الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صورة كتاب عن
ابن عربي والاعتقاد فيه
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
وما توفيقي إلا بالله
صورة كتاب كتبه شيخ الإسلام وقدوة الأنام، فريد عصره، وإمام وقته، أنموذج الطِّراز الأول، ومَن عليه في زمانه المُعوَّل، الإمام العلامة، مفتي الفِرَق، تقيّ الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، فسح اللهُ في مدَّته للمسلمين، ونفع ببركته الطالبين، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته آمين.
وذلك بسبب كلام وقع في الاعتقاد بين جماعةٍ من الفقراء من أهل مدينة بعلبكّ في الاتحاد الذي أشار إليه ابن العربي في كلامه، وابن سبعين، وابن الفارض، وغيرهم ممن يعتقد مذهبهم ويوافقهم عليه، وذلك بحضرة جماعة من مشايخ دمشق، في مجلس الشيخ تقي الدين بدمشق.
واجتمع رأيُهم جميعهم على أنَّ القول بهذا الاتحاد إلحادٌ وكفر. وسألوا الشيخ ــ رضي الله عنه ــ أن يكتب بذلك
(1)
كتابًا إلى أهل بعلبكّ، ليعرفوا الحقّ فيتّبعوه، والباطل ويجتنبوه.
(1)
طمس جزء من الكلمة، وتحتمل "لهم بذلك" أو "في ذلك".
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
من الدّاعي أحمد ابن تيمية إلى السادة الأجلّاء الأكابر
(1)
من أهل بعلبك ومن حولها، جمع الله قلوبَهم [ق 2] على الهدى والرشاد، وأعانها على الصلاح والسداد، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، متَّبعين لشريعة نبيّهم خاتم المرسلين، وأصلح لهم أمرَ الدنيا والدين.
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كلّ شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وإمام المتقين، محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد؛ فإنه حضر إلى دمشق المشايخ السادة: الشيخ الكبير أبو القاسم، وأخوه الشيخ محمد، والشيخ هارون المقدسي، واجتمعوا بمجلسٍ فيه أعيان المشايخ السَّادة الذين يُقتدى بهم، مثل سيدنا الشيخ عماد الدين الحزّامي، والشيخ القدوة الشيخ محمد بن قِوام البالسي، والشيخ العارف عبد الله الجزري، والشيخ تاج الدين الفارقي، والشيخ شهاب الدين ابن جبارة، وغيرهم من المشايخ.
وجرى الكلام فيما وقع الخوض فيه من أمر الاتحاديّة
(2)
، كابن
(1)
آخر الكلمة مطموس، ولعلها ما أثبت.
(2)
غير واضحة، ولعلها ما أثبت.
العربي والتلمساني وابن سبعين ونحوهم، وأُحْضر كتاب "فصوص الحكم" لابن العربي، وقُرِئ منه فصول متعددة، وقُرِئ أيضًا بعض ما
(1)
كُتِب من بيان حقيقة أمرهم، وكشف سرّ مذهبهم.
وظهر للجماعة حقيقة أمره، وأن حقيقة مذهبه: أنّ وجود الكائنات ــ حتى وجود الكلاب والخنازير، والأنتان والعَذِرات، والكفار والشياطين ــ هي عين وجود الحق، وأنَّ أعيان الكائنات ثابتة في القِدم، لم يخلقها الله ولم يُبدعها، بل ظهر وجوده فيها، ولا يمكن أن يظهر وجوده إلا فيها، فهي غذاؤه بالأحكام، وهو غذاؤها بالوجود، وهو يعبدها وهي تعبده.
وأن عين الخالق هو عين المخلوق، وعين الحق المُنزَّه هو عين الخلق المُشبَّه، وأن الناكح هو المنكوح، والشاتم هو المشتوم، وأن عُبَّاد الأصنام ما عبدوا إلا الله، ولا يمكن أن يُعبد إلا الله.
