الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
وهو حسبي
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضْلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فصل في الحكم العقلي
فالأفعال إما شرعيّة وإما عقليّة، لكنَّ العقل كاشفٌ لحكمها لا مثبت له، والشارع مثبتٌ وكاشف. ومن الناس من يقول: بل هو مثبت فقط، ومنهم من يقول: بل هو كاشف فقط.
وأحكام الأفعال هي المعروفة بمسألة الحُسْن والقُبْح العقليين، فإنها من أصول المسائل التي يُفرِّعون عليها أمورًا كثيرةً. وقد اضطرب الناس فيها، فلكلٍّ من أصحاب أحمد ومالك والشافعي فيها قولان، والحنفية يقولون بها، وذكروا ذلك أيضًا عن أبي حنيفة، ولأهل الحديث فيها قولان، وقد ذكر أبو نصر السِّجْزي، وأبو القاسم سعد بن علي الزَّنجاني: أن نفيهما مما أحدثه الأشعري. وذكر أبو الخطّاب
(1)
أن
(1)
في "التمهيد في أصول الفقه": (4/ 295). وقد نقل المصنف كلام أبي الخطاب بطوله وناقشه في مواضع منه في "درء التعارض": (9/ 50 ــ 66).
إثبات ذلك قول أكثر الفقهاء والمتكلِّمين، وهو قول كثير من النُّظار المُثْبتة
(1)
للقدر كالكرَّامية وغيرهم، وهو قول المعتزلة وغيرهم من نُفَاة القدر ومن وافقهم من الشيعة.
وتحقيق الكلام فيها يتضمن فصولًا:
أحدها: اتصاف الأفعال بصفات لأجلها كانت حَسَنة أو قبيحة سيئة.
والثاني: أن تلك الصفات هل تُدْرك بالعقل أم لا؟
والثالث: أن ذلك هل يوجب العذابَ بدون الشرع أم لا؟
[ق 192] وأصل المسألة الذي به تنكشف حقيقتُها: معنى كون الشيء حَسَنًا وسيئًا، هل له حقيقة غير كونه ملائمًا للفاعل ومنافرًا له؟
فإنهم قد اتفقوا على أن كون الفعل حسنًا [أ] و قبيحًا سيئًا، بمعنى كونه ملائمًا للفاعل بحيث يحصل له به فرحٌ ولذَّة، أو منافيًا للفاعل بحيث يحصل له به غمٌّ وألم، وهو مما قد يُعرف بالعقل. وزاد بعضهم: كون الفعل صفة كمالٍ وصفة نقصٍ. فجعل ذلك مما يُعلم بالعقل اتفاقًا، وجعلوا مورد النزاع في كون الفعل هل يكون سببًا للذم والعقاب عاجلًا وآجلًا؟
(1)
الأصل: "المشبهة" سهو.
وإذا كان كذلك فيقال: كون الفعل يكون سببًا للذَّم والعقاب هو من أنواع كونه ملائمًا للفاعل ومنافرًا له، فإنّ حَمْد الفاعل وثوابه يلائمه، وذمه وعقابه ينافره.
فإذا قيل: الملاءمة الطبيعية والمنافرة الطبيعية قد تُعلم بالعقل باتفاق العُقلاء.
فيقال: كلُّ ملاءمة ومنافاة للإنسان إنّما
(1)
تعود إلى الملاءمة الطبيعية والمنافرة الطبيعية، لكن مِن الأفعال ما تكون فيه ملاءمة ولذّة، ويكون فيها منافرة وألم أرجح من ذلك. فيكون ملائمًا من وجه منافرًا من وجه، محبوبًا لذيذًا من وجهٍ بغيضًا مؤلمًا من وجهٍ.
وقد تكون اللذّةُ عاجلة والألم آجلًا، فعقل الإنسان يأمره بترجيح أحبّ الأمرين إليه وهو أصلحهما وأنفعهما وأكملهما لذَّة، ويأمره بترجيح اللذة الكاملة الآجلة على اللذة القليلة العاجلة؛ ولهذا كان جميع العقلاء يحتملون ألمًا قليلًا للذَّةٍ كثيرة، ويمتنعون عن لذَّةٍ قليلةٍ لتحصيل لذَّة جليلة، ويقولون: هذا مقتضى الهوى والطبع، وهذا مقتضى العقل والشرع.
