الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الشيخ إلى بعض أهل البلاد الإسلامية
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
وما توفيقي إلا بالله
جزء فيه: كتاب الشيخ تقي الدين أبو
(1)
العباس أحمد ابن تيمية
(2)
، إلى بعض أهل البلاد الإسلامية، فيما تقتضيه الشريعة المحمدية، في قضية سئل عنها من الأمور الدينية.
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
ربِّ اختم لي بخير
لما كان بتاريخ يوم الأحد رابع عشر جمادى الأولى سنة أربع وسبعمائة، حضر إلى مجلس شيخ الإسلام وقدوة الأنام، الإمام العلامة، مفتي الفرق، ناصر السنة، محيي الشريعة، قامع أهل البدع، تقي الدين أبي العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، غفر الله له ولجميع المسلمين وأثابهم الجنة بمنِّه وكرمه= الشيخُ أحمد السرَّاج الفقيه يومئذٍ بقرية كفرقوق الفستق من إقليم داريَّا من أعمال دمشق المحروسة.
وذَكَر أن بقريته ومن حولها أناسًا منهم فقراء من أصحاب الشيخ حسن القطني، وعلي القطني الرفاعية وغيرهم مُوَلَّهين مكشوفي
(1)
كذا.
(2)
كتب "الحراني" ثم ضرب عليها ليستقيم له السجع.
الرؤوس وغير مولَّهين، وبعضهم يصلي، وبعضهم تارك الصلاة.
فأما الذي يصلي إذا قاموا خلف الإمام في الصلاة إذا سمعوا حِسًّا، كصرير بابٍ أو مشي بقبقاب قويّ أو حركة قويّة= فمنهم [ق 2] من يزعق، ومنهم من يقول: آه آه! ومنهم من يقول: آخ آخ! وأنه نهاهم عن ذلك فقالوا: نحن فقراء وهذه طريقنا وطريق شيخنا!
وأما الذين لم يصلوا منهم فأمَرَهم بالصلاة، فمنهم من اعتذر أن ثوبه نجس، ومنهم من يقول: أنا بردان، ومنهم من يقول: أشغال الدنيا تقطعنا عن الصلاة، ومنهم من يقول: يا فقيه إن الصلاة ما هي فرض إلا على من هو فارغ من عمل الفلاحة وأشغال الدنيا!
وسأل الشيخ أن يكتب له كتابًا إليهم، فكتب له الشيخ كتابًا إليهم وإلى غيرهم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية، والسنة النبوية المحمدية، وهذه صورة الكتاب:
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
من الداعي أحمد ابن تيمية إلى من يصل إليه كتابه من أمراء المسلمين وولاتهم وقضاتهم ورؤسائهم، جمعَ الله لهم خير الدنيا والآخرة، وأسبغ عليهم نِعَمه باطنة وظاهرة، وتولّاهم في جميع الأمور، وصرف عنهم كلّ محذور.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهلٌ، وهو على كل شيء قدير. ونسأله أن يصلِّي على إمام المتَّقين وخاتم النبيين: محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أما بعد؛ فإن الله تعالى بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وجعل أمَّته خيرَ أمة أخرجت للناس، وأنزل عليه أفضل الكتب، وأكمل له ولأمته الدين، وأتمَّ عليهم النعمة.
وقد أمر الله ــ سبحانه ــ عبادَه المؤمنين بجهاد من خرج عن دينه من الكافرين والمنافقين، وأمر بجهاد من خرج عن شريعة الإسلام، حتى يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا.
وفرَضَ على المؤمنين الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، فأعْرَف المعروف، وعماد الدين، وأفضل الأعمال، وأول ما أوجبه الله من الفرائض، وآخر ما يبقى من الدين: هي الصلوات الخمس في مواقيتها
كما أمر الله ورسوله. فإنه يجب قتال الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، كما أمر الله ورسولُه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: "خمسُ صلوات فرضهنَّ الله على العبيد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليهنَّ، كان له عند الله عهدٌ أن يدخله الجنة"
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (22016)، والترمذي (2616)، والنسائي في "الكبرى"(11330)، وابن ماجه (3973)، والحاكم:(2/ 76)، والبيهقي:(9/ 20) وغيرهم من حديث أبي وائل شقيق بن سلمة عن معاذ بن جبل ــ رضي الله عنه ــ. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، والمصنف في "الفتاوى":(17/ 26).
