الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاعدة في الفَنَاء والبَقَاء
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، فإنا قد كتبنا في مواضع قبل هذه
(1)
في تحقيق التوحيد الذي أرسل الله به رسلَه، وأنزل به كتبَه، والتمييز بينه وبين ما سمَّاه كثير من الناس توحيدًا، كما تُسمِّي الجهميةُ الفلاسفةُ، والمعتزلةُ، ومَن وافقهم نَفْيَ الصفات: توحيدًا، ويجعلون من أثبتَها ليس بموحِّد.
ويجعل غاليةُ هؤلاء القائلين بأن الوجود واحدٌ ــ كابن عربي وابن سبعين ــ التوحيدَ عبارة عن هذا الاتحاد الذي هو جامع للإلحاد
(2)
، ويُسمُّون نفوسهم أهلَ التحقيق والتوحيد.
وذكرنا [توحيد الربو] بيَّة
(3)
الذي أقرّ به المشركون الذين يقرّون بأن الله [خالق كل شيء وربّه ومليكه
…
]
(4)
لذة بلا تمييز، وهذا قلبه يلتذّ بما
(1)
انظر "مجموع الفتاوى": (11/ 50 - 53)، (14/ 369 - 381).
(2)
كتبت في الأصل هكذا "للا
…
الحاد" ثم ضرب على الألف من "الحاد" وكتب في الفراغ بينهما "صح".
(3)
بياض بالأصل بمقدار كلمتين. وبدا آخر الكلمة الثانية، واستدللنا بها على الباقي.
(4)
بياض بالأصل نحو سطر، وكتب الناسخ على الطرة:"بياض بالأصل، وجدته مرقوع". فأكملت بما يمكن إكماله. وانظر للبحث من كلام المصنف "الردّ على البكري": (1/ 350 - 355).
فيه من الذِّكْر والشهود، ولكن ليس له تمييز بين نفسه وغيره، بل قد لا يبقى له تمييزٌ بين نفسه ومعبوده، فإذا لم يبق له تمييز بين هذا وهذا فقد يظن أنه هو هو، كما يحكون أن رجلًا كان يُحِبّ آخرَ، فألقى المحبوبُ نفسَه في اليمّ، فألقى المحبُّ نفسَه خلفه، فقال: أنا وقعت، فما الذي أوقعك؟ قال: غِبْتُ بك عنِّي، فظننت أنّك أنّي
(1)
.
وهذا إذا عاد إليه عقلُه يعلم أنه كان غالطًا في ذلك، وأن الحقائق متميِّزة
(2)
في ذاتها، فالربُّ ربٌّ، والعبد عبدٌ، والخالق بائن عن المخلوقات، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
ولكن في حال السُّكْرِ والفناء والاصطلام لم يكن له شعور بسوى الحقِّ عن تمييز ذلك السّوى أنه عبد أو مخلوق.
وفي مثل هذا ما يُحْكَى عن أبي يزيد أنه كان يقول: "سبحاني"، أو:"ما في الجُبَّة إلا الله". وأمثال ذلك من الكلمات التي هي في
(3)
نفسها كفر، ولو قالها وعقلُه معه كان كافرًا، ولكن مع سقوط التمييز يبقى
(1)
ذكر المصنف هذه الحكاية في عدد من كتبه، انظر "المنهاج":(5/ 356)، و"الجواب الصحيح":(3/ 338)، و"الرد على الشاذلي":(ص 103).
(2)
الأصل: "بتميزه".
(3)
الأصل: "من" والصواب ما أثبت.
كالمجنون الذي رُفِعَ القلمُ عنه، [والنائم]
(1)
، والسكران الذي لا ذنبَ له في السُّكْر
(2)
.
ومِن الناس مَن يظنّ أن الحلَّاج
(3)
كان في هذا المقام، وأنّ ما كان يتكلَّم به من الاتحاد كان في هذا الحال، حتى يحكي الكذّابون: أنه لمَّا قُتل كتب دمُه على الأرض: (الله الله)؛ لقوَّة المحبّة والفناء في المحبوب.
ويَحْكُون أن زَليخا
(4)
فَصَدَتْ، فكتب دمُها على الأرض:(يوسف، يوسف).
وكل هذا باطل محض، ما كَتَبَ دمُ مُحبٍّ قطّ على الأرض اسمَ محبوبه، ولا غير محبوبه.