فمن ادعى حُسْنًا أو قبحًا عقليًّا أو شرعيًّا بلا فرح ولذةٍ ولا غمٍّ وألم، فقد قال ما لا يعرف، ولم يتصوَّر ما يقول، وهو مطالبٌ بتحقيق ما يقوله، فإنّ كثيرًا مِنْ نِزاع العقلاء يكون لكونهم لم يتصوَّروا تصورًا تامًّا ما تنازعوا فيه، ولو تصوروه تصورًا تامًّا
(1)
الأصل: "إنما أن".
لارتفع النزاع.
وكذلك قول القائل: أن يكون الفعل صفةَ كمالٍ أو صفة نقصٍ، مما يُعرف بالعقل، هو يعود إلى الملاءمة، فإن الفعل الذي يكمل به الفاعل، هو الذي يلائمه ويحصل به كمال الفرح والسرور والنعيم.
وأما الفصول المذكورة:
فالأول: أن الأفعال هل هي مشتملة على صفات لأجلها كانت حسنةً وسيئةً أم لا؟
فأكثر الناس على أنها اشتملت على صفاتٍ لأجلها كانت حسنةً وسيئةً
(1)
، وإلا كان أمر النزاع بأحد المتماثلين ترجيحًا بلا مرجِّح.
ونُفاة الحُسْن والقُبْح العقليين على قولين:
منهم من يقول: لم يختصّ شيء من الأفعال بما لأجله كان مأمورًا به ومنهيًّا عنه، بل الرّبّ يرجّح مِثْلًا عن مِثل بمجرد المشيئة.
وهؤلاء يقولون: عِلَل الشرع أمارات محضة، كما يقول ذلك الأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، ومَن قال من هؤلاء بالمناسبة قال: لأنّا اعتبرنا الشّرْعَ فوجدناه يثبت الحكم عند الوصف المناسب لا به.
(1)
بعدها في الأصل: "أم لا" وهو سبق نظر من الناسخ.
ومنهم من يقول: بل الشارع لم يخصّ فعلًا
(1)
على فعلٍ، فالأمر والنهي لا
(2)
لاختصاص ذلك الفعل بما يقتضي ذلك، لكن كون ذلك الفعل حسنًا مأمورًا به وقبيحًا منهيًّا عنه لا يثبت إلا بالشرع، فالشارع جعل ذلك الوصف المناسب موجبًا لكون الفعل حسنًا وقبيحًا، لا أنه كان حسنًا وسيئًا.
وهذا يقوله مَنْ نفى الحُسْن والقُبْح العقليين، ويقول: إن الشارع جعل الصفات عللًا، كما يقوله الغزالي وموافقوه، كأبي محمد بن المَنّي
(3)
وأبي محمد المقدسي
(4)
وغيرهما.
وأما الأكثرون فيقولون: بل تلك الصفات توجب كون الفعل حسنًا وسيئًا، فتوجب كون العدل حسنًا وكون الظلم سيئًا، وأنه سببٌ لمدح صاحبه وذمّه، ولكن هل يستحق صاحبه العقاب قبل إرسال الرّسل؟ على قولين:
فمنهم من يقول: إن صاحبه يستحقّ العقاب في الدنيا والآخرة بدون الإرسال، كما يقول ذلك كثير من المعتزلة والحنفية وأبو الخطَّاب وغيره.
(1)
كتب الناسخ أولا: "حكمًا" ثم ضرب عليها.
(2)
الأصل: "إلّا" والصواب ما أثبت.
(3)
الأصل: "البَنّي" تحريف، وهو نَصْر بن فتيان بن مطر النهرواني الحنبلي ابن المنّي (ت 583). ترجمته في "ذيل طبقات الحنابلة":(2/ 354)، و"السير":(21/ 138).
(4)
هو ابن قدامة المقدسي الحنبلي صاحب "المغني" في الفقه (ت 620).
ومنهم من يقول: بل العذاب لا يُسْتحَق إلا بعد إرسال الرّسل، كما دلّ عليه الكتابُ والسنة، وإن كان الفعل في نفسه سيئًا قبيحًا، وهو سببٌ لذمّ صاحبه وعقابه، لكن شرط حصول العقاب هو إقامة الحجة بالرُّسل كما دلت عليه النصوص. وهذا أعدل الأقوال وعليه تدلّ نصوص الكتاب والسنة.
وقد ذكروا عن القائلين بالحُسْن والقبح العقلي، هل هذا الحكم ثابت لذات [ق 193] الفعل، أو لصفةٍ
(1)
قائمة به، أو في الحسن لذاته وفي القبح لصفةٍ قامت به؟ ثلاثة أقوال.