وقد تعقب ابن رجب من صحح الحديث من وجهين:
الأول: أنَّه لم يثبت سماعُ أبي وائل من معاذ، وإنْ كان قد أدركه بالسِّنِّ، وكان معاذٌ بالشَّام، وأبو وائل بالكوفة. وقد حكى أبو زرعة الدِّمشقي عن قوم أنَّهم توقَّفُوا في سماعِ أبي وائل من عمر، أو نفوه، فسماعه من معاذ أبعد.
والثاني: أنَّه قد رواه حمَّادُ بن سلمة، عن عاصم بن أبي النَّجود، عن شهر بن حوشبٍ، عن معاذ، خرَّجه الإمام أحمد مختصرًا. قال الدارقطني "العلل":(6/ 73 ــ 79): وهو أشبهُ بالصَّواب؛ لأنَّ الحديثَ معروفٌ من رواية شهرٍ على اختلافٍ عليه فيه. وله طرقٌ أخرى عن معاذ كلُّها ضعيفة. انظر "جامع العلوم والحكم": (2/ 135). والحديث صحيح بشواهده.
(2)
أخرجه أحمد (22693)، وأبوداود (1420)، وابن ماجه (1401)، والنسائي (462)، وابن حبان (1732) وغيرهم، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه به. وفي سنده المخدجي ذكره ابن حبان في ثقاته وأخرج له في صحيحه.
وله طريق أخرى عن عبد الله (أو أبو عبد الله) الصنابحي عن عبادة بنحوه. أخرجه أحمد (22704)، وأبوداود (425)، والبيهقي:(2/ 215)، وغيرهم. وسنده صحيح. و الحديث صحَّحه ابن عبد البر في "التمهيد":(4/ 184)، وابن الملقن في "البدر المنير":(5/ 389). ووقع في الأصل "عهدًا".
وقال: "ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة"
(1)
. وقال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد [ق 3] كفر"
(2)
.
فعلى المسلمين أن يقيموا الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله، وعليهم أن يأمر بعضُهم بعضًا بذلك من الرجال والنساء، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].
وقال عليٌّ ــ عليه السلام ــ: "علِّموهم وأدِّبوهم"
(3)
.
ومن امتنع من الصلوات الخمس من الرجال والنساء؛ فعليه العقوبة
(1)
أخرجه أبو داود (4678)، والترمذي (2620)، وابن ماجه (1078)، والنسائي (464)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن صحيح.
(2)
أخرجه أحمد (22937)، والترمذي (2621)، وابن ماجه (1079)، النسائي (463)، وابن حبان (1454)، والحاكم:(1/ 6 - 7) وغيرهم من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. قال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان والحاكم. وصححه ابن القيم في "الصلاة"(ص 68) على شرط مسلم.
(3)
أخرجه الطبري: (23/ 103)، وغيره كما في "الدر المنثور":(14/ 588 ــ هجر). ومضى التعليق على قوله: "عليه السلام"(ص 151).
البليغة بإجماع المسلمين، وحُكْمه أن يُسْتتاب، فإن تاب وإلا قُتل.
وهذا الكتاب كُتِبَ إنذارًا وإعذارًا، فمن أطاع اللهَ ورسولَه فله سعادة الدنيا والآخرة، ومن امتنع من ذلك عُوقِب بما حَكَم الله به ورسوله.
وليس للمسلم أن يؤخِّر الصلاةَ عن وقتها إلا إذا كان له عذر، فإنه يجمع بين صلاتي النهار: الظهر والعصر، وصلاتي الليل: المغرب والعشاء. ولا يؤخِّر صلاةَ الليل إلى النهار، ولا صلاة النهار إلى الليل باتفاق المسلمين.