وأن قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] أي: حَكَم وقدَّر، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فما عُبِد غير الله في كلّ معبود، وأن عُبَّاد الأصنام وقع تقصيرهم من حيث عبدوا بعض المجالي الإلهية، ولو عبدوا كلَّ شيءٍ لكانوا عارفين كاملين، وأن العارف الكامل يعلم ما عَبَد وفي أيِّ صورة ظهر حتى عُبِد، وأن نوحًا ــ عليه السلام ــ أثنى على قومه بلسان الذمّ، وأن أعيان المخلوقات هي نفس الخالق.
(1)
"بعض ما" مطموسة، فلعلها ما أثبت.
وأن الشخص الذي ادعاه أنه خاتم الأولياء هو أكمل من خاتم الأنبياء محمد من بعض الوجوه؛ فخاتم الأنبياء موضع لبنة، وخاتم الأولياء [ق 3] موضع لبنتين، وأنه أعلم من خاتم الأنبياء، وهو يأخذ من المعدِن الذي يأخذ منه المَلَك الذي يوحي إلى خاتم الأنبياء، وأن موسى ما عَتَبَ على هارون لمَّا ذمَّ قومه على عبادة العجل إلا لضيق هارون حيثُ لم يعرف أنهم إنما عبدوا الله!
وأنَّ السحَرَة عرفوا صدق قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. إلى أنواعٍ من هذه المقالات التي لا يعتقدها المسلمون ولا اليهود ولا النصارى ولا الصابئون ولا المشركون، وإنما هي قول المُعطِّلة الذين ينكرون وجود الصانع، وينكرون أن الله رب العالمين، وأنه خالق الخلق، وهو حقيقة قول فرعون والقرامطة الباطنية الجاحدين لربّ العالمين.
وكذلك يُقرُّ أعيان هؤلاء أنّ قولهم هو قول فرعون، ووقفوا على قوله
(1)
: إن عُبِد الله ما له حقيقة، وأن أهل النار لا يتألمون فيها، بل يتنعَّمون في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة!
فلما وقفوا على ذلك، اجْتَمعت كلمتُهم واتفقت قلوبُهم على أن هذا كفرٌ وإلحاد، وأنهم بُرآءُ إلى الله تعالى من أهل الحلول والاتحاد، سواء
(1)
أي: ابن عربي.
قالوا بالحلول أوالاتحاد في شيء معيَّن، كما تقوله النصارى في المسيح، والمغالية في عليّ وبعض أهل البيت، وكما تقوله طائفة في الحلَّاج، أو الحاكم بمصر، أو يونس
(1)
، أو غير هؤلاء. أو قالوا: إن ذات الله حالَّة في كلّ مكان، كما تقوله طوائف من الجهمية. أو قالوا بمقالة هؤلاء الذين يقولون: إنه عين الموجودات، وليس للعالم خالق متميِّز عنه، ولا ربّ له وجودٌ غير وجود الخلق، بل ينكرون الصانع ويعطلون الخالق.
واتفقت كلمتُهم على أنّ ثناء من يُثني على بعض هؤلاء ممن سمع عنه أنه رجل صالح أو أنه عارف، أو وقف على بعض كلامه الذي هو حسن؛ مثل بعض كلام ابن العربي في "الفتوحات"، وبعض كلامه في "مطالع النجوم"، وبعض حكاياته في "الدُّرَّة الفاخرة" ونحو ذلك. فإن من سمع ذلك أو رآه، ولم يقف على حقيقة قوله في "الفصوص"، ولم يعرف سرَّ مذهبه= فإنه لم يوافقه على قوله، بل لمَّا تبين له كلامه بالباطل تبرَّأ إلى الله من هذه المقالات الكفرية التي في "الفصوص" ونحوه، وممن يعتقدها.
كما قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ
(1)
يعني شيخ الطائفة اليونسية، يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي (ت 619). ترجمته في "السير":(22/ 178)، و"وفيات الأعيان":(7/ 256). وللشيخ قاعدة في أحواله. ذكرها ابن عبد الهادي في ترجمته (ص 65).
عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ [ق 4] فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
وأما نفس المتكلّم بهذا الكلام مثل ابن العربي وغيره، فيمكن أنه قد تاب منه، ويمكن أنه ما تاب منه. فإن كان مات مؤمنًا بالله ورسوله فهو من المؤمنين، وإن كان على غير ذلك فهو من المنافقين، والله أعلم بسريرته، وإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.