ولم يقل أحدٌ: إن الحُسْن والقُبح هو وصف لازم لذات الفعل، كما تظنه طائفةٌ نَقَلَتْ
(2)
قولَهم، بل يقولون: تختلف صفات الفعل باختلاف أحواله وأنواعه، فكونه حسنًا من جنس كونه محبوبًا، وكونه قبيحًا من جنس كونه بغيضًا، ويقولون: قد يقوم به المقتضي لحسنه أو قبحه، ولكن يختلف عنه مقتضاه لفوات شرط أو وجود مانع.
وهو مبنيّ على مسألة تخصيص العلة، فمن جعل العلَّة الأمرَ المستلزم للحكم لم يخصِّصها، ومن جعلها المقتضي خصَّصها. وهو نزاع لفظي.
(1)
الأصل: "الصفة".
(2)
الأصل: "فقلت" ولعلها ما أثبت.
وليس لنفاة الحُسن والقبح العقليين دليلٌ
(1)
أصلًا، بل جميع أدلتهم باطلة، وليس لمثبتيه دليل يدل على حُسْن وقُبْح بغير اعتبار الملاءمة للفاعل والمنافرة له، بل كلّ ما يذكرونه على إثبات حُسن وقبح بدون ذلك فهو باطلٌ.
كما أن أولئك ليس لهم دليل على أن الفاعل المختار يفعل بلا داع، وليس لهؤلاء دليل على أنه يفعل بِداعٍ لا يعود إلا إلى غيره؛ ولهذا لمّا عاد معنى الحسن والقبح إلى هذا أثبتت طائفةٌ الحُسنَ والقبحَ العقليّ في أفعال العباد دون أفعال الله. وهو اختيار الرّازي في آخر عمره.
وهو مبنيٌّ على أصلٍ، وهو مشيئة الله، وهل هي نفس محبته ورضاه وسخطه وبغضه، أو بينهما فرق؟
فذهب المعتزلة، والجهمية القدرية الجَبْريّة، والقدرية النافية إلى أن جميع ذلك بمعنى واحد، ثم قالت النفاة: قد ثبت بالنصوص المتواترة إجماع الأمة: أنّ الله لا يحبّ الكفر والفسوق والعصيان، فلا يريده ولا يشاؤه، فيكون في ملكه ما لا يشاء.
وقالت المُجْبرة: بل ثبت بالنصّ والإجماع أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكلُّ كائن فهو بمشيئته. وجهم بن صفوان [لا]
(2)
يثبت
(1)
الأصل: "دليلًا".
(2)
زيادة يستقيم بها السياق.
لله صفة قائمة به لا إرادة ولا محبّة، بل محبّة عبده
(1)
ثوابه، وبغضه عقابه، فلم يحتج أن يقول: إنه يحب
(2)
كل شيء
(3)
.
وأما الأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فقالوا: لله إرادة واحدة تقوم به، وقالوا ــ في أظهر قوليهم ــ: إن إرادته هي حبّه ورضاه
(4)
، وكل ما في الوجود فهو مرادٌ له فيكون محبوبًا له مرضيًّا.
وذكر أبو المعالي أنّ أول من قال هذا هو الأشعري وأصحابه، وقالوا: إن بغضه وغَضَبه هو إرادته لعقاب المذنب، وهو محبّته لعقاب المذنب مع كونه محبًّا لفعله. ويقولون في قوله تعالى:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] أي: عباده المؤمنين. وقد يقولون: لا يرضاه دينًا، كما يقولون: لا يشاؤه دينًا. أي: لا يشاء أن يكون صاحبه مثابًا.
(1)
وقع في الأصل [ق 193 أ-ب] في هذا السطر والسطرين بعده طمس بمقدار كلمتين أو أكثر. ويغلب على الظن أنه ليس بطمس، بل هو عيب وقع في النسخة في الورقة المشار إليها، أو انتشار حبر أو نحوه، فتجاوزه الناسخ، وعند ترميم النسخة وضعت ورقة في هذا الموضع لإصلاح العيب، فظهر ما صورته صورة الطمس، وليس به؛ لأن الكلام متصل لا انقطاع فيه. والله أعلم.
(2)
في هذا الموضع أيضًا وقع الطمس الذي نبهتُ عليه في الحاشية السابقة.