ومن كان جُنبًا أو محدِثًا وقد عدم الماء أو تضرر باستعماله لبردٍ أو مرض= فإنه يتيمّم الصعيد الطيّب ويصلي، وإذا لم يجد إلا ثوبًا صلى فيه ولو كان نجسًا إذا لم يقدر أن يصلي إلا على تلك الحال، فإن الله تعالى يقول:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
(1)
.
وعلى المسلمين ملازمة السنن النبوية المحمدية، ومجانبة البدع المحدثة الجاهلية؛ فيقوموا في الصلاة لله قانتين كما أمر الله ورسوله.
ومن تكلَّم في صلاته بكلام الآدميين، أو صاح في صلاته لصرير بابٍ أو حسِّ شيءٍ من الأشياء ونحو ذلك، فقد عصى اللهَ ورسولَه، وبطلت صلاتُه. وإنما الصلاة هي القراءة والتسبيح والتحميد والتكبير والدعاء لله، كما علّمَه النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّته.
(1)
أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وليس لأحدٍ خروجٌ عما أمر الله ورسوله به المسلمين، ولا عما شرعه الله ورسوله لعباده المؤمنين، بل جميع الأولياء والصالحين من الأولين والآخرين داخلون في ذلك، ملتزمون لذلك.
ومن خرج عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته، وهو الشِّرْعة والمنهاج الذي بعَثَه به، فلم يلتزم أداء الواجبات ولا اجتناب المحرَّمات؛ فإنه يجب قتله وقتاله كائنًا من كان، كما يجب قتال التتار، وبعض هؤلاء شرٌّ منهم، سواءٌ كان منتسبًا إلى العلماء أو الفقهاء، أو العبَّاد والفقراء، أو الملوك والرؤساء، ولو طار في الهواء أو مشى على الماء!!
ليس لأحدٍ خروجٌ عما أمر الله به ورسوله، ولا [ق 4] هو
(1)
أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى ــ عليه السلام ــ، فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كان النبيّ يُبْعث إلى قومه خاصَّةً وبُعِثتُ إلى الناس عامة"
(2)
. فموسى ــ عليه السلام ــ لم يكن مبعوثًا إلى الخضر ولا كان الخضر مأمورًا بطاعته، بل قال له:"إني على عِلْمٍ مِن عِلْم الله علّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على عِلْم مِن عِلْم الله علَّمكه الله لا أعلمه"
(3)
.
(1)
كذا. ولعلها: "يكون".
(2)
أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (122)، ومسلم رقم (2380) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما خاتم الرسل وسيد ولد آدم، فهو مبعوثٌ إلى جميع الثَّقَلين الجن والإنس. ولو قال أحدٌ له مثل ما
(1)
قال الخضر لموسى لكان كافرًا يجب قتله، فعلى المسلمين أن يعرفوا هذا الأصل، الذي هو
(2)
عصمتهم في دينهم.
ولا يمكن
(3)
أحدًا من الابتداع في الدين لما لم يأذن به الله، فإن الله تعالى يقول:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
ومن انتسب إلى شيخ من شيوخ المسلمين، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله، ونسب بدعته إلى ذلك؛ فهو كاذب عليه مفترٍ إن كان الشيخ مهتديًا في ذلك، وإلا كان الشيخ قد أخطأ وضلَّ إن ثبت أنه خالف السنة النبوية.
وليس لأحدٍ أن يطيع أحدًا في خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان من أكابر مشايخ الدين وأئمة المسلمين. قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء:65]. [و] قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51].
(1)
غير واضحة في الأصل.
(2)
ملحقة في الهامش ولم تظهر، وتحتمل"به".
(3)
طمس جزء منها ويمكن أن تقرأ غير ذلك.
فكل من دُعي إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصدَّ عن ذلك وأعرضَ عنه، طاعةً لبعض السادة والكُبَراء في الدين أو في الدنيا= فهو منافق أخذ بنصيبٍ من حال الذين {تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 66 - 68].
وهؤلاء الذين يبتدعون في الدين كشفَ الرؤوس، وتفتيل الشعور، وإظهار الخزعبلات، مثل اللعب بالحيَّات والنار واللاذن والزعفران والسكر والدم= هم مبتدعون في ذلك ضالّون مضِلّون.
[ق 5] وكل من كان صالحًا وليًّا، فهو بريءٌ من هذه البدع والضلالات والأكاذيب والتلبيسات.
وأما أولياء الله تعالى فهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا
وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:61 - 63]. فقد وصف الأولياء بالإيمان والتقوى.
وقد فسّر الله ــ سبحانه وتعالى ــ التقوى في قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177].
والله هو المسؤول أن يجمع لكم ولسائر المسلمين خير الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.
علقه لنفسه محمد بن أحمد بن علي الخطيب، من أصل حسين بن إبراهيم بن أحمد بن سونج
(1)
، وعليه خط الشيخ ــ رضي الله عنه ــ. وذلك في سابع عشر شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبعمئة.
(1)
ذكره الذهبيّ في "تاريخ الإسلام": (51/ 180، 356. 52/ 217) هو وأخوته الأربعة وأباهم، وقال عن حسين هذا:"صاحبنا الشيخ حسين". وقال: "وخمستهم فيهم دين وجودة".
كتاب الشيخ إلى الأمير
شمس الدين سُنْقرچاه
كتابٌ كتبه شيخ الإسلام وقدوة الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية ــ رضي الله عنه ــ إلى الأمير شمس الدين سُنْقرچاه
(1)
المنصوري لما تولى صَفَد المحروسة في شهر شوال من سنة أربع وسبعمئة. وهذه نسخَتُه:
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
من الداعي أحمد ابن تيمية إلى أمير الأمراء شمس الدين ناصر الإسلام، أعزَّ الله به الدين وأصلح به أمور المسلمين، وأقام له وبه أمر الدنيا والدين، وأعانه على إقامة العدل في العالمين، ودَفْع أهل البدع والفجور المعتدين.
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنَّا نحمدُ [ق 2] إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وإمام المتقين: محمدٍ عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليمًا.
أما بعد؛ فإنّ الله تعالى قد أنعم على الأمير وأنعم به، حيث جعل فيه من الصفات المحمودة والأخلاق الرضيَّة ما قد انتشر عنه وسَمِعَه المسلمون، ولهذا فرحوا بولايته فرحًا شديدًا عظيمًا، فالله تعالى يتمُّ نعمته عليه وعلى إخوانه المؤمنين.
(1)
كذا، ويقال:"سنقرشاه"، وقد ترجمت له في المقدمة عند الكلام على الرسالة.
فقد ثبت في "الصحيحين"
(1)
أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال:"وجَبَت وجَبَت". ومُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًّا، فقال:"وجَبَت وجَبَت". قالوا: يا رسول الله ما قولك: "وجبت وجبت"؟ قال: "هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًّا فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض".
فأيُّ وليِّ
(2)
أمرٍ من أمور المسلمين أنعمَ الله عليه بحُسْن القصد، وابتغاء وجه الله، والنُّصْح لرعيَّته، وإقامة العدل بينهم، فإنّ الله تعالى يجعل له من الدُّعاء المستجاب، والثناء المستطاب، وجميل الأجر والثواب= ما هو من أنفع الذخائر له في الدنيا والمآب.
وإذا أراد المسلم أن يتدبَّر ذلك، فلينظر كيف شُهرة عمر بن عبد العزيز، والسلطان نور الدين الشهيد، وغير هؤلاء من ولاة الأمور، أهل الصدق والعدل، والهدى والرَّشاد.
ولينظر كيف شهرة قوم آخرين، أقدمهم الحجَّاج بن يوسف الثقفي، وأمثاله من أهل الظلم والعدوان، الذين لهم سمعة سوءٍ في مَحْياهم ومماتهم؛ ما بين ذاكرٍ لمساويهم، وما بين داعٍ عليهم، وما بين مبغضٍ لهم. وأولئك لهم الدعاء والثناء، وهم في الآخرة في {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
(1)
البخاري (1367)، ومسلم (949) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
غير واضحة ولعلها ما أثبت.
وقد روى الإمام أحمد في "مسنده"
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحبّ الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام ظالم".
وقد رُوي: "يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين أو سبعين سنة"
(2)
.
وفي "الصحيحين"
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمال، فقال: إني أخاف الله ربَّ [ق 3] العالمين، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينُه".
وكان عمر بن عبد العزيز يقول عن ذي السلطان: هو كالسوق فما نَفَق فيه جُلِبَ إليه
(4)
. فإذا نَفَق عنده الصدق والبر والعدل وطاعة الله
(1)
(11174). وأخرجه الترمذي (1319)، والبيهقي في "الكبرى":(10/ 88) من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وقال ابن القطان في "بيان الوهم": (4/ 363): "وعطية العوفي يضعف، وقال ابن معين فيه: صالح. فالحديث حسن".
(2)
تقدم تخريجه (ص 202).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد": (10/ 215).
ورسوله= جُلِب إليه ذلك. وإن نَفَقَ فيه ضدُّ ذلك، جُلِب إليه ضدُّ ذلك.
والله ــ سبحانه ــ قد جعل قيام أمر الملّة والدولة بالمصحف والسيف، فقال في كتابه:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]. فجعل سبحانه المقصود بإرسال الرسل وإنزال الكتب هو أن يقوم الناس بالقسط، وجعل قيام ذلك بكتابٍ يهدي وسيفٍ ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.
ولهذا رُوي عن جابر بن عبد الله قال: أمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا ــ يعني السيف ــ من خرج عن هذا ــ يعني المصحف ــ
(1)
.
(1)
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق": (52/ 279) ولفظه: عن عمرو بن دينار قال: رأيت جابر بن عبد الله وبيده السيف والمصحف وهو يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا من خالف ما في هذا. لكن أخرجه سعيد بن منصور في "سننه": (2/ 333)، والحاكم:(3/ 436)، وابن عساكر:(39/ 322) بسياق آخر ليس من قول جابر، ولفظه: عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: بعثنا عثمان في خمسين راكبًا وأميرنا محمد بن مسلمة، فاستقبلنا رجل في عنقه مصحف، متقلدًا سيفه، تذرف عيناه، فقال: إن هذا يأمرنا أن نضرب بهذا ــ يعني السيف ــ على ما في هذا. فقال له محمد: اجلس، فنحن قد ضربنا بهذا على ما في هذا قبلك أو قبل أن تولد. قال: فلم يزل يكلمهم حتى رجعوا. وصححه الحاكم على شرط الشيخين.
وكان بعض الملوك العادلين
(1)
يضع المصحف، ويضع "سنن أبي داود"، ويضع السيف، ثم يقول: هذا كتاب الله، وهذه سنة رسوله، وهذا سيف الله. فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسول الله ضربناه بسيف الله.
وقد بَيَّن الله في كتابه آية ولاة الأمور
(2)
، فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58].
وأداء الأمانات هو في الولايات وفي الأموال.
فأما الولايات؛ فإنَّ الله أمر وليَّ الأمر أن يولي في كل جهةٍ أصلح من يقدر عليه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
قال: "من قلَّد رجلاً عملاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين" رواه الحاكم في "صحيحه"
(3)
.
(1)
هو: السلطان أبو يوسف يعقوب بن يوسف المغربي المرَّاكشي (ت 595). وانظر الخبر في "سير النبلاء": (21/ 314). وليس فيه قوله: "هذا كتاب الله
…
".
(2)
انظر "السياسة الشرعية"(ص 5 ــ بتحقيقي).
(3)
"المستدرك": (4/ 104)، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(1462)، وابن عدي في "الكامل":(2/ 352)، والعقيلي في "الضعفاء":(1/ 247) من طريق حسين بن قيس الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بأن حسين بن قيس ضعيف. وقال العقيلي في ترجمة الرحبي: وله غير حديث لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به. وقال: إن هذا الحديث يُرْوى من كلام عمر بن الخطاب.
ورواه البيهقي: (10/ 115)، والطبراني في "الكبير"(11216)، وأبو نعيم في "فضيلة العادلين"(ص 107)، والخطيب في "تاريخه":(6/ 76) من طرقٍ أخرى عن ابن عباس، وكلها ضعيفة. انظر "نصب الراية":(4/ 62)، و"السلسلة الضعيفة"(4545).