكتاب» .
(3)
يعني في كتاب «خلق أفعال العباد» (ص 62).
(4)
الأصل: «والقائلون
…
» والصواب ما أثبت. وفي الأصل: «يستنسبون» ، و (ف):«ينسبون» وما أثبته أقرب.
(5)
الأصل: «تفهم ذرة من كلام» تحريف. والمثبت من كتاب البخاري و (ف).
وطائفة أخرى كأبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي
(1)
بكر بن الطيب، والقاضي أبي يعلى ــ وغيرهم ممن يقولون: إنهم على اعتقاد أحمد بن حنبل وأئمة أهل السنة والحديث ــ قالوا: أحمد [ق 66] وغيره إنما كرهوا أن يقال: لفظت بالقرآن؛ لأن اللفظ هو الطرح والنبذ.
وطائفةٌ أخرى كأبي محمد بن حزم وغيره ممن يقول: إنه متبع لأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة [إلى غير هؤلاء ممن ينتسب إلى السنة ومذهب]
(2)
أئمة الحديث، ويقولون: إنهم على اعتقاد أحمد بن حنبل ونحوه من أهل السنة، وهم لم يعرفوا حقيقة ما كان يقوله أهل السنة كأحمد بن حنبل. وقد بسطنا أقوال السلف والأئمة كأحمد بن حنبل وغيره في غير هذا الموضع.
خلا
(3)
البخاري وأمثاله، فإنَّ هؤلاء من أعرف الناس بقول أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة.
وقد رأيت طائفة تنتسب إلى السنة والحديث كأبي نصر السِّجْزي وأمثاله ممن يردّون على أبي عبد الله البخاري يقولون: إن أحمد بن حنبل كان يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق. وذكروا روايات كاذبة لا
(1)
الأصل: «أبو» . وكذا في الموضع الثاني.
(2)
العبارة في الأصل: «ممن ينتسب إلى السنة، وإلى مذهب أئمة السنة كأحمد بن حنبل وغيره من أمثاله، وقد بسطنا أقوال السلف وأئمة أهل .. » . وفيها خلط وتكرار، وما بين المعكوفين من (ف) لعله يستقيم به السياق وإن بقي فيه بعض ذلك.
(3)
كذا، و (ف):«وأما» .
ريب فيها، والقول المتواتر عن أحمد بن حنبل من رواية ابنيه صالح وعبد الله، وحنبل، والمرُّوذي، وفُوْرَان
(1)
، ومن لا يُحصى= يبين أن أحمد كان ينكر على هؤلاء [وهؤلاء]، وقد صنّف أبو بكر المرُّوذي في ذلك مصنفًا، ذكر فيه قول أحمد بن حنبل وغيره من أئمة العلم، وقد ذكر ذلك الخلال في كتاب «السنة»
(2)
، وذكر بعضَه أبو عبد الله بن بطّة في كتاب «الإبانة»
(3)
وغيره، وقد ذكر كثيرًا من ذلك أبو عبد الله بن منده فيما صنفه في مسألة اللفظ
(4)
.
وقال أبو محمد بن قتيبة الدينوري
(5)
: لم يختلف أهل الحديث في شيء من اعتقادهم إلا في مسألة اللفظ. ثم ذكر ابن قتيبة ــ رحمه الله ــ أن اللفظ يراد به مصدر لفَظَ يلفظ، فاللفظ الذي هو فعل العبد يُرَاد
(6)
به نفس الكلام الذي هو فعل العبد وصوته وهو مخلوق، وأما نفس كلام الله الذي يتكلم به العباد فليس مخلوقًا.
وكذلك مسألة الإيمان لم يقل قط أحمد بن حنبل: إن الإيمان غير
(1)
هو: عبد الله بن محمد بن المهاجر عرف بـ (فوران) أبو محمد، كان من خواص أصحاب أحمد (ت 256). انظر «طبقات الحنابلة»:(2/ 42).
(2)
(5/ 125 - 145).