ثم إنه بعد ذلك حصل بينهم من الاتفاق والائتلاف، والطيب ومكارم الأخلاق، والتواصي بالحق والصبر، والتعاون على البر والتقوى، كما أمرهم الله تعالى به في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102 - 103].
وقد كُتِب هذا الكتاب بحضرة المشايخ وبأمرهم، وهم جميعًا يأمرون بما أمر الله به ورسوله، من الاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم الجماعة، والنهي عن التفرّق والاختلاف، قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 105 - 107].
قال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفُرْقة
(1)
.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 159].
وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 31 - 32].
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ
(2)
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]، فأخبر سبحانه أنّ مبدأ التفرّق هو البغي. وقد قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحُجُرات: 9 - 10].
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره: (3/ 729).
(2)
الأصل: (وما تفرق) ولا آية بهذا السياق، وفي سورة الشورى سياق قريب منه:{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الشورى: 14].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة فإنّ يدَ الله على الجماعة"
(1)
.
وقال: "ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف [ق 5] والنهي عن المنكر؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "صلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا وشَبَّك بين أصابعه"
(3)
.
(1)
بهذا اللفظ أخرجه الطبراني في "الكبير": (11/ 78) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وروي نحوه عن عمر بن الخطاب أخرجه الترمذي (2165) وقال: "حسن صحيح غريب"، والنسائي في "الكبرى"(9181). ومن حديث أبي الدرداء عند النسائي (847) وغيره، وعن معاذ بن جبل عند أحمد (22029) وغيره. رضي الله عنهم.
(2)
إلى قوله: "
…
هي الحالقة" أخرجه أحمد (27508)، وأبو داود (4919)، والترمذي (2509)، وابن حبان (5092) وغيرهم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث صحيح". وصححه ابن حبان.
أما قوله: "لا أقول تحلق
…
" فهو جزء من حديث أخرجه أحمد (1430)، والترمذي (2510)، والطيالسي (190)، وغيرهم من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. ولفظه: "دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين
…
". قال الترمذي: حديث صحيح.
(3)
أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وقال: "مَثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائر الجسد بالحُمّى والسّهَر"
(1)
.
وقد قال الله تعالى في كتابه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].
فهذا الذي أمر الله به ورسولُه، وما كان من الأهواء المفرِّقة والأغراض الفاسدة؛ فهي مما حرَّمه الله ورسوله، حتى إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مرةً في بعض مغازيه فتنازع رجلان فقال أحدهما: يا للمهاجرين، وقال الآخر: يا للأنصار! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أبِدَعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها فإنها مُنْتِنة"
(2)
.
وقال: "مَنْ سمعتموه يتعزَّى بعزاء الجاهلية فأعِضُّوه بِهَنِ أبيه ولا تكنوا"
(3)
. فسمع أُبيُّ بن كعب ــ الذي قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم سورة (لم
(1)
أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (4905)، ومسلم (2584) من حديث جابر رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أحمد (21256)، والبخاري في "الأدب المفرد"(963)، والنسائي في "الكبرى"(8813)، وابن حبان (3153) والطبراني في "الكبير"(532) وغيرهم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. والحديث صححه ابن حبان، وقال الهيثمي في "المجمع":(3/ 3): رجاله ثقات.
يكن) ــ سَمِعَ رجلاً يقول: يا آل فلان، فقال: اعُضُضْ أيْرَ أبيك! فقالوا: يا أبا المنذر! ما كنت فحَّاشًا، فقال: بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يدٌ على من سواهم، ويسعى بذمّتهم
(1)
أدناهم"
(2)
. وقال: "المسلم أخو المسلم لا يُسْلمُه ولا يظلمُه"
(3)
. وقال: "انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا" قيل: يا رسول الله انصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذاك نصرُك إيَّاه"
(4)
.
