الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
في زيارة القدس أوقات التعريف
مسألة جليلة كثيرة الفوائد، مبتلًى بها [ق 71] كثير من الناس فيمن ينوي زيارة القدس أوقات التّعْرِيف.
* مسألة:
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
ما تقول السّادةُ العلماء أئمة الدين وعلماء المسلمين رضي الله عنهم أجمعين، فيمن ينوي زيارة بيت المقدس في أوقات التعريف، ونيتُه أنها قُرْبة وطاعة؟
وفي أقوام يطوفون بصخرة بيت المقدس ويُصلّون في أماكن مشهورة هناك، مثل مهد عيسى، وقُبة المعراج [ق 73] وقُبة السلسلة، وزيارة قبر الخليل، وغير ذلك؟
وما يُستحبّ للزائر وما يحرُم عليه من ذلك ونحوه؟
وهل يستحبّ للنساء أن يزرن في أوقات التعريف مُظْهِراتٍ لزينتهنّ متطيّبات
(1)
، وهل على أوليائهن منعهنّ؟ أفتونا مأجورين رحمكم الله ورضي عنكم.
(1)
تحرفت في الأصل إلى: "يسير بهن وهن صيامًا" ولعل الصواب ما أثبت بدليل ما سيأتي في الرسالة (ص 431).
الجواب: الحمد لله رب العالمين.
أصل السفر إلى بيت المقدس للصلاة فيه، والاعتكاف فيه، وقراءة القرآن والدعاء والذِّكْر ونحو ذلك، هو مستحبٌّ مشروع باتفاق المسلمين.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة
(1)
وأبي سعيد
(2)
أنه قال: "لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة
(3)
مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا".
وفي حديث سليمان لمَّا بنى البيتَ ــ أي: بيت المقدس ــ سأل الله ثلاثًا، سأله مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وسأله حُكمًا يوافق حكمَه، وسأله أنه لا يأتي أحدٌ هذا البيت لا يريد إلا الصلاة إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه
(4)
.
(1)
البخاري (1189)، ومسلم (1397).
(2)
البخاري (1188)، ومسلم (بعد 1338).
(3)
الأصل: "ثلاث".
(4)
أخرجه النسائي (693)، وابن ماجه (1408)، وأحمد (6644 م)، وابن خزيمة (1334)، وابن حبان (1633)، والحاكم:(1/ 84) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الحاكم: حديث صحيح تداوله الأئمة. وصححه النووي في "تهذيب الأسماء": (1/ 233)، وحسنه ابن الملقن في "التوضيح":(19/ 403).
ولهذا كان عبد الله بن عمر يأتي بيت المقدس، فيدخل فيصلي ركعتين، ثم يخرج ولا يشرب فيه؛ كأنه يطلب دعوة سليمان. وكان لا يأتي الصَّخرة ولا يزورها
(1)
.
وكذلك غيره من سَلَفَ من الأمة؛ كعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وسفيان وأمثالهم، لم يكونوا يأتون شيئًا من تلك المواضع
(2)
التي تُزار في المسجد لا الصخرة ولا غيرها.
ولما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيت المقدس قال لكعب: أين ترى أن أبني مصلى للمسلمين أمام الصخرة أو خلفها؟ قال: خلفها. فقال: يا ابن اليهود خالطتك يهودية، بل أبنيه أمامها، إن لنا صدور المساجد
(3)
.
ولم يكن على عهد عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد ومروان على الصخرة هذه [القبة]
(4)
؛ لكن بنى تلك القبة عبدُ الملك بن مروان لمَّا كان بينه وبين ابن الزبير ما كان، وكانوا إذا حجّوا بايعوا ابنَ الزبير،
(1)
ذكره المصنف في "مجموع الفتاوى": (27/ 6، 258)، والعليمي في "الأنس الجليل":(1/ 121).
(2)
الأصل: "ذلك الموضع".