(3)
انظر "مجموع الفتاوى": (8/ 343).
(4)
عبارة: "وقالوا في أظهر قوليهم: إن إرادته هي حبه ورضاه تقوم به" تكررت في الأصل.
وأما السلف والأئمة وعامّة الفقهاء وأكثر طوائف النظَّار، من الكرَّامية وغيرهم، والحنفية وأئمة المالكية والشافعية والحنبلية، وأهل الحديث، وأئمة الصوفيّة، وابن كُلّاب، وطائفة من أصحاب الأشعري، فيقولون: إنه خَلَق كلَّ شيء بمشيئته، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يحبّ الكفرَ والفسوقَ والعصيان، بل يحبّ ما أمر به.
وعلى هذا فهو إذا خلق شيئًا لحكمةٍ فهو يحبّ تلك الحكمة التي خلقه لأجلها، وإن كان هو في نفسه مكروهًا له لا يحبه.
وعلى هذا فالحَسَن في حقّه هو ما يحبّه والقبيح ما يبغضه. والفعل ــ ويراد به نفس الفعل، ويُراد به المفعول المخلوق ــ فهذا قد يكون محبوبًا له، وقد يكون مكروهًا له، وأما الأول فلا يكون محبوبًا، وهو لا يفعل إلا ما يحبّه، فلا يفعل إلا الحَسن، والحسنُ يقرّ به وينبهج به ويرضاه ويرضى عن صاحبه. والسيئ يبغضه ويمقته ويمقتُ صاحبَه، وهو منزّه
(1)
سبحانه أن يفعل شيئًا هو قبيح مطلقًا، بل لا يفعل إلا ما له فيه حكمة لأجلها كان مرادًا له، وإن كان يبغضه من بعض الوجوه. فالخير بيديه [ق 194] والشرُّ ليس إليه.
وعلى هذا القول: فيجب تنزيهه عن كلِّ فعل يناقض كماله، كما يجب تنزيهه عن كلّ وصف يناقض كماله، وهو منزَّه عن الظلم،
(1)
عند هذه الكلمات الثلاث "منزّه، إلا ما، من بعض" ما يشبه الطمس بمقدار كلمة أو كلمات، والسياق مستقيم. وتقدم في الصفحة السابقة شرح ما وقع في النسخة.
والظلمُ: وضعُ الشيء في غير موضعه.
وعلى قول الجهمية القدرية المجبرة ومن وافقهم: لا ينزَّه عن فعل شيء ممكن، والظلم هو الممتنع لذاته، وهو غير مقدورٍ له، فإنه إما التصرُّف في غير ملكه، وإما معصية من فوقه، وكلاهما ممتنعٌ في حقه.
وعلى قول القدرية النُّفاة من المعتزلة ومن وافقهم فما حَسُن منه حَسُن من عباده، وما قَبُح من عباده قَبُح منه، وما كان ظلمًا منهم كان ظلمًا منه، وهم مُشبّهة الأفعال.
وقد ألزمهم الناس بأنه يفعل ما يقبُح في
(1)
العقل، كتمكينه عباده وإمائه من الظلم والفواحش مع قدرته على المنع، واعتذروا عن ذلك بأنه
(2)
عرَّضهم للثواب بالتكليف.
فأجاب الناسُ عن ذلك بأنه إذا عَلِم أنه إذا أمرهم ونهاهم لم ينتفعوا بذلك ولم يطيعوا، لم يكن الأمر حسنًا من العبد، بل يجب منعهم بالقهر، أو أنه لا يتملَّك مَنْ هذا سبيله
(3)
.
فكان قياس قولهم يقتضي أن الله يقبُح منه خلقهم وتكليفهم؛ ولهذا قال من قال من الأئمة: ناظِروا القدريّة بالعلم، فإن أقرّوا به خُصِموا، وإن
(1)
الأصل: "من" ولعله ما أثبت.
(2)
الأصل: "فإنه" تحريف.
(3)
انظر "مجموع الفتاوى": (8/ 506)، و "منهاج السنة":(3/ 91).
جحدوه كفروا
(1)
.
وهذا من جهة العلم بعاقبة أفعال العباد يناقض خلقهم وأمرهم إذا قيل بالمخلوق.
وقد زعم طائفة: أنه من جهة أنّ العلم يوجب امتناع وقوعٍ بخلاف المعلوم، وامتناع قدرة العبد على خلاف ذلك، كما يذكره الرّازي، وليس كذلك، فإنّ العلم بما يفعله المختار لا يناقض كونه محتاطًا
(2)
، فإنّه يعلم أنه يفعل باختياره.