فالواجب على المسلمين أن يكونوا مجتمعين على طاعة الله ورسوله، واتباع كتابه وسنة رسوله، واتباع سبيل السابقين الأوَّلين، وأن يكونوا مع المُحِقِّ على المُبْطل، ومع المُهْتدي على الضال، ومع الراشد على الغاوي؛ يُعَظِّمون ما عظَّمه الله ورسوله، ويوجبون ما أوجبه الله ورسوله، ويحرِّمون ما حرّم الله ورسوله، ويحبّون ما أحبّه الله ورسوله، ويبغضون ما أبغضه الله ورسوله، ويكْرِمون مَن أكرمه اللّهُ ورسولُه.
(1)
الأصل: "بدمهم". والمثبت من المصادر.
(2)
أخرجه أحمد (959)، وأبو داود (4530)، والنسائي (4734) عن علي رضي الله عنه. وأخرجه أحمد (6796)، وأبو داود (2751)، والحاكم:(2/ 141) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهو صحيح بشواهده.
(3)
أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه البخاري (2443، 6952) من حديث أنس رضي الله عنه.
وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجُرات: 13].
وقد وصف [ق 6] الله أولياءه بذلك فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
(1)
} [يونس: 62 - 63].
فأخبر ــ سبحانه ــ أنَّ نَعْت الإيمان
(2)
: الإيمان والتقوى، والتقوى هي ما سنَّه بقوله:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
جمع الله لكم ولسائر المسلمين خيرَ الدنيا والآخرة، وأسبغ عليكم نعمَه الباطنة والظاهرة، وتولَّاكم في جميع الأمور، وصرف عنكم كلَّ محذور، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والحمد لله وحده، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
(1)
الأصل: "والآخرة".
(2)
كذا ولعله: "الأولياء".
وكتب الشيخ تقي الدين ــ رضي الله عنه ــ صورة المجلس الذي حضر فيه المشايخ عنده في دار الحديث السُّكَّريَّة التي بالقصَّاعين بدمشق، وهي سكن الشيخ تقي الدين ــ أدام الله علوَّ قدره ــ يومئذٍ في نسختين، أحدهما
(1)
أخذها الشيخ أبو القاسم ابن الشيخ الشهيد عبد الله بن محمد ابن الشيخ عبد الله اليونيني. والأخرى أخذها الشيخ هارون المقدسي، وهو المنكور عليه في الاعتقاد.
وهذه صورة المحضر وصورة خطوط المشايخ مرقومة فيه:
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
يقول أحمد ابن تيمية: إني حضرت بمجلس اجتمع فيه جماعةٌ من الشيوخ وغيرهم، بسبب النظر في قضيَّة جرت لكلام ابن العربي، فلما قُرِئ كلامه المذكور في "فصوص الحكم"، وعُرف معناه وما انطوى عليه مِن اعتقادِه: أنَّ الله هو وجود الكائنات، وأن أعيانها ثابتة في القِدَم، وأنَّ الخالقَ هو المخلوق، والناكح هو المنكوح، والمتكلِّم هو المستمع.
وتفضيله خاتم الأولياء الذي ادَّعاه على خاتم الرسل من بعض الوجوه، وإنكاره حقيقة العذاب في الآخرة، وما يلزم قوله من أن الله لم يخلق شيئًا، وليس هو ربّ العالمين.
(1)
كذا في الأصل.
وأنه نفس الكلاب والخنازير، وتصريحه بأن عُبَّاد الأصنام ما عبدوا إلا الله، ولا يمكن أن يُعبد إلا الله، وغير ذلك من أنواع الكفر.
= اجتمعوا على أن هذه المقالات وما أشبهها كفرٌ وإلحادٌ، وتبرَّأوا إلى الله [ق 7] تعالى من أنواع الحلول والاتحاد. وامْتَحَى بذلك ما كان يظنه من يظن أنَّ ابن العربي من أولياء الله، حيث تبيَّن لهم أنّ كلامه شرٌّ مِن كثير مِن كلام اليهود والنصارى.
وجمع الله قلوبهم على ذلك، وأنا موافقٌ لهم على ذلك. في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الآخر سنة أربع وسبعمئة.
***
صورة خطوط المشايخ تحت خطِّ الشيخ ــ رضي الله عنهم أجمعين ــ
- كذلك يقول أبو القاسم بن عبد الله اليونيني، وكتب في التاريخ المذكور
(1)
.
- كذلك يقول هارون بن إبراهيم المقدسي، وكتب في التاريخ.
- كذلك يقول الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن سُونج عفا الله عنه في تاريخه.
- كذلك يقول محمد بن عوض اللخمي.
(1)
كتب تحته بخط أصغر: "هو الشيخ أبو القاسم ابن اليونيني".
- كذلك يقول أحمد بن محمد بن جُبارة
(1)
.
- كذلك يقول محمد بن قوام، وكتبه في التاريخ، والحمد لله وحده
(2)
.
- كذلك يقول أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، كتبه في التاريخ المذكور
(3)
.
- وكذلك يقول عبد الله بن موسى الجزري
(4)
، وكُتِبَ عنه بإذْنِه وحضوره.
- وكذا أقول، وكتبه محمود بن عبد الكريم الفارقي
(5)
.
- كذلك أقول، كتبه محمد بن الشهيد عبد الله اليونيني
(6)
.
- أشهد
(7)
أن قائل هذه المقالة كَفَر بها وافترى على الله عز وجل، وحاد عن سواء السبيل، وأبْرأ إلى الله تعالى منها ومن مُعْتقدها. كتبه أحمد بن محمد الدّشْتي في التاريخ المذكور.
(1)
كتب تحته بخط أصغر: "هو الشيخ شهاب الدين بن جبارة المفتي، ووالده أيضًا كان مفتي المسلمين".
(2)
كتب تحته بخط أصغر: "هو الشيخ محمد بن قوام رحمه الله".
(3)
كتب تحته بخط أصغر: "هو الشيخ عماد الدين الحزّامي".
(4)
كتب تحته بخط أصغر: "هو الشيخ عبد الله الجزري".
(5)
كتب تحته بخط أصغر: "هو الشيخ تاج الدين الفارقي".
(6)
كتب تحته بخط أصغر: "هو الشيخ محمد بن اليونيني".
(7)
كتب فوقها في أول الصفحة: "تتمة صورة المحضر".
تم الكتاب والمحضر والخطوط، وذلك يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى من شهور سنة أربع وسبعمئة. والحمد لله وحده وصلواته وسلامه على محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
مسألة فيمن يقول: إن عليَّ بن أبي طالب
أولى بالأمر من أبي بكر وعمر
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
ولا حول ولا قوة إلا بالله
مسألة سئل عنها شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية ــ رضي الله عنه ــ فيمن يقول: إن عليّ بن أبي طالب أولى بالأمر من أبي بكر وعمر ــ رضي الله عنهما ــ وأنهما لم يلياه إلا مُغالبةً. هل هو مصيب أم مخطئ؟ وماذا يجب على من يعتقد ذلك؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، بل هذا القائل مخطئ مُبْتدع ضالٌّ، مخالف لكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، بل هو مفترٍ افتراءً ظاهرًا، يُعْرَف كذبه فيه علمًا ضروريًّا بالنقل المتواتر، وبغير ذلك من الأدلة.
بل إذا قال مثل هذا القول في عثمان وعليّ كان مفتريًا ضالًّا زاريًا على المهاجرين والأنصار، بل على أمة محمد مطلقًا.
قال أيوب السختياني، وأحمد بن حنبل، والدارقطني، وغيرهم: من قدَّم عليًّا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار
(1)
. فكيف من
(1)
هذا القول مشهور عن سفيان الثوري، أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه"(1554)، وأبو نعيم في "الحلية":(7/ 27) وغيرهما. وجاء عن عمار بن ياسر، أخرجه الطبراني في "الأوسط"(832). وجاء عن النخعي، أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (309). وروي عن أحمد بن حنبل كما في "تاريخ دمشق":(39/ 508).
وقوله: (والأنصار) كُتبت فوق السطر وعليها آثار ضرب، وهي ثابتة في كل الآثار المروية عن الأئمة، وكذا في كتب المصنف الأخرى. انظر "الفتاوى":(3/ 162)، و"المنهاج":(1/ 367).
قدَّمه على أبي بكر وعمر؟ فكيف بمن طعن في خلافة عثمان؟ فكيف بمن طعن في خلافة أبي بكر وعمر؟!
ولم يكن أحد من سَلَفِ الأمة ــ لا مِن [ق 2] شِيعة عليّ ولا غيرهم ــ يطعنون في خلافة أحدٍ من الثلاثة، لكن أنكر بعضُهم على عثمان بعضَ الأشياء في آخر خلافته؛ فأما السّنَة الأولى من خلافته فلم ينكروا عليه شيئًا.
ولم يكن بين الشيعة الأولى نزاعٌ في تقديم أبي بكر وعمر على عليٍّ وعثمان، وإنما كان يتنازع بعضُهم في عثمان وعليّ.
وقد رُوي [من] أكثر من ثمانين وجهًا عن عليّ بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ أنه قال: "خيرُ هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر"
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد في "المسند"(833، 834، 835، 836، 837) وغيره من طرق عن عليّ. وذكر المصنف أن هذا متواتر عن علي رضي الله عنه. انظر "منهاج السنة": (2/ 37)، (6/ 81).
وقد رواه البخاري في "صحيحه"
(1)
من حديث محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه علي بن أبي طالب: يا أبتِ، مَنْ خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: عمر.
وهذا روته هَمْدان ــ وهم من شيعة عليّ ــ عن ابنه محمد بن الحنفية: أن أباه قاله له. فامتنعَ أن يكون قال ذلك تقيَّةً لابنه، مع أن الله قد نزَّهه عن الكَذِب والنفاق الذي تسميه الرافضة: تقيَّة!
بل قال: لا أوتَى بأحدٍ يفضِّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حدَّ المفتري
(2)
. ولا يُجْلَد ظهر المسلم إذا قال الصِّدْقَ، وأسماه
(3)
مفتريًا.
وظهور فضيلة أبي بكر وعمر على غيرهما في العلم والدين، والشجاعة والكرم أظهر من أن تحتاج إلى بسط عند من كان له أدنى خبرة بأحوال القوم. ولهذا اتفق العلماء المعتبرون على أن أبا بكر أعلم الأمة وأدْيَنها وأشْجعها وأكْرَمها، لكن وقعت لبعضهم شُبهة في عثمان وعليّ لتقاربهما.
وقد أجمع السلف على تقديم عثمان. فإنه قد ثبت في "صحيح البخاري"
(4)
وغيره خبر مَقْتل عمر
(5)
، وجَعْله الأمر شورى في ستة
(1)
(3671).
(2)
أخرجه أحمد في "الفضائل": (1/ 83)، وابنه عبد الله في "السنة":(2/ 562).
(3)
هكذا قرأتها وتحتمل غير ذلك.
(4)
(7207).
(5)
بعده في الأصل كلمة لكن محاها الناسخ.
وتقديمهم عثمان. وهذا مما تواتر عند الخاصة والعامة. وقد رواه البخاري وغيره مفصَّلاً.
ومُلَخَّصُه: أنّ عمر جعل الخلافة شورى في ستة؛ عثمان وعلي، وطلحة والزبير، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقَّاص، ولم يُدْخِل فيها ابنه عبد الله ولا ابن عمه سعيد بن زيد، مع أنه من العشرة المشهود لهم بالجنة. فلمَّا دُفِن عمر اجتمع الستة في المسجد، فقال طلحة: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعثمان. وقال الزُّبير: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعليّ. وقال سعد: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعبد الرحمن بن عوف
(1)
، يخرج أحدنا ويولي أحد الرجلين، وعليه عَهْد الله وميثاقه أن يولي أفضلهما، فسكت عثمان وعليّ، فقال عبد الرحمن: أنا أخرج وعلَيَّ عَهْد الله وميثاقه أن أولِّي أفضلهما، فرضيا بذلك وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليهما يشاور الأمة. وكان بالمدينة خيار الأمة من المهاجرين والأنصار وأمراء الأمصار.
قال المِسْوَر بن مَخْرمة: [ق 3] طرَقني عبد الرحمن بعد ثلاث فقال: وإنك لنائم! إن لي ثلاثًا ما اغتمضتُ بنوم، ثم قال: ادع لي عليًّا، فدعوته فناجاه طويلاً، ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته، فناجاه طويلاً، ثم لما صلوا الفجر بعد ثلاث حلف صهيب قال عبد الرحمن: إني قد شاروت الناس حتى الأعراب والعذارى في خُدُورهن، فرأيتهم لا يعدلون
(1)
كلمة ممحوّة هنا.
بعثمان، فبايعه عليٌّ
(1)
وعبد الرحمن وسائر الصحابة بيعةَ طَوْعٍ واختيار، بعد مشاورةٍ واتفاق، لا بسوطٍ ولا نوطٍ ولا بذلِ عطاء.
فإن لم يكن عثمان هو الأولى بالخلافة وقدَّموا غيره، كانوا إما جاهلين بحقِّ الأفضل، وإما ظالمين بتولية مَنْ غيرُه أولى بالخلافة، كيف وفي الحديث الذي رواه الحاكم في "صحيحه"
(2)
: "أنه مَنْ قلَّد رجلاً عملًا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين".
وقد ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير القرون القرن الذي بُعِثْتُ فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"
(3)
.
وهذه القصَّة كانت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ببضع عشرة سنة، فذلك القرن الأول الذي هو أفضل قرون هذه الأمة، وقدموا عثمان، فإن كانوا مخطئين أو ظالمين كان خيار هذه الأمة مخطئين في الإمامة أو ظالمين فيها.
والرافضة تقول
(4)
: إنما قدَّموا غيرَه لأحقادٍ جاهلية وأضغان كانت في القلوب عليه لأجل جهاده في سبيل الله. فإن كانوا كذلك فهم من
(1)
الأصل: "عليًا".
(2)
"المستدرك": (4/ 92 - 93) وقد تقدم تخريجه (ص 231 ــ 232).
(3)
أخرجه البخاري (2651) مسلم (2535) وقد سبق (ص 27).
(4)
الأصل: "يقول".
[شرّ]
(1)
الخلق، وإذا كان خير هذه الأمة كذلك لم تكن هذه الأمة خير أمة أُخرجت للناس، بل تكون هذه الأمة من شرار الأمم! وهذا حقيقة قول الرافضة، وهذا خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.
وقد قال العلماء: إن الذي ابتدع الرفض كان زنديقًا قَصْده إفساد دين الأمة، قالوا: وكان يهوديًّا فأسلم اسمه عبد الله بن سبأ، وإليه تُنسب السبئيّة.
وقد رُوي أن عليًّا طلبَ قتلَه وهربَ منه. فإن عليًّا ــ عليه السلام ــ مذهبه عقوبة أصناف الشيعة الغالية: بالقتل، والمُفضِّلة: بالجلد، والسَّبَّابة: قد رُوي عنه فيهم القتل. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع
(2)
.
وأما خلافة أبي بكر وعمر وثبوت فضلهما على عثمان وعلي وغيرهما؛ فدلائله أكثر من أن تُحصر، فقد ثبت في "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة:"ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناسُ من بعدي". ثم قال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"
(3)
.
وهذا الحديث المفسَّر يبين [ق 4] مراده بالحديث الآخر الصحيح
(1)
مشطوبة في الأصل، وخرج لها في الهامش لكن لم تظهر أيضًا.
(2)
انظر "الصارم المسلول": (3/ 1055 ــ 1114)، و"مجموع الفتاوى":(3/ 405 وما بعدها).
(3)
أخرجه مسلم (2387).
وهو قوله: "ائتوني بدواة وقرطاس حتى أكتب لكم كتابًا لن
(1)
تضلوا بعده أبدًا"
(2)
.
وفي "الصحيح"
(3)
أن امرأة جاءته فقالت: أرأيت إن جئتُ فلم أجدك؟ كأنها تعني الموت. قال: "ائتي أبا بكر".
وفي "السنن"
(4)
أنه قال: "اقتدوا باللَّذَيْنِ مِنْ بعدي" يعني أبا بكر وعمر.