والحلَّاج كان يُصنّف الكتبَ في السِّحْر وغيره، ويتكلَّم بما يتكلم وهو حاضر العقل، ليس هو من باب أبي يزيد [ق 2] وأمثاله.
(1)
بياض بالأصل بمقدار كلمة، والإكمال مستفاد من "الفتاوى":(11/ 75).
(2)
ومثل من يُسْقى الخمر وهو لا يعرفها، أو أوجرها حتى سكر، أو أطعم البنج وهو لا يعرفه. "الفتاوى":(11/ 75).
(3)
في هامش الأصل ما نصه ــ وليس عليه علامة اللحق ــ: "واسمه: الحسين بن منصور، وكان من أهل البيضاء، بلدة بفارس".
(4)
امرأة عزيز مصر، التي راودت يوسفَ عن نفسِه. والزاي في أوله بالفتح والضم. ويقال: اسمها راعيل.
وهذا الحال يُحمَد منه ما كان من النوع الأول وهو حبّ الله دون ما سواه، والفناء عن محبة غيره ورجاؤه، وخوفه والتعلّق به، حتى يبقى دين العبد باطنًا وظاهرًا لله عز وجل من الأقوال. وقد يكون سببه نقص العلم؛ فإنْ كان الأول كان صاحبُه أكملَ وأصحَّ إيمانًا وأعلى منزلةً، ولم يكن عليه ذمٌّ، فإنَّ القلب إذا انصرف إلى شيء انصرف عما سواه، بحسب قوة انجذابه إلى هذا وإعراضه عن هذا.
وأما الثاني: فمثل مَن يشهد توحيد الربوبية، فيرى الله خالقَ كلِّ شيء ومليكه، ليس في الوجود إلا ما يشاء كونه
(1)
. فيشهد ما اشترك فيه المخلوقات، مِنْ خَلْق الله إياها، ومشيئته لها، وقدرته عليها، وشمول القيوميّة والربوبيّة عليها. ولا يشهد ما افترقت فيه، مِنْ محبة الله لهذا وبغضه لهذا، وأمره بهذا ونهيه عن هذا، وموالاته لهذا ومعاداته لهذا، وهو توحيد الإلهية الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، فلا يشهد التفرقة في الجمع، ولا الكثرة في الوحدة.
وهذا الفناء قد يكون مع الصَّحْو وحضور العقل، وقد يكون مع السُّكْر، فإن كان مع الفناء والسُّكْر كان ناقصًا من وجهين، لكن قد يكون أَعْذَر ممن قام فيه مع الصحو.
وقد يَظُن مع ذلك أنه في حال الجمع والفناء في التوحيد، الذي
(2)
(1)
الأصل: "وكونه".
(2)
الأصل: "التي".
هو أعلى المقامات، ويَظنُّ أن مَن كان هذا المشهد مقامه يسقط عنه الأمرُ والنهي. ويقول أحدهم: إنما يسقط عنه الأمر لأنه شهد الإرادة. ولا يعلم أن مُجرَّد توحيد الربوبية قد أقرّ به المشركون، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61].
وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
قال ابن عباس: "إذا سألتهم مَن خلق السموات والأرض، فيقولون
(1)
: الله، وهم يعبدون غيره"
(2)
.
فمن كان هذا التوحيد هو غاية توحيده انسلخ من دين الله وجميع رسله، ولم يتميَّز عنده أولياء الله من أعدائه، ولا أنبياؤه المرسلون من
(1)
الأصل: "فيقولن".
(2)
أخرجه الطبري: (13/ 373).
المشركين به المكذِّبين، ولا أهل الجنة من أهل النار، ولا المعروف من المنكر، وسوَّى بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض، وبين المتقين والفُجّار.
ورأس الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، فتعبد الله لا تعبد معه غيره، وتحبّ ما أحبه الله ورسوله، وتبغض ما أبغضه الله ورسوله. وتُفرِّق فيما شاءه وقضاه
(1)
، بين ما يسخطه الله ويكرهه، وبين ما يحبه ويرضاه.
قال تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]. وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. وقال: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108].
ثم هؤلاء الذين يقولون: إنهم في توحيد الربوبية ظانّين أنهم في الجَمْع، وأنهم وَصَلُوا إلى عين الحقيقة، لا بدّ لهم من شهود التفرقة والتمييز حسًّا، فضلًا عن العقل والشرع.
فإنّ أحدهم لا بدّ ما يميِّز بين ما يؤلمه ويُلذّه، وينفعه ويضرّه، [وبين ما]
(2)
يكرهه ويَضرُّ به، وبين الخبز والماء، والتراب والحجر، ونحو ذلك.
