الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والرسُل صلوات الله عليهم وسلامه إذا بلّغوا الناسَ رسالات ربهم، فإنه بما جعل الله
(1)
في الناس من العقول، وبما أُتوا به من الآيات يُعرف صدق الرسل ويحصل الإيمان بهم
(2)
، وبمجرّد العقل قد يعرف الإنسان أن له خالقًا، ويعرف بعضَ صفاته، وأما التفاصيل التي جاءت بها الرسل فلا تُعرف إلا من جهتهم، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50].
ومحمد صلوات الله عليه وسلامه كان أكمل الناس عقلًا، وكان مُقرًّا بربه عز وجل قبل النبوّة، ومع هذا فقد قال:{وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]، وقال الله تعالى له:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] وهو الإيمان بالغيب الذي جاء به جبريل عليه السلام، الذي لم يكن يعرفه قبل هذا.
و
تعريف الرسل على وجهين:
تارة تُنبّه القلوب وترشدها وتذكّرها بما فيها، فيعلم الإنسان بعقله ونظره واستدلاله الذي دلَّه عليه الرسول وأرشده إليه ما أخبره به الرسول، ولا يكون في هذا مقلِّدًا للمخبر ولا
(1)
هنا إشارة إلى لحق في الهامش، لكن لم يظهر إلا بعض كلمة.
(2)
الأصل: "به".
مستفيدًا له بمجرد خبره، بل بالنظر والاستدلال العقلي الذي أرشده إليه الرسول، كما بيَّن الله تعالى في القرآن الدلائل الدالة على وحدانيته، وصِدْق رُسله، وإمكان المعاد، وإثبات [ق 183] صفاته.
والرسل صلوات الله عليهم وسلامه لمَّا جاءوا بالآيات والبراهين عُرِف صدقهم بالنظر والاستدلال بالعقل.
والتعريف الثاني: أن تخبرهم الرسل بما
(1)
لا تهتدي إليه عقولُهم، بهذا يعرفونه بإخبار الرسول؛ لكونهم استدلوا بالعقل على صدق الرسول بالآيات الدالة على صدقه
(2)
. وإبراهيم عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء والرسل استدلوا بالدلائل العقلية والبراهين اليقينية، وكانوا مرشدين للناس إلى الاستدلال بها، وهو الطريق الأول من طريق تعريف الرسل عليهم السلام.
فقول القائل في العقل: هل هو حجة؟ إن أراد به هل يُعْرف بالعقل شيءٌ من العلوم الإلهية وغيرها بدون الرسل، فلا ريبَ أن العقول يُعرَف بها كثير من العلوم مع قطع النظر عن الشرائع.
وإن أراد به هل تقوم الحجة على العباد بمجرّد عقولهم، فيعاقبهم الله على كفرهم لمخالفتهم مجرّد العقل، من غير أن يبعث الله إليهم رسولًا؟ فالذي عليه جمهور المسلمين: أن الله تعالى لا يعذِّب أحدًا
(1)
الأصل: "لما".
(2)
كذا العبارة في الأصل، وهي غير محررة. ولعلها: "فهذا يعرفونه
…
لكنّهم استدلوا".
حتى يبعث إليه رسولًا، كما نطق بذلك الكتاب والسنة. وإذا جاء الرسول بالآيات ثبتَ الوجوب، ولزم العباد أن يؤمنوا به، واستحقّوا الذمَّ والعقاب إذا لم يؤمنوا، سواء نظروا أو لم ينظروا، فالوجوب لا يتوقف على النظر باتفاق الناس، وشرط العقاب التمكّن من العلم والعمل. والعبد متمكِّن من معرفة صدق الرسول، فإذا لم ينظر ولم يعلم كان مفرّطًا مستحقًّا للعقاب.
وقول السائل: بِمَ تثبت النبوات؟
فثبوتها في نفس الأمر بإنباء الله للأنبياء وإرساله الرسل. وأما ثبوتها في أنفسنا وعلمنا بها بالآيات والبراهين التي جاءت بها الأنبياء عليهم السلام، فاستدللنا بعقولنا بتلك الأدلة والآيات على صدقهم، كما يُستدلّ بكلّ دليل صحيح على مدلوله.
وقوله: بِمَ استدل به إبراهيم عليه السلام؟
فيقال: استدلّ بالأدلة العقلية، لكنه استدلَّ بالأفول ــ الذي هو الاحتجاب والمغيب ــ على أنَّ مَنْ كان كذلك لا يصلح أن يُتخذ ربًّا، فإن قومَه كانوا يعبدون الكواكب والأصنام لظنهم أن ذلك ينفعهم، وكانوا يشركون بالله، ولم يكونوا منكرين للصانع.
ولا أراد إبراهيم بقوله: {هَذَا رَبِّي} أنّ هذا خالق السموات والأرض؛ فإن هذا لا يقوله عاقلٌ، ولم يقله أحدٌ من بني آدم، ولا استدلّ بالحركة والانتقال على انتفاء هذا المطلوب، بل ما زال الكوكب من
حين رآه إلى أن أفل سائرًا وهو لا يستدل بحركته على شيء، وإنما استدل بالأفول والاحتجاب.
وكان الواحد منهم يتخذ له كوكبًا يعبده يستجلب بذلك نَفْعَه، وكانت الشياطين تتنزَّلُ عليهم وتخاطبهم، كما يحصل لأهل دعوة الكواكب. فبيَّن الخليلُ عليه السلام أنّ المعبود الذي يستحقّ العبادة هو الذي يكون حيًّا قيّومًا عالمًا قادرًا مُدبّرًا لعباده في كلّ وقت، فإنه لا يُستغنى عنه في وقت من الأوقات، والآفل المُحْتجب الذي ليس بشهيدٍ على عابده، ولا بسميعٍ لأقواله، ولا قادرٍ على تدبيره= لا يصلح لذلك. فهذا ونحوه وجه حجة إبراهيم.
ولهذا لمَّا حاجّه قومُه قال: {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 80 - 82] وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} الآية [البقرة: 258].
وإنما حاجَّه إبراهيم بالدليل والنظر والعقل لا بمجرّد الخبر السمعي، ولا يقول عاقل: إنه يُعْلَم بخبر المخبر ما يُخْبِر به قبل أن يُعْلَم أنه صادقٌ في خبره، ولكن كثير من النظَّار يظنون أنّ الاستدلال بالكتاب والسنة، والاستدلال بسائر كلام الأنبياء إنما هو بمجرَّد خبرهم، قالوا: فلا بدّ أن نثبت بالأدلة العقلية قبل ذلك أنهم صادقون، وهذا كلام صحيح، لكنهم غلطوا من وجهين:
أحدهما: ظنهم أنّ الرسل لم تبيِّن للناس من الأدلة العقلية ما يعرفون به إثبات الصانع، وصِدْق رسله. وهذا غلطٌ عظيم، فإنّ الرسول إذا دعا قومًا إلى الله، فلا تتم دعوته إلا بأن يُبين ما يُعرف به صدقُه، ولا يُعرف صدقه إلا بأن يعرف الصانع، وتقوم الآيات على صدق رسله، فكيف يتوهّم أن الرسل إنما قادوا الناس بمجرّد أخبارٍ لا دليل على صدقها! وهل يَظنُّ هذا بالرسل إلا من هو مُفْرِطٌ في الجهل، بل الرسل بينوا للناس ما يُعرِّف صدقَهم، والقرآن مملوء من البراهين والآيات الدالة على صدق الرسل، بل وعلى إثبات الصانع، وقدرته وعلمه ووحدانيته وسائر المقدّمات التي يُظنّ أنّ العلم بصدق الرسول موقوفٌ عليها.
الوجه الثاني: أن هؤلاء سلكوا في إثبات الصانع وتصديق الرسول طرقًا مُبتدعَة ليست هي الطرق التي جاءت بها الأنبياء، فكانت تلك الطرق مبتدعَة في الدين ليست هي طرق المرسلين التي علموها للناس ودعوهم بها.
ثم إنّ تلك الطرق البدعيّة لها لوازم، فاحتاج من استدلّ بها أن يلتزمَ لوازمَها، فإنّ ثبوت الملزوم بدون اللازم ممتنع. وكانت لها لوازم تُناقض كثيرًا مما جاء به الرسول، فصار هؤلاء يريدون إثبات صدق [ق 184] الرسول بما يستلزم تكذيبَ الرسول. وصار كثير من الناس الذين عرفوا أنَّ طرقَهم طرقٌ مبتدعَة في الشرع، يعتقدون أنها مع ذلك طرق صحيحة تُعرف صحتها بالعقل، وإن لم تكن طرقًا شرعية. ورأوا معارضتها لكثير مما أخبر به الرسول، فصاروا حائرين إن أبطلوا
(1)
تلك الطرق ظنوا أنهم أبطلوا الأصول العقلية التي ثبت بها صدق الرسول، وإن صحَّحوها لزمهم تكذيب كثير مما جاء به الرسول.
فمن صحح تلك الطرق التزم إما تحريف ما جاء به الرسول، وإما الإعراض عن تدبّره وفهمه.
وأما من كان له خبرة بحقائق تلك الطرق المبتَدَعَة
(2)
، فإنه علم أنها ــ كما هي بدعة في الشرع فهي باطلة ــ ليست أصولًا للعلم بما جاء به الرسول، بل هي مناقضة لما جاء به الرسول، مع مناقضتها لصريح المعقول، وهم زعموا أنهم أثبتوا بها أنّ الله خالق لهذا العالم، وأنه قادرٌ عالمٌ، وأنه متكلمٌ، فيكون إرساله للرسول ممكِنًا مقدورًا.
ومن كان له خبرة بحقائق الصفات علم أن العلم بكون الرب خالقًا
(1)
الأصل: "بطلوا".
(2)
الأصل: "من المبتدعة" ولعله ما أثبت.
لهذا العالم، وأنه قادرٌ عالم متكلمٌ منزلٌ للقرآن مرسل للرسول، إمّا
(1)
ثبت بإبطال هذه الأصول المبتدَعَة، وإما بإبطال اعتقاد صحتها، فإنه مناقضٌ للعلم الذي هو أصول الدين، التي بها يُعلم صدق الرسول.
وهذه الجملة لها تفصيل مبسوطٌ في غير هذا الموضع. والله أعلم.
(1)
الأصل: "إنما" والصواب ما أثبت.