(1)
الأصل: "لم" والتصويب من مصادر الحديث.
(2)
أخرجه البخاري (114)، ومسلم (1637) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (3659)، ومسلم (2386) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(4)
أخرجه أحمد (23276)، والترمذي (3662)، وابن ماجه (97)، وابن حبان (6902)، والحاكم:(3/ 79 - 80). من طريق رِبعي بن خراش عن حذيفة رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وقال العقيلي في "الضعفاء":(4/ 94 - 95): "يروى عن حذيفة بأسانيد جياد تثبت"، وصححه ابن حبان، وقال الحاكم: "هذا حديث من أجلِّّ ما روي في فضائل الشيخين، وقد أقام هذا الإسناد عن الثوري
…
فثبت بما ذكرنا صحة هذا الحديث، وإن لم يخرجاه" اهـ. وحسَّنه ابن الملقن في "البدر المنير":(9/ 578).
وله شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي (3805)، والبزار "الكشف"(2679)، والطبراني في "الكبير"(8458)، و"الأوسط"(3828)، والحاكم:(3/ 80). قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، ويحيى بن سلمة يضعف في الحديث" اهـ، وقال الحاكم: بإسناد صحيح.
وفي "الصحيح"
(1)
أنه قال: "رأيت كأني أنزع على قليب فجاء ابن أبي قُحافة فنزع ذَنوبًا أو ذَنوبين وفي نَزْعه ضَعْف، والله يغفر له، ثم أخذها ابنُ الخطَّاب فاستحالت غَرْبًا، فلم أر عبقريًّا يفري فَرِيَّه حتى صَدَر الناسُ بعَطَن".
قال الشافعي: أراد بضعف نَزْعِه: قِصَر مدّته لا ضعف هِمَّته
(2)
.
وقد ثبت في الصحاح من غير وجه أنه قال: "لو كنتُ متخذًا من أهل الأرض [خليلاً] لاتخذت أبا بكر خليلاً"
(3)
.
وفي لفظ: "ولكن أخوَّة الإسلام، لا يبقينَّ في المسجد خَوخَة إلّا سُدَّت إلا خَوخَة أبي بكر"
(4)
.
فقد ثبت بهذا النص المتواتر عند الخاصة أنه لم يكن عنده من أهل الأرض أرفع درجةً من أبي بكر.
وثبت في "الصحيح"
(5)
عن عليّ أنه قال لما مات عمر: والله إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحِبَيْك، فإني كنتُ كثيرًا ما أسمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "دخلتُ أنا وأبو
(6)
بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر".
(1)
أخرجه البخاري (2664)، ومسلم (2392) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
بنحوه في "الأم": (2/ 317 - 318).
(3)
أخرجه البخاري (3656) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه البخاري (467)، ومسلم (2382) عن حذيفة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري (3685)، ومسلم (2389) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(6)
الأصل: "أبا"، خطأ بدليل ما بعده.
وقال الرشيد لمالك: يا أبا عبد الله أخبرني عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته. فقال: شفيتني يا مالك
(1)
.
والواجب على من قالَ القولَ المذكور أن يُعاقب عقوبةً بليغةً بعد الاستتابة، إما بالقتل في أحد قولي العلماء، وإما بما دونه في القول الآخر. والله تعالى أعلم.
تمت بحمد الله وعونه، والحمد لله رب العالمين
(2)
.
(1)
أخرجه أبو القاسم التيمي في "الترغيب والترهيب"(1083)، وابن عساكر في "اتحاف الزائر"(271). ووجدته من قول علي بن الحسين زين العابدين. أخرجه أحمد في "الفضائل"(223)، والدينوري في "المجالسة"(1411) وغيرهما.
(2)
بعده في الأصل: "فائدة: مسند أهل البيت رضي الله عنهم وهم خمسة: الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. عقيل ابن أبي طالب رضي الله عنه، جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه. عبد الله بن جعفر رضي الله عنه، رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو خمسة وعشرين حديثًا أو سبعة وعشرين حديثًا".