وأما العلم بالعاقبة فيناقض أنه أراد خلاف ما عُلِم من العاقبة
(3)
أنه لا يكون. فالعلم يناقض أن يُراد بالخلق ما عُلِم أنه لا يكون، لا يناقض القدرة.
وعلى القول الأول ــ قول السلف والأئمة والجمهور ــ فإذا خَلَق ما خلق لحكمةٍ يحبّها ويرضاها، وخلقَ ما خلقه من الشرّ فلِما
(4)
له في ذلك من الحكمة= لم يمتنع أن يكون فيما خلقه ضررٌ ما
(5)
على بعض
(1)
انظر "مجموع الفتاوى": (32/ 349). وعزاه في "شرح الطحاوية"(ص 271) للإمام الشافعي.
(2)
الأصل: "محتاط". ولعلها: "مختارًا".
(3)
العبارة في الأصل: "خلاف من العاقبة ما علم أنه
…
". ولعلها ما أثبت.
(4)
كذا، ولعل الأصح:"لما".
(5)
الأصل:"ما ضرر".
المخلوقات، إذ كان ذلك من لوازم الحكمة المرادة، وامتنع وجود الحكمة المرادة بدون ذلك. وإذا كان العبد لا يقبح منه إيلام الحيوان لحكمةٍ راجحة، فالخالق أولى أن لا يقبُح منه ذلك.
وإذا قيل: فقد كان يمكن وجود الحكمة بدون ذلك.
قيل: هذا قولٌ بلا علم، فمن أين لكم ذلك؟ وهو سبحانه وتعالى على كلِّ شيء قدير، والممتنع ليس بشيء باتفاق العقلاء، فمن أين علمتم أن ذلك ممكن غير ممتنع حين تناوله القدرة؟ وعدمُ العلم بالامتناع غيرُ العلم بعدم الامتناع، وكذلك عدم العلم بالإمكان غير العلم بعدم الإمكان، وعدم العلم بالوجوب غير العلم بعدم الوجوب. ونظائر هذا متعددة.
ولكن كثير من الناس يشتبه عليهم هذا، فإذا لم يعلم أحدهم أنَّ الشيء موجود، أو واجبٌ، أو ممكنٌ، أو ممتنعٌ، ظنَّ أنه غير موجود، أو غير واجب ممكن، أو غير ممتنع؛ فيجعلون عدم العلم علمًا بالعدم! وهذا مما نهى الله عنه بقوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].
ولهذا كان النافي عليه الدليل، وأما المانع المطالب بالدليل؛ فليس عليه دليل، لأن النافي نفى وأخبر بالنفي، فليس له أن ينفي بلا علم، كما ليس له أن يُثبت بلا علم، بخلاف المانع المطالب، فإنه لم ينف ولم يثبت، بل طالب المثبت بدليل الإثبات.
والإنسان ليس له أن يتكلم بلا علمٍ، لا في النفي ولا في الإثبات، ولو سكت من لا يدري قلَّ الخلاف
(1)
. فهذا هذا، والله أعلم.
وإذا قيل: خَلَق فِعل العبد ثم جازاه عليه، فإنه ظلم.
قيل: هذا غلطٌ، فإنه علم بصريح العقل واتفاق العقلاء أن مجازاة الإنسان بنظير عمله من الحكمة والعدل، وأنه لا يجوز التسوية بين العادل والظالم، والجاهل والمحسن والمسيء، بل هذا من الأمور المنزّهة المستقبحة عند العقلاء.
ولهذا قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا [ق 195] السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وقال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، وقال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22]، وقال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].
(1)
نسبت هذه الكلمة لكلثوم العتابي كما في "معجم الأدباء": (5/ 2244 - دار الغرب). ونسبت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وسواءٌ قُدِّر أنّ أفعالَ العباد مخلوقةٌ لله أو لم تكن، فإنّ كون العادل يستحقّ الإكرام، والظالم يستحقّ الذّمَّ والإهانة= أمرٌ فُطِر عليه بنو آدم، مع كونهم مفطورين
(1)
على أنَّ الله خالق كلِّ شيء؛ ولهذا كان جماهير الأمم من العرب وغيرهم مُقِرّين بهذا وهذا، وليس في فطرة أحد رفع الذم والعقاب عن الظالم مطلقًا، لكن فعلَه مخلوقٌ
(2)
لله، والظلم: وضعُ الشيء في غير موضعه. فوضع العقاب على من لم يُسئ ظلمٌ، والحكمةُ: وضع الشيء في موضعه، والله لا يظلم أحدًا شيئًا، ولا يجزي أحدًا بظلم إلا بعمله.