ولا بدّ أن يميل إلى ما يجلب له المنفعة، ويفرّ عما يدفع إليه المضرَّة، فيكون جسديّ
(3)
التفرقة، يحبّ هذا ويبغض هذا، ويأمر بهذا وينهى عن
(1)
الأصل: "وقضا".
(2)
الأصل: "ومن" ولعل الصواب ما أثبت.
(3)
رسمها في الأصل: "جيتديّ"، ولعلها ما أثبت.
هذا. فإن لم تكن التفرقة بين الخير والشر بالتفريق
(1)
الشرعي النبويّ المحمدي القرآني، وإلّا فلا بد من قانون آخر يُفرِّق، إما سياسة بعض الملوك، أو ذوقُ بعض الشيوخ، أو رأي بعض الفقهاء، أو أغراض ذوي الأغراض، بحسب تنوّعها واختلافها، ولزوم مجرّد ظنّه
(2)
وهواه.
فلهذا تجد هؤلاء أتباع كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن
(3)
. وهم يُفرِّقون بين ما يُفْعَل وبين ما لا يُفْعَل، وما يُؤمَر به وما لا يُؤمَر به، وما ينبغي فعله، وما ينبغي تركه= بهذه الوجوه وأمثالها.
وربما أضافوا ذلك إلى الله من جهة الحقيقة الكونية، وشمول الربوبية. ومعلوم أن جميع الأشياء مضافة إلى الله من هذه الجهة، فلا فرق بين ما يأمرون به وينهون عنه حينئذٍ.
وهذه حال المشركين الذين أخبر الله عنهم في كتابه، أنهم يأمرون وينهون بغير كتابٍ نزل من الله، وأنهم يَحتجُّون في ذلك بقَدَر الله، فقال تعالى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
(1)
الأصل: "بالتفرق".
(2)
الأصل: "تجرد طيفه" تحريف.
(3)
من قوله: "اتباع كل ناعق
…
" إلى هنا اقتباس من وصية عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد. أخرجها أبو نعيم في "الحلية": (1/ 79)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (176).
وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
…
} الآية [الأعراف: 32].
وقال تعالى: {سَيَقُولُ
(1)
الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنعام: 148].
وأصحاب هذا النوع لا يكونون مع النوع الأول، بل يضادّونهم من وجوهٍ كثيرةٍ، ويَفوتُهم ما خَصّ الله به أولئك من تحقيق التوحيد، وكمال التحقيق، وبابه: المعرفة والإيمان، فإن أولئك صاروا مخلصين لله الدين، فيعبدونه ولا يعبدون غيره.
وهؤلاء لا فَرْقَ عندهم بين ما يوجد من عبادته ومن عبادة غيره، ولا بين الإيمان به والكفر به، ولا بين ما يُحِبّه ويأمر به، وبين ما يبغضه وينهى عنه.
فلا بدّ لهم من الفرق ضرورةً وحسًّا، فإذا لم يكن تفريقهم
(2)
هو الفرق التوحيدي الإيماني صار فرقًا
(3)
آخر، فيسألون غير [ق 3] الله،
(1)
الأصل: "وقال
…
"، وهي كذلك في سورة النحل، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35].
(2)
الأصل: "تفرقهم".
(3)
الأصل: "فرق".
ويتوكلون على غير الله، بل يعبدون غيرَ الله، ويَقَعُون في المُحرَّمات من الفواحش والمظالم، ويُعرِضَون عن الواجبات، حتى عن الفرائض؛ لأن قلوبهم ليست مخلصة لله الدين، فليسوا من أهل التوحيد الأول. وأولئك هم الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]. وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]. وقال الشيطان: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83]. وقال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [العنكبوت: 61].
وهؤلاء يَرونَ حالهم مرتفعة عن حال الذين يشهدون
(1)
جمعَهم وتوحيدَهم، وهم العامة الذين تَفرّقت قلوبهم في المخلوقات، وهم أهل الفَرْق الأول، ومع هذا فَهُمْ في الحقيقة راجعون إلى فرق أولئك؛ إذ لا بد لهم من الفَرْق، فإن لم يكونوا في الفرق الإلهيّ النبويّ الشرعيّ كانوا في فَرْقٍ آخر، وهذا حال العامة، بل العامة خير منهم من وجه، وذلك أنهم يؤمنون بالجