المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سلامة القلب المحمودة - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٧

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌مسائل أهل الرَّحبةلشيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌ الرّجُل وقعت عليه جنابة، والوقت بارد، إذا اغتسل فيه يؤذيه

- ‌ إذا عَدِم الماء وبَيْنه نحو الميل، إذا أخَّر الصلاة خرج الوقت

- ‌ الذي يحلف بالطلاق أنه لا يفعل شيئًا ثم يفعله هل يلزمه الطلاق

- ‌ العبد هل يكفر بالمعصية أم لا

- ‌ مافي المصحف هل هو نفس القرآن أو كتابته، وما في صدور القُرَّاء

- ‌الذي يُصلي وقتًا ويترك الصلاةَ كثيرًا أو لا يصلي

- ‌ الكفار هل يُحاسبون يوم القيامة أم لا

- ‌ الشفاعة في أهل الكبائر من أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم وهل يدخلون الجنة

- ‌ المطيعون من أمة محمد هل هم أفضل من الملائكة

- ‌ الميزان هل هو عبارة عن العدل أم له كِفَّتان

- ‌سؤال عن الله تعالى هل أراد المعصية من خلقه أم لا

- ‌ الباري سبحانه هل يُضل ويهدي

- ‌ المقتول هل مات بأجله أو قَطَع القاتلُ أجلَه

- ‌ الغلاء والرُّخْص هل هما مِنَ الله تعالى أم لا

- ‌ السؤال عن المعراج، هل عُرِج بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يقظة أو منامًا

- ‌ المبتدعة هل هم كفار أو فسَّاق

- ‌ غسل الجنابة هل هو فرض؟ وهل يجوز لأحد الصلاة جنبًا

- ‌ مَلك(2)الموت، هل يُؤتَى به يوم القيامة ويُذْبح أم لا

- ‌من اعتقد الإيمان بقلبه ولم يقر بلسانه، هل يصير مؤمنًا

- ‌ البئر إذا وقع بها نجاسة هل تنجس أم لا، وإن تنجست كم ينزح منها

- ‌ شهر رمضان هل يصام بالهلال أو بالحساب والقياس

- ‌ الصبي إذا مات وهو غير مطهَّر هل يقطع ختانه بالحديد

- ‌ رَشاش البول وهو في الصلاة أو في غيرها ويغفل عن نفسه

- ‌ المقتول إذا مات وبه جراح فخرج منها الدم، فهل يُغسَّل ويُصلى عليه أم لا

- ‌ رجل يقرأ القرآن للجهورة ما عنده أحدٌ يسأله عن اللحن

- ‌ القاتل خطأ أو عمدًا هل ترفع الكفارةُ المذكورة في القرآن ذنبَه

- ‌ الخمر والحرام هل هو رزق الله للجهال، أم يأكلون ما قدّر لهم

- ‌ الإيمان هل هو مخلوق أو غير مخلوق

- ‌ الإمام إذا استقبل القبلة في الصلاة هل يجوز لأحد أن يتقدم عليه

- ‌في قتل الهوام في الصلاة

- ‌ الدابة إذا ذُبحت والغَلْصَمة(3)مما يلي البدن هل يحل أكلها

- ‌ الصلاة في طريق الجامع والناس يصلون برَّا

- ‌ تارك الصلاة من غير عذرٍ هل هو مسلم في تلك الحال

- ‌ الجُبّة الضيِّقة الكُمّين

- ‌ الفَرُّوج

- ‌ السراويل

- ‌ لبس الطيالسة(2)على العمائم

- ‌قاعدة في الفَنَاء والبَقَاء

- ‌سلامةُ القلب المحمودةُ

- ‌النوع الثاني: الفناء عن شهود السّوى

- ‌الرسالة في أحكام الولاية

- ‌ولاية أمور الإسلام(1)من أعظم واجبات الدين

- ‌ولاية الشرطة والحرب من الولايات الدينية

- ‌كتاب الشيخ إلى بعض أهل البلاد الإسلامية

- ‌ الأموال السلطانية

- ‌صورة كتاب عنابن عربي والاعتقاد فيه

- ‌مسألة فيتفسير قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ .. }وتفسير آيات أخرى

- ‌مسألة في الرَّمي بالنُّشَّاب

- ‌الرمي بالنُّشّاب من الأعمال الصالحة

- ‌لم يكن السلف يرمون بالبندق

- ‌[مسائل فقهية مختلفة]

- ‌ الدّعاء بعد الصلوات

- ‌ الكلب إذا ولغ في اللبن أو غيره

- ‌ التوضؤ من لحوم الإبل

- ‌مسألة في باب الصفاتهل فيها ناسخ ومنسوخ أم لا

- ‌مسألة: في قول أبي حنيفةفي "الفقه الأكبر" في الاستواء

- ‌مسألة في العلو

- ‌ معنى حديث: «من تقرَّب إليَّ شِبرًا

- ‌الوجه الثاني:

- ‌مسألة في إثبات التوحيد والنبواتبالنقل الصحيح والعقل الصريح

- ‌تعريف الرسل على وجهين:

- ‌قاعدة مختصرةفي الحُسْن والقُبْح العقليين

- ‌فصل في الحكم العقلي

- ‌مجموعةُ فتاوى من:الدُّرَّةِ المضِيَّة في فتاوى ابنِ تيميَّة

- ‌[مسألة: في الجهر بالنية والتكبير والدعاء

- ‌[مسألة في شرائط الصلاة، وصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والسنن الرواتب]

- ‌مسألةفي زيارة القدس أوقات التعريف

- ‌العبادات مبناها على التوقيف والاتباع

- ‌مَسْألة في عَسْكَر المنصور المتوجِّهإلى الثغور الحلبية سنة 715 هـ

- ‌سَعْي المسلمين في(1)قَهْر التتار والنصارى والروافض مِنْ أعظم الطاعات والعبادات

- ‌صورة مكاتبة الشيخ تقي الدينللسلطان الملك المنصور حسام الدين لاجينسنة ثمان وتسعين وستمائة

- ‌[مسألة في الداء والدواء]

- ‌فصلفيما يجمع كليات المقاصد

- ‌الإعانة على الإثم والعدوان

- ‌الغيرة التي يحبها الله

- ‌[مسائل فقهية مختلفة]

- ‌ فيمن ينوي الغسل، فتوضأ، ثم اغتسل هل يجزيه، أم يتوضأ ثانيًا

- ‌ هل تجب أن تكون [النية] مقارنةً للتكبير

- ‌ في رجلٍ إذا صلّى بالليل ينوي ويقول: أصلّي لله نصيب الليل

- ‌ في إمام مسجد يصلي فيه دائمًا، وينوب في مسجد آخر، فصلاته الثانية تكون قضاء أم إعادة

- ‌[سؤال عن حراسة المكان وقت صلاة الجمعة]

- ‌ في رجل حلف بالطلاق ثلاثًا: إن لفلان على امرأتي

- ‌ع ما يُحْدِثه الناس في أعياد الكفار

- ‌مسألة: في جماعة من النِّساء قد تظاهرنَ بسلوك طريق الفُقَرَاء

- ‌ عادم الماء إذا لم يجد ترابًا، فإنه يتيمم

- ‌في بلدة ليس فيها حمّام والمغتَسَل خارج البلد، وإذا طلع الرجل وقت صلاة الصبح يجد مشقَّة من البرد

- ‌السفر الذي يُقْصَر فيه ويفطر فيه، فيه قولان:

- ‌ رفع اليدين في الصلاة

- ‌[مسألة في إجبار البكر البالغ]

الفصل: ‌سلامة القلب المحمودة

وأعظم الخلق محبةً لله إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، هذا خليل الله، وهذا خليل الله، ولم يعرض لأحدهما شيءٌ من ذلك.

والمحبُّون الذين ينالون مقاصدهم مع حِفْظِ عقولهم وبقاء تمييزهم أكمل عند العقلاء مِن الذين يغلب عليهم الحال حتى يصطلمهم، ويُسْكِرَهم، ويفنيهم.

وما أشبه مدح هؤلاء لعدم التمييز والعقل بمدح طائفة يمدحون مَن لم يفهم معاني القرآن، ولم يتدبره، بل قد أَقرَّ بظاهر لفظه، وجهل ما يزيد إفهامهم إيَّاه من معناه، وقد يجعلون ذلك طريق السلف.

وهذا أيضًا غلط، فعدم صفات الكمال الممدوحة في القرآن لا يكون مدحًا ولا ذمًّا مأمورًا به، بل غاية صاحبه أن يكون معذورًا.

ولهذا قال عمر بن الخطاب: "لست بخِبٍّ، ولا يخدعني الخِبُّ"

(1)

.

ف‌

‌سلامةُ القلب المحمودةُ

هي سلامتُه عن

(2)

إرادة الشرِّ وقَصْدِه، لا عن علمه ومعرفته، بل من عَرَفَ الشرَّ وأبغضَه وذمَّه ونهى عنه، فهو أكمل ممن لم يعرفه، ولا أبغضه، ولا نهى عنه، ولا ذمَّه.

(1)

ذكره عن عمر ابنُ عبد ربه في "العقد": (1/ 44)، وكذلك عزاه المصنف في "الفتاوى":(10/ 302)، وجاء عن إياس بن معاوية. أخرجه ابن عساكر في"تاريخه":(10/ 19)، والمزي في "تهذيب الكمال":(1/ 304).

(2)

الأصل: "عند".

ص: 180

ومن أعظم كمال الرسول وأمته: أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما قال في صفته:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

وقال في صفة أمته: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].

والأمر بالمعروف متضمِّنٌ لمعرفته ومحبّته، والنهي عن المنكر مُتضمِّنٌ للعلم به وبُغضه.

وأمة محمد هم الشهداء، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وقال: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [العنكبوت: 78].

والشهادة تتضمن العِلْمَ بالمشهود به، وإلا فليس لأحدٍ أن يشهد بما لا يعلم.

وقد أخبرَ عن العارفين مِن أمة عيسى عليه السلام أنهم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].

ص: 181

قال ابن عباس: "مع محمد وأُمَّتهِ"

(1)

.

وهذا كما قال الحواريّون: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53].

فهؤلاء المؤمنون هم طلبوا ما طلبه قبلهم المؤمنون، بخلاف مَن

(2)

كان منهم متبعًا للدين المبدَّل المنسوخ، فإنّ أولئك فيهم رأفةً ورحمةً ورهبانيةً، فلهم عبادة وأخلاق، وليس لهم شهادة، فلهذا كانوا في الضلال، فإنَّ الضلال:[ق 6] عدم العلم، وهو نَعْتُهم

(3)

، كما قال عنهم:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].

فإنّ الضلال يورثه اتباع الهوى؛ لأنه إذا لم يكن معه علم بما يفعله وما يقصده، ومعه حبّ وإرادة تدعو إلى العمل، كان المحرِّك له حبه وهواه، سواء كان صادفَ الحقَّ الذي يرضاه الله، أو كان بخلاف ذلك.

وهذا الموضع غلط فيه من سالكي الطريق من لا يُحصي عددَهم إلا الله، فإن أوَّل الطريق هو إرادةٌ وحبٌّ وطلبٌ، وذلك يُثمِرُ من أنواع العبادات والأخلاق والأعمال والأحوال والمقامات ما لا يعلمه إلا الله.

(1)

أخرجه الطبري: (8/ 603).

(2)

الأصل: "ما".

(3)

أشكلت على الناسخ فلم يحرّرها، ولعلها ما أثبت.

ص: 182

وقد لا يَصحَبُ هذا السالك معرفة المحبوب المعبود المراد، ولا يصحبه معرفة ما يحبّه ويرضاه مِن طاعة رسوله، فيجهل إما المعبود المقصود، وإما العبادة المأمور بها، أو كلاهما

(1)

.

وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "المؤمنُ القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير"

(2)

.

فالخير عند الله هو الأفضل.

ومن هنا يظهر الوجه الثاني: وهو أنَّ العلم والعقل والشهود، ونحو ذلك، صفات كمال، كما أن القدرة والقوَّة صفات كمال.

قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر: 19 - 21]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45].

وقد مدح الله جبريل بأنه شديد القُوى، وقال:{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20]. وذمّ سبحانه مَنْ ذمَّه بقوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20].

وقوله: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101].

(1)

كذا، والوجه:"كليهما".

(2)

أخرجه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 183

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73].

وقال: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72].

وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179].

وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

وقال: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5].

وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].

وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].

ص: 184

ومثل هذا كثير في كتاب الله.

فالسمع والبصر والعقل والعلم، وما كان من جنس ذلك ولوازمه، هو من الصفات المحمودة، والتذكّر والتدبّر ونحو ذلك، وكذلك القوَّة. قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:61].

وفي حديث الاستخارة: "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستَقْدِرُك بقدرتك، وأسألك من فضلك"

(1)

.

وقد أمر الله بالصبر المتضمِّن لمعنى القوَّة والثبات، وقَرَنه بالصلاة في غير موضع، كقوله:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة:45]. بل ذَكَره في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا.

والله تعالى موصوفٌ بصفات الكمال؛ من العلم، والسمع، والبصر والكلام، والقدرة، ونحو ذلك.

والمتصف بهذه أحبّ إليه ممن لا يتصف بها، إنما مَدَح وأحبّ

(2)

المتَّصفين بها، كما تقدم التنبيه عليه.

وإذا كان كذلك، لم يكن الغَيْبَةُ عنها مما ينتهي إليه القاصدون، وذلك لوجهين:

(1)

أخرجه البخاري (1162) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(2)

الأصل: "واجب" خطأ.

ص: 185

أحدهما: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم أفضل القرون، وفاضلهم هو أفضل الأمة، كما ثبت في الصحاح أنه قال:"خير القرون الذي بُعِثْتُ فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"

(1)

.

ولا ينازع في هذا الأصل إلا أهل البدع المضلَّة.

فمن ظنّ أن مَنْ بعد الصحابة من يكون أكمل في علمٍ، أو دين، أو خُلُق، مِنْ أكمل الصحابة في ذلك، فقد غلط وضلّ، بل هم فوق مَن بعدهم في كلِّ الفضائل الدينية.

وإن كان قد يكون لمن بعدهم مِنَ الخصائص والفضائل ما ليس لبعضهم، فلا يكون مَن بعدهم أفضل من فاضلهم بلا ريب.

وإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن الأحوال الدينية المتضمِّنة لغيب العقل، وعزوف

(2)

العلم، لم يكن في الأحوال الدينية التي كانت للصحابة، فلم يكن فيهم مَن مات عن وجدٍ أو سماع.

ولا كان فيهم مَن صَعِق وغُشِي عليه.

ولا كان فيهم مَنْ فني عن معرفة الأشياء وشهودها.

ولا كان فيهم من اصطلم بحيث لا يشهد بقلبه شيئًا من الكائنات أو المخلوقات.

(1)

أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533) بلفظ: "خير الناس

" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وتقدم.

(2)

كذا. ولعله: "وعزوب".

ص: 186

بل كان حدوث هذه الأمور في الأمة بحسب ما حدث من النقص، فكان التابعون أنقص من الصحابة، فظهر فيهم من الصَّعْق والموت ما ظهر.

كما أنَّ بني إسرائيل أنقصُ من هذه الأمة، فلهذا لم يُذْكَر عنهم من ذلك أمور.

ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم أكمل من موسى، وقد عُرِج به صلى الله عليه وسلم إلى الملكوت الأعلى، وأراه الله من آياته الكبرى ما أراه، وأصبح كبائتٍ. وموسى صلى الله عليه وسلم لما صار الجبل دكًّا خرَّ صَعِقًا.

وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم لما رأى جبرائيل أوّل مرّة أصابه ما أصابه، ولما رآه نزلةً أخرى عند سِدْرة المنتهى لم يُصِبه ما أصابه أول مرة.

وأما ما كان يعتريه عند نزول الوحي، فلم يكن في ذلك تغيّب عقله، فإنه صلى الله عليه وسلم كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، ولهذا لم يكن يتوضأ من النوم، ولمن يكن يغتسل ويتوضأ بعد نزول الوحي.

ولما غُشي عليه في مرضه اغتسل مرّةً بعد مرة، فكان يغتسل في إغمائه الذي أصابه بالمرض، ولا يغتسل من هذه الأمور؛ إذ لم يكن فيها إغماء ولا مغيب عقل. بل هو عند تلقّي الوحي أكمل ما يكون عقلًا، وإن كان ضعيفًا منهوك البدن

(1)

.

وإذا كان في منامه لا ينام قلبه مع أن غيبه [ق 7] الظاهر هو فيه كغيره في المنام، فكيف ينام قلبه عند نزول الوحي عليه، وبه يتلقّى الوحي النازل عليه.

(1)

في الأصل: "مفتونًا مهثرف" ولعل الصواب ما أثبت أو نحوه.

ص: 187