(3)
أخرجه أحمد (261)، وأبو عبيد في "الأموال"(384)، والضياء في "المختارة"(241)، وابن عساكر في "تاريخه":(2/ 171).
(4)
الأصل: "الصخرة".
فيقال: إنّ عبد الملك [لو] منعهم الحجّ فُضِحوا، فبنى القبَّة على الصخرة، وعظَّمَ أمرها، فجعل الناس يعتانون
(1)
بها.
ولو نذر إتيان بيت المقدس لزمه الوفاء بما ينذره في مذهب مالكٍ والشافعيّ، [و] في قوله الآخر لا يلزم، قالوا: لأنه لا يلزم بالنذر إلا ما كان واجبًا بالشرع، وهو إتيان مكةَ خاصة؛ فإن إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس مستحبٌّ ليس بواجب. والصحيح الأول، فإنه قد ثبت في الصحيح
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "قال: من نَذَر أن يطيع الله فلْيُطِعْه، ومن نذر أن يعصيَ اللهَ فلا يعصه
(3)
".
فصل: إذا عُرف هذا فليس
(4)
في بيت المقدس بل ولا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عبادة يختصّ بها، بل العبادات المشروعة فيهما مشروعة في سائر المساجد، كالصلاة والاعتكاف والذِّكر والدعاء والقراءة ونحو ذلك. وهذا بخلاف المسجد الحرام، فإنه مشروعٌ فيه ما لا يُشْرع في غيره؛ وهو الطواف به، واستلام ركنيه اليمانيين، وتقبيل الحجر الأسود الذي فيه. فإن ذلك عبادةٌ تختصّ بالمسجد الحرام باتفاق المسلمين، ولا يُشرَع في غيره من المساجد لا طواف ولا استلام شيء من الأشياء.
(1)
كذا ولعلها "يعتنون أو يفتنون".
(2)
أخرجه البخاري رقم (6696) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
الأصل: "يعصيه".
(4)
الأصل: "ليس".
فليس في بيت المقدس ما يُطاف به لا الصخرة ولا غيرها، بل وكذلك مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ما يُقَبَّل ويُستلَم، لا الحجرة النبوية ــ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ــ ولا غير ذلك.
وهذا كلّه متفق عليه بين أئمة المسلمين، ليس منهم من استحبّ ببيت المقدس أو بغير المسجد الحرام من المساجد لا طوافًا ولا تقبيلًا ولا استلامًا
(1)
ونحو ذلك، ولا فَعَل شيئًا من ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولا أئمة الأمة، ولا من يُقتدى به من السلف. بل من اتخذ الطوافَ بالصخرة عبادة أو بغير البيت فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قُتِل.
والتعبّد بها بالطواف أعظم من التعبُّد بالصلاة؛ مع أنها كانت قِبْلة في أول الإسلام، فمَنْ طاف بها كان شرًّا من الصلاة إليها. وكذلك تقبيلها أو تقبيل شيء منها، أو التمسّح بشيء من ذلك. كل ذلك بدعة وضلالةٌ.
ولا فرقَ بين الموضع [المسمى] قدَمَ النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، وليس في الصلاة عندها [فضيلة]
(2)
، فإن خيار السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، وإن كانت قِبلة في أول الإسلام فقد نُسِخت كما نُسخ السبت، فتخصيصها بالتعظيم مع أنها قبلة اليهود فيه تخصيصُ يوم السبت بالتعظيم، ولهذا كره عمر رضي الله عنه والمسلمون أن تكون صلاة
(1)
الأصل: "طواف
…
استلام".
(2)
في العبارة نقص واضطراب، ولعل ما بين المعكوفين يستقيم به السياق.
المسلمين خلفها؛ لئلا يكون في ذلك تشبُّه
(1)
باليهود.