(3)
«الإبانة - الرد على الجهمية» : (1/ 329 وما بعدها - ت الوابل).
(4)
المسمى: الرد على اللفظية. لم يعثر عليه بعد.
(5)
في «الاختلاف في اللفظ» (ص 11، 43 وما بعدها).
(6)
العبارة في (ف): «لفظ يلفظ لفظًا، ويراد
…
».
مخلوق، ولا قال: إنه قديم، بل ولا [ق 67] قال أحمد ولا غيره من السلف: إن القرآن قديم، وإنما قالوا: القرآن كلام الله منزَّل غير مخلوق. ولا قال قطُّ أحمد بن حنبل ولا أحد من السلف: إن شيئًا من صفات العبد وأفعاله غير مخلوقة، لا صوته بالقرآن، ولا لفظه بالقرآن، ولا إيمانه ولا صلاته، ولا شيء من ذلك.
ولكن المتأخرون انقسموا في هذا الباب انقسامًا كثيرًا، فالذين كانوا يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، منهم من أطلق القول بأن الإيمان غير مخلوق، ومنهم من يقول: قديم في هذا وهذا، ومنهم من يفرق بين الأقوال الإيمانية والأفعال، فيقولون: الأقوال غير مخلوقة أو قديمة، وأفعال
(1)
الإيمان مخلوقة. ومنهم من يقول في أفعال الإيمان: إن المحرَّم منها مخلوق، وأما الطاعة كالصلاة وغيرها، فمنهم من يقول: هي غير مخلوقة، ومنهم من يمسك [فلا يقول هي مخلوقة ولا غير مخلوقة، ومنهم من يمسك]
(2)
عن الأفعال المحرمة، ومنهم من يقول: بل أفعال العباد كلها غير مخلوقة أو قديمة، ويقول: ليس مرادي بالأفعال الحركات
(3)
، بل مرادي الثواب الذي يجيء يوم القيامة، ويحتجّ هذا بأن القدر غير مخلوق، والشرع غير مخلوق، ويجعل أفعال
(1)
الأصل: «وفعال» والمثبت من (ف).
(2)
من (ف).
(3)
رسمها في الأصل: «المركبات» والمثبت من (ف).
العباد هي القدر والشرع، ولا يفرق بين القدر والمقدور، والشرع والمُشَرَّع، فإنّ الشرع
(1)
الذي هو أمْرُ الله
(2)
ونهيه غير مخلوقٍ، وأما الأفعال المأمور بها والمنهي عنها فلا ريب أنها مخلوقة، وكذلك قَدَر الله الذي هو علمه ومشيئته وكلامه غير مخلوق، وأما المقدَّرات والآجال والأرزاق والأعمال فكلها مخلوقة. وقد بُسِط الكلام على هذه الأقوال وقائليها في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن نبين أن الإمام أحمد ومَن قَبله من أئمة السنة ومن اتبعه كلهم بريئون من الأقوال المبتدعة المخالفة للشرع والعقل، فلم يقل أحدٌ منهم إن القرآن قديم، لا معنى قائم بالذات، ولا أنه تكلم به في القِدَم بحرفٍ وصوتٍ قديمين، ولا تكلم به في القدم بحرفٍ قديم. لم يقل أحد [ق 68] منهم لا هذا ولا هذا، وإنما الذي اتفقوا عليه: أن كلام الله منزَّل غير مخلوق، وأنَّ الله لم يزل متكلِّمًا إذا شاء، فكلام الله لا نهايةَ له، وهو بمعنى أنه لم يزل متكلمًا بمشيئته، لا بمعنى أن الصوت المعين قديم، كما قا ل تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] الآية، كما قد بَسَطتُ الكلامَ
(3)
على
(1)
«فإن الشرع» تكررت في الأصل.
(2)
بعده في الأصل «به» خطأ.
(3)
العبارة في (ف) بعد الآية: «وهو قديم بمعنى أنه لم يزل الله متكلمًا بمشيئته لا بمعنى أن الصوت المعين قديم، كما بسطت
…
». وانظر المجلد الثاني عشر من «مجموع الفتاوى- القرآن كلام الله» .
