الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكلّ ما خالف الكتاب والسنة فإنه مخالف أيضًا لصريح المعقول، فإنّ العقل الصريح لا يخالف شيئًا من النقل الصحيح، كما أن المنقول الثابت [ق 71] عن الأنبياء لا يخالف بعضُ ذلك بعضًا، ولكن كثير من الناس يظنّ تناقض ذلك، وهؤلاء من الذين اختلفوا في الكتاب {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
ونسأل الله العظيم أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا.
فصل
* وأما السؤال عن
الإمام إذا استقبل القبلة في الصلاة هل يجوز لأحد أن يتقدم عليه
؟ وهل تبطل صلاة الذين يتقدمون إمامهم؟
والجواب: إن السنة للمؤتمّين أن يقفوا خلف الإمام مع الإمكان، كما كان المسلمون يصلّون خلفَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإذا صلى الإمام بواحد أقامه عن يمينه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن عباس لما قام يصلي معه بالليل، فوقف عن يساره، فأداره عن يمينه، وحديثه في «الصحيحين»
(1)
. وكذلك في الصحيح ــ مسلم
(2)
ــ من حديث جابر: أنه أوقفه عن يمينه،
(1)
أخرجه البخاري (117)، ومسلم (763). ووقع في الأصل:«وجدته في .. » والصواب ما أثبت.
(2)
(3010). وأخشى أن تكون «مسلم» مقحمة.
فلما جاء جبّار
(1)
بن صخر أوقفهما جميعًا خلفه، فلهذا كانت السنة إذا كان المأمومون اثنين فصاعدًا يقفوا خلفه. وإن وقف بين الاثنين جاز؛ كما وقف ابن مسعود بين
(2)
علقمة والأسود وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك
(3)
.
وقد قيل: إنما ذاك لأن أحدهما كان صبيًّا.
وأما الوقوف قدام الإمام [ففي صلاة المأموم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها تصح مطلقًا، وإن قيل إنها تكره]
(4)
فهذا هو المشهور في مذهب مالك، والقول القديم للشافعي.
والثاني: لا تصح الصلاة مطلقًا، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي في الجديد، وهو المشهور من مذهب أحمد عند كثيرٍ من أصحابنا، على ما نقل عنه من إطلاق القول، ولكن نصوصه تدلُّ على الفرق كما سنذكره.
والثالث: أنه إن تقدم لحاجةٍ صحت الصلاة وإلا فلا، وهذا مذهب كثيرٍ من أهل العلم، وهو قول في مذهب أحمد. وأهل هذا [ق 72] القول يقولون: إذا لم يمكن الصلاةُ خلفه لزحمةٍ أو غيرها ــ كما قد يحصل في
(1)
الأصل: «جابر» خطأ.
(2)
الأصل: «بن» خطأ.
(3)
أخرجه مسلم (534).
(4)
سقط من الأصل، والإكمال من سياق قريب في «الفتاوى»:(23/ 404).
الجُمَع في بعض الأوقات، وكما قد يحصل في الجامع أحيانًا ــ فالصلاة أمامه جائزة، وقد نصَّ أحمد على ما مضت
(1)
به السنة في حديث أم ورقة الأنصارية
(2)
: أن المرأة تؤمّ الرجال عند الحاجة، كقيام رمضان إذا كانت تقرأ وَهُم لا يقرؤون، وتقف خلفهم لأن المرأة لا تقف في صفّ الرجال ولا
(3)
تكون أمامهم، فنصَّ على أنّ المأمومين في هذا الموضع يكونون قدّام الإمام كما جاء في الحديث، وذلك لئلا تكون المرأة في صفّ الرجال أو تكون أمامهم، فهنا كان تقدم المأموم على الإمام أولى في الشرع من تقدم النساء على الرجال أو مصافة المرأة للرجال.
مع أنه سُئل عن المرأة إذا وقفت في صفِّ الرجال هل تبطل صلاة الرجال الذين يحاذونها؟ فتوقَّف في ذلك
(4)
. ومسائل التوقف تخرَّج على وجهين.
(1)
رسمها في الأصل: «نصت، أونطقت» ولعل الصواب ما أثبت.
(2)
أخرجه أحمد (27283) أبو داود (591)، وابن خزيمة (1676)، والدارقطني:(1/ 279)، والحاكم:(1/ 203)، والبيهقي:(3/ 130). وفي إسناده عبد الرحمن ابن خلاد وفيه جهالة. وانظر «البدر المنير» : (4/ 389 ــ 393).
(3)
الأصل: «فلا» .
(4)
ذكر المسألة عن الإمام ابناه: صالح كما في «الانتصار» : (2/ 397) لأبي الخطاب، وعبد الله كما في «مسائله»:(2/ 378)، وانظر «الفروع»:(2/ 27)، و «الإنصاف»:(2/ 286). أفاده (العمير).
وتنازع أصحابه في ذلك فقالت طائفة ببطلان الصلاة كمذهب أبي حنيفة، وهو قول أبي بكر وأبي حفص، وقالت طائفة: لا تبطل، كمذهب الشافعي، وهو قول أبي حامد والقاضي وأتباعه. وهذا التفريق بين حالٍ وحالٍ.
وجواز التقدّم على الإمام للحاجة هو أظهر الأقوال، فإن جميع واجبات الصلاة تسقط عند العجز وتصلَّى بدونها، وكذلك ما يُشترط للجماعة يسقط بالعجز ويُصلّى بدونه، كصلاة الخوف التي
(1)
صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في جماعةٍ، والتزم لأجل الجماعة أمورًا لا تجوز لغير الحاجة، مثل تخلّف الصف الثاني عن متابعته كما في صلاة عُسْفان
(2)
. ومثل
(3)
مفارقة الطائفة الأولى له قبل سلامه، وانتظار
(4)
الطائفة الثانية القعود، كما في صلاة
(5)
ذات الرِّقاع
(6)
. ومثل استدبار القبلة والعمل الكثير، كما في حديث ابن عمر
(7)
[ق 73]. إلى أمثال ذلك.
(1)
الأصل: «الذي» .
(2)
أخرجه البخاري (4131)، ومسلم (841) من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه.
(3)
الأصل: «صقل» .
(4)
جملة «ومثل
…
وانتظار» تكررت في الأصل.
(5)
الأصل: «الصلاة» .
(6)
أخرجه البخاري (4129)، ومسلم (842).
(7)
أخرجه البخاري (942)، ومسلم (839).
ومن ذلك المسبوق يقعد لأجل متابعة الإمام مما لو فعله منفردًا بطلت صلاته، مثل كونه إذا رآه ساجدًا أو منتصبًا دخل معه، ومثل كونه يتشهد في أول صلاته دخل معه، فدل على أنه يجوز لأجل الجماعة ما لا يجوز بدون ذلك، ومع هذا فوقوف المأموم عن يسار الإمام للحاجة، ووقوفه وحده خلف الصف للحاجة أحقّ بالجواز من تقدُّمه على الإمام للحاجة.
وبهذا تأتَلِف
(1)
النصوصُ جميعها، وعلى ذلك تدلّ أصول الشريعة، فإن جميع واجبات الصلاة من الطهارة بالماء، واستقبال الكعبة، وستر العورة، واجتناب النجاسة، وقراءة القرآن، وتكميل الركوع والسجود، وغير ذلك= إذا عَجَز عنه المصلي سقط، وكانت صلاته بدون هذا الواجب خيرًا من تأخير الصلاة عن وقتها فضلًا عن تركها، فكذلك الجماعة متى لم تكن إلا بترك واجباتها سقط ذلك الواجب، وكانت الجماعة مع ترك ذلك الواجب خيرًا من تفويتها وصلاة الرجل وحده.
ولهذا كان مذهب أحمد وغيره أنهم مع قولهم بالمنع من [الصلاة]
(2)
خلف الفاسق والمبتدع، يأمرون بأن يُصلى خلفه ما يتعذَّر صلاته خلفَ غيره كالجمعة والعيدين وطواف الحج، ونحو ذلك من الجُمَع والجماعات، التي أنْ تُصلّى خلف ذلك الفاسق والمبتدع
(1)
الأصل: «تلف» خطأ.