وليس بالمسجد الأقصى مكانٌ يُقصد بعينه إلا المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الذي تسميه العامة "الأقصى"، وما سوى ذلك مثل الذي يقال له: قبة المعراج، [ق 73] والسلسلة، ومهد عيسى، وأمثال ذلك، فلا يستحبّ قصد شيء من هذه البقاع ولا تخصيصه بعبادة، وعامة ما يُذْكر في ذلك كذب، مثل الحَجَر الذي يقال: إنه مهد عيسى؛ فإنّ هذا كذبٌ واضح. ولكن هذا قيل إنه كان يكون فيه ماء المعمودية للنصارى لما استولوا على بيت المقدس، فإنه بقي في أيديهم مدّة.
وأما ما يفعله بعضُ الناس من السفر إلى بيت المقدس في عيد النحر، فيعرّفون هناك، ومنهم من يذبح هناك، ومنهم من يحلق رأسه، ومنهم من يطوف بها؛ فهذا كله بدعة منهيٌّ عنه، ليس شيء من ذلك مشروعًا، ولم يستحبّ أحدٌ من أئمة المسلمين قصدَها زمنَ الوقوف للتعرِيف بها، ولا فَعَل ذلك مَن يُقْتَدى به من المسلمين في دينهم.
وكذلك السفر وقت التعريف إلى غير عرفات، مثل الذين يسافرون للتعريف عند قبر المسيح، والذين يعرِّفون عند قبر محمد بن التومرت، وأمثال هذه الأسفار، فإن هذه أسفار غير مشروعة، بل منهيٌّ عنها، بل
(1)
الأصل: "تشبيه".
محرّمة. [و] كان ذلك تعبُّدًا بدينٍ لم يشرعه الله، بمنزلة من يُحْرِم ويلبّي إذا سافر إلي بيت المقدس! ومن تعبّد بمثل هذا، فإنه يُستتاب فإن تاب وإلا قُتِل.
وإذا كان السفر للتعرِيف بها منهيًّا عنه، فالسفر إليها في مواسم الكفَّار، مثل خميس النصارى ونحوه أعظم من ذلك؛ فإنه لو عَظَّم
(1)
الأزمان التي يعظِّمها الكفار، كعيد الميلاد
(2)
وعيد الخميس، لكان ذلك من المنكرات التي يجب النهي عنها، ولو فعل ذلك في بيته. فإنه ليس للمسلم أن يعظِّم شيئًا من الأيام التي يعظِّمها الكفَّار، وليس لتعظيمها أصلٌ في دين الإسلام. ولا تعظيم البقاع التي يعظِّمها الكفار. وهذا أعظم من المواسم
(3)
المبتدعة في دين الإسلام، كالرّغائب ونحوها.
فإذا سافر إلى القدس في أعياد الكفار، فقد جمع عدة منكرات، بل لو خصّ الأيامَ التي يعظِّمها الكفار بأمر فيه مزيَّة لها لنُهِي
(4)
عن ذلك، حتى كَرِه غيرُ واحدٍ من السلف صومها، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟!
ولا يُسمى بيت المقدس حَرَمًا؛ وإنما الحرم الذي حرَّم الله صيده
(1)
الأصل: "أعظم"، خطأ.
(2)
الأصل: "الملاه"، خطأ.
(3)
الأصل: "الموسم".
(4)
الأصل: "النهي"، خطأ.
ونباته. والحرم الذي اتفق عليه المسلمون حرمُ مكة، وأما المدينة فلها حرم محرَّم عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد؛ كما استفاضت بذلك الأحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم. وما سوى ذلك فليس بحرم باتفاق المسلمين، إلا وادي وَجّ
(1)
الذي بالطائف، فإن الشافعي قال: إنه حرم بحديثٍ رُوي في ذلك رواه أحمد في "المسند"
(2)
، وأما جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد فليس ذلك بحرم عندهم، وضعّفوا الحديثَ المرويَّ في ذلك. وما سوى هذه البقاع الثلاثة فليس حرمًا باتفاق المسلمين.