اختلاف أهل الأرض في كلام الله.
فمنهم من يجعله فيضًا من العقل الفعَّال في النفوس، كقول طائفة من الصابئة والفلاسفة، وهو أفسد الأقوال. ومنهم من يقول: هو مخلوق خَلَقه بائنًا
(1)
عنه، كقول الجهمية والنجَّارية
(2)
والمعتزلة. ومنهم من يقول: هو معنى قديم قائم بالذات، كقول ابن كُلَّاب الأشعري. ومنهم من يقول: هو حروف وأصوات قديمة كقول ابن سالم
(3)
[وطائفة. ومنهم من يقول: تكلم بعد أن لم يكن متكلمًا، كقول ابن كرَّام وطائفة]
(4)
.
والصواب من هذه الأقوال قول السلف والأئمة كما قد بسطتُ ألفاظهم في غير هذا الموضع.
ولما ظهرت المحنة كان أهل السنة يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. وكانت الجهمية من المعتزلة وغيرهم يقولون: إنه مخلوق.
وكان أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب القطان له فضيلة ومعرفة ردّ [بها] على الجهمية والمعتزلة نُفاة الصفات، وبيَّن أنّ الله نفسَه فوق
(1)
غير محررة في الأصل.
(2)
الأصل: «البخارية» تحريف. والنجارية نسبةً إلى الحسين بن محمد النجّار، وهي إحدى فرق الجبرية. انظر «اختلاف الإسلاميين» (ص 135 ــ 136).
(3)
يعني: أبا الحسن بن سالم، وهو من تنسب إليه طائفة السّالمية، انظر «مجموع الفتاوى»:(5/ 483).
(4)
ما بين المعكوفين ليس في الأصل، والاستدراك من (ف).
العرش، وبَسَط الكلام في ذلك، ولم يتخلص من شبهة الجهمية كلّ التخليص، بل ظنّ أن الربّ لا يتصف بالأمور الاختيارية التي تتعلق [بقدرته ومشيئته، فلا يتكلم]
(1)
بمشيئته وقدرته، ولا يحب العبد ويرضى عنه بعد إيمانه وطاعته، ولا يغضب عليه ويسخط بعد كفره ومعصيته، بل ما زال
(2)
محبًّا راضيًا أو غضبان ساخطًا على من علم أنه يموت مؤمنًا أو كافرًا، ولا يتكلم بكلام بعد كلام، وقد قال تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [آل عمران: 59 ــ 60]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11]، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31][ق 69] وقال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4]، وهذا أصل كبير قد بُسط الكلامُ عليه في غير هذا الموضع.
وإنما المقصود هنا التنبيه على مآخذ
(3)
اختلاف المسلمين في مثل
(1)
ما بين المعكوفين من (ف).
(2)
«ما زال» سقطت من (ف).
(3)
رسمها في الأصل: «ما أخذ» .
هذه المسائل، وإذا عُرِف ذلك فالواجب أن نُثبت ما أثبته الكتاب والسنة، وننفي ما نفاه الكتاب والسنة، واللفظ المجمل الذي لم يَرِد به الكتاب والسنة لا يطلق في النفي والإثبات حتى يبين المراد به.
كما إذا قال القائل
(1)
: الرب متحيِّز، أو غير متحيِّزٍ، أو هو في جهة، أو هو في غير جهة.
قيل: هذه ألفاظ مجملة لم يَرِد بها الكتاب والسنة لا نفيًا ولا إثباتًا، ولا نطق أحدٌ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان بإثباتها ولا نفيها. فإن كان مرادك بقولك: إنه متحيّز، أنه محيط به شيءٌ من المخلوقات أو يفتقر إليها، فالله تعالى غنيٌّ عن كلّ شيء لا يفتقر إلى العرش ولا إلى غيره من المخلوقات
(2)
، بل هو بقدرته يحمل العرشَ وحَمَلَتَه، وكذلك هو العليّ الأعلى الكبير العظيم الذي لا تُدركه الأبصارُ وهو يدرك الأبصارَ، وهو سبحانه أكبر من كل شيءٍ، وليس متحيزًا
(3)
بهذا الاعتبار.
وإن كان مرادك بأنه بائن عن مخلوقاته، عليٌّ عليها فوق
(4)
سماواته على عرشه، فهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، كما ذكر ذلك أئمة السنة، مثل عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل،
(1)
العبارة مكررة في الأصل.
(2)
«أو يفتقر
…
المخلوقات» سقط من (ف).
(3)
الأصل: «متحيزٌ» .
(4)
تكررت في الأصل.
وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أعلام الإسلام، وكما دلّ على ذلك صحيح المنقول وصريح المعقول، كما هو مبسوط في موضعٍ آخر.
وكذلك لفظ «الجهة» إن أراد بالجهة أمرًا موجودًا
(1)
يحيط بالخالق أو يفتقرُ إليه، فكلّ موجود سوى الله فهو مخلوق لله، [و] الله خالق كل شيء، وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو غني عن كل ما سواه.
وإن كان [ق 70] مراده أن الله ــ سبحانه ــ فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، فهذا معنى صحيح، سواء عبَّر عنه بلفظ الجهة أو بغير لفظ الجهة.
وكذلك لفظ «الجبر» إذا قال: هذا
(2)
العبد مجبورٌ، أو غير مجبورٍ؟ قيل له: إن أردت بالجبر أنه ليس له مشيئة، أو ليس له قدرة، أو ليس له فعل= فهذا باطل، فإن العبد فاعل لأفعاله الاختيارية، وهو يفعلها بقدرته ومشيئته. وإن أراد بالجبر أن الله خالق مشيئته وقدرته وفعله
(3)
، فالله خالق ذلك كله.
وكذلك إذا قال: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ قيل له: ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئًا من صفات الله وكلامه كقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 16] وإيمانه الذي دلّ عليه اسمه «المؤمن» ، فهذا غير مخلوق، أو
(1)
الأصل: «أمرٌ موجود» .
(2)
(ف): «هل» .
(3)
يعني مشيئة العبد وقدرته وفعله.
تريد به شيئًا من أفعال العباد وصفاتهم؟ فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد
(1)
الُمحْدَث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة، ولا يقول هذا من يتصوَّر ما يقول. فإذا حصل الاستفسار والتفصيل
(2)
ظهر الهدى وبان السبيل، وقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء
(3)
من جهه اشتراك الأسماء.
ومثل هذه المسألة وأمثالها مما كثر فيه نزاع الناس بالنفي والإثبات إذا فصّل
(4)
فيها الخطاب ظهر فيها الخطأ من الصواب. والواجب على الخلق: أن ما أثبته الكتاب والسنة النبوية أثبتوه، وما نفاه الكتاب والسنة نفوه، ومالم ينطق به الكتاب والسنة لا بنفي
(5)
ولا إثباتٍ فصَّلوا القولَ فيه، واستثبتوا القائل
(6)
، فمن أثبت ما أثبته الله ورسوله فقد أصاب، ومن نفى ما نفاه الله ورسولُه فقد أصاب، ومن أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته فقد لَبَس الحق بالباطل، فيجب أن يفصّل ما في كلامه من حقٍّ وباطل
(7)
، فيتبع الحقَّ ويترك الباطل.
(1)
تكررت في الأصل.
(2)
الكلمتان غير محررتين في الأصل، رسمهما:«الاسنتشار والتعفول» .
(3)
كتبت أولًا «العلماء» ثم عدلت.
(4)
الأصل: «حصل» والتصحيح من (ف).
(5)
الأصل: «بلا نفي» .
(6)
(ف): «استفصلوا فيه قول» .
(7)
في الأصل بعده: «الوريقة أولها» . وانظر التعليق السالف قبل صفحات.