وكونه خالقًا لأعمال العباد من كمال قدرته ومشيئته وربوبيته، وجزاؤه بعمله من كمال حكمته وعدله وربوبيته، وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وله في ذلك من الحكمة البالغة ما لو جُمِعت عقولُ جميع العقلاء لم يدركوا غاية حكمته. وتوهّم المتوهِّم إمكان حصول كمال الحكمة بدون ذلك ظنٌّ منه، وكلامٌ بلا علم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28].
* * *
في آخر النسخة ما نصه: "قال كاتبه: إلى هاهنا وجدت في نسخة الأصل، فاعلم ذلك. والله أعلم".
(1)
الأصل: "مفطورون".
(2)
الأصل: "مخلوقًا".
مسألة
في عقيدة أهل گيلان
ذكر من شاهد بخط الشيخ الإمام المحدّث عبد الله الإسكندري ما صورته ــ وقد حدثني به غير مرة ــ:
حَضَر الشيخ شمس الدين محمد بن الرضي خطيب گيلان
(1)
يوم الأربعاء رابع عشر صفر سنة خمس عشرة
(2)
وسبعمائة بدمشق المحروسة، بعد قضاء نُسكه في عَوده إلى بلده، إلى بين يدي الشيخ ــ يعني تقي الدين أحمد ابن تيمية ــ فسلّم عليه، وفاتحه الشيخُ فيما يقولون عن أهل كيلان في نزول الربّ عز وجل إلى الأرض والطرقات؟
فقال: والله الذي لا إله غيره هذا شيءٌ
(3)
ما سمعته لا من خواصّ الناس ولا من عامّتهم.
ثم سأله عن النزول إلى السماء الدنيا؟
فقال: سمعنا عن شيخ الإسلام الأنصاري أنه قيل له: ما تقول في النزول؟ فقال: نزولٌ لا يعرفه الكروبيّون، أعرفه؟ وهذا جوابنا عن النزول.
(1)
جيلان: بالكسر اسم لبلاد كثيرة من وراء بلاد طبرستان. إحدى محافظات إيران الآن على حدود بحر قزوين. وليس في جيلان مدينة كبيرة إنما هي قرى في مروج بين جبال، ينسب إليها جيلاني وجيلي، والعجم يقولون: گيلان، وقد فرق قوم فقيل: إذا نسب إلى البلاد قيل: جيلاني وإذا نسب إلى رجل منهم قيل: جيلي. انظر «معجم البلدان» : (2/ 201).
(2)
الأصل: «عشر» .
(3)
الأصل: «شيئًا» .
فسأله الشيخ عن القول في المصحف؟
فقال: الورق مخلوق وكلام الله غير مخلوق.
فقال الشيخ: هكذا تقول؟
فقال: هذا اعتقادنا، نعم هكذا نقول.
فقال الشيخ: الصوت، ما تقولون فيه؟
فقال: نحن نقول: صوت القرآن غير صوت الناس.
فقال الشيخ: أنا إذا قلتُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ما هو؟
فقال: كلام الله.
فقال الشيخ: بصوتي أم بصوت الله القائم بذاته سمعت ذلك في هذه الساعة؟
فقال: سمعت القرآن بصوت القرآن.
فقال الشيخ: بل سمعت القرآن بصوتي، الكلامُ كلام الباري، والصوتُ صوت القاري. هذا هو الحق، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«زيِّنوا القرآنَ بأصواتكم»
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد (18494)، وأبو داود (1468)، وابن ماجه (1342)، والنسائي (1015)، وابن خزيمة (1551)، وابن حبان (749)، والحاكم:(1/ 571) في صحاحهم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
صورة خط الشيخ عبد الله الإسكندري: نعم الأمرُ على ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه. كتب عبد الله الإسكندري.
***
كتب بعده بخط الأصل: قال الشيخ تقيّ الدين أحمد ابن تيمية شيخنا رضي الله عنه: ليس لأحد أن يتكلّم في أحدٍ بلا علم، ولا بهوى النفس، فإن الإنسان مسؤولٌ عن ذنوب نفسه لا عن ذنوب غيره.