(2)
الأصل: «أنه لا» ولعل الصواب ما أثبت.
خيرٌ
(1)
من أن يصلي الرجلُ وحدَه.
وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُؤمّر الأمير ثم يتبيّن له فيما بعد أنه كان مذنبًا فيعزله، ولا يأمر المسلمين أن يعيدوا ما صلوه خلفه، كما أمَّر أميرًا فلم ينفذ أمره فقال:«ما منعكم أن تنفذوا أمري أو أن تولوا من ينفذ أمري»
(2)
. وإصراره على ترك تنفيذ
(3)
أمر النبي صلى الله عليه وسلم يقدح في دينه، ولم [ق 74] يأمرهم بإعادة ما صلوه خلفه. وقد أمَّر الذي أمَر أصحابه بدخول النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لو دخلوها لما خرجوا منها»
(4)
ولم يأمرهم بإعادة ما صلوا. والوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط ولّاه فأنزل الله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] لما أخبره بمنع الذين أرسله إليهم بمنع الصدقة
(5)
. هذا إن كان معه جماعة يصلي بهم.
وقد أخبر عن الأمراء الذين يكونون بعده أنهم يستأثرون ويظلمون الناس، وأنهم يمنعون الناسَ حقوقَهم ويطلبون حقَّهم، ومع هذا فنهى
(1)
العبارة في الأصل: «التي إن لم تصلى
…
خيرًا» ولعل صوابها ما أثبت.
(2)
لم أجده.
(3)
الأصل: «شرك يتقيد» .
(4)
أخرجه البخاري (4340)، ومسلم (1840) من حديث علي رضي الله عنه.
(5)
أخرجه أحمد (18459)، والبخاري في «الأوسط»:(1/ 609 ــ 610) وغيرهما من حديث الحارث الخزاعي رضي الله عنه. وجوَّد إسناده السيوطي في «الدر المنثور» : (6/ 91)، وله شواهد يتقوى بها.
عن قتالهم وأمر بالصلاة خلفهم من غير إعادة
(1)
، حتى إن من كان منهم يؤخِّر الصلاة عن وقتها أمر المسلمين أن يصلوا الصلاة لوقتها، ويصلوا خلفهم ويجعلوها نافلة
(2)
. فلم يأمر بالثانية لنقض الأولى لكن لتحصيل الجماعة والنهي عن الفرقة.
وقد صلى أصحابه ــ كابن عمر وغيره ــ خَلْف الحجاج بن يوسف، وخلف الخوارج، وخلف المختار ابن أبي عُبيد، وأمثال هؤلاء من أهل البدع والفجور، ولم يُعِد أحدٌ من الصحابة خلفهم، مع أنه قد ثبت في «صحيح مسلم»
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون في ثقيف كذّاب ومُبِير» . فالكذاب هو المختار، والمبير هو الحجاج، وقد صلى الصحابة خلف هذا وهذا، ولم يأمر أحدٌ من الصحابة بالإعادة.
وقد سنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم للمسلمين الاصطفاف في الصلاة وأمر بإقامة الصف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا صلاةَ لمن خلفَ الصَّف»
(4)
، ورأى رجلًا يصلي وحده خلف الصف، فأمره أن يعيد الصلاة
(5)
، ومع هذا
(1)
انظر معناه فيما أخرجه مسلم (1846) من حديث وائل بن حجر، و (1854) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه مسلم (648) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(3)
(2545).
(4)
أخرجه أحمد (16297)، وابن خزيمة (1569)، وابن حبان (2202) من حديث علي بن شيبان رضي الله عنه. حسَّنه الإمام أحمد. نقله في «البدر المنير»:(4/ 474).
(5)
أخرجه أحمد (18000)، وأبو داود (682)، والترمذي (448)، وابن ماجه (1004) من حديث وابصة رضي الله عنه. قوّاه أحمد وإسحاق، وضعَّفه ابن عبد البر. وانظر «البدر المنير»:(4/ 472 ــ 474).