والعلماء قد تنازعوا [ق 74] في تعريف الإنسان بمِصْره، مثل من يذهب عشيّة عرَفَة إلى مسجد بلده يدعو فيه ويذكر الله تعالى، فكَرِه ذلك مالك وأبو
(3)
حنيفة وغيرهما، ورخَّص [فيه] أحمد بن حنبل، ولكنه لم يكن يفعله ولا يأمر به، ولم يُنقل عن الشافعي فيه شيء. وأحمد إنما رخَّص فيه قال: لأنه رخَّص فيه ابنُ عباس بالبصرة،
(1)
الأصل: "قرج" تحريف.
(2)
(1416). وأخرجه أبو داود (2034)، والبيهقي:(5/ 200) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. ومداره على محمد بن عبد الله الطائفي وليس بالقوي، قال البخاري: لا يتابع عليه، وقال أبو حاتم: لا يصح حديثه، وضعفه أحمد، والنووي والدارقطني وغيرهم. وحسنه المنذري وصححه ابن الملقن. انظر "البدر المنير":(6/ 367 - 370).
(3)
الأصل: "أبي".
وعمرو بن حُرَيث
(1)
بالكوفة. فهذا من تعريف الإنسان ببلده.
فأما السفر إلى مدينة أخرى ليعرِّف بها، مثل أن يسافر إلى بيت المقدس أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهما من المساجد ليعرّف بها= فهذا حرام ليس مشروعًا باتفاق المسلمين؛ فإنه من جنس بيتٍ يُحجّ غير البيت العتيق.
وأما السفر للتعريف عند
(2)
بعض القبور، فهذا أعظم من ذلك، فإن هذا بدعة وشرك؛ فإن أصل السفر لزيارة القبور ليس مشروعًا ولا استحبَّه أحدٌ من العلماء، ولهذا لو نذر ذلك لم يجب عليه الوفاء بلا نزاع بين الأئمة؛ بخلاف مَن
(3)
نذر إتيان بيت المقدس، فإنه يجب إتيانُه في أحد القولين ويستحبُّ في الآخر.
ولكن تنازع المتأخرون في السفر لزيارة القبور، فرخّص فيه بعضُهم، وكرهه آخرون، كابن بطة وابن عقيل وغيرهما، حتى قالوا: إنه سَفَر معصية فلا يجوز قَصْر الصلاة فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُشدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد"
(4)
. فلا يُشْرَع شدّ الرحال لزيارة القبور؛
(1)
الأصل: "عمر بن حرب" تحريف، والتصحيح من مصنف ابن أبي شيبة (14474)، و"الاقتضاء":(2/ 150).
(2)
الأصل: "عنده".
(3)
الأصل: "ما".
(4)
تقدم تخريجه.
ولهذا لم يكن أحد من الصحابة والتابعين ــ لا بعد أن فتحوا الشام ولا قبل ذلك ــ يسافرون إلى زيارة قبر الخليل عليه السلام ولا غيره من قبور الأنبياء التي بالشام، ولا زار النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك ليلة أُسري به. بل الذي ثبت في "الصحيح": أنه صلى ليلة الإسراء، صلى ركعتين ببيت المقدس
(1)
.
والحديث الذي قيل فيه: "هذا قبر أبيك إبراهيم فانزل فصلّ فيه، وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى انزل فصلّ فيه"
(2)
كذبٌ لا حقيقة له.
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يسكنون الشام، أو دخلوا إليه ولم يسكنوه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره، لم يكونوا يرون شيئًا من هذه البقاع والآثار المضافة إلى الأنبياء، بل ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في سفر فرأى قومًا يتَّخذون مكانًا يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان
(3)
صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نريد الصلاة فيه. فقال: ومكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم! أتريدون أن تتخذوا
(4)
آثار أنبيائكم مساجد! إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من
(1)
أخرجه مسلم (162) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرج ابن حبان في "المجروحين": (1/ 197) وقال: وهذا شيء لا يشك عوام أصحاب الحديث أنه موضوع. وانظر "الاقتضاء": (2/ 352) للمصنف.
(3)
الأصل: "مكانًا".
(4)
الأصل: "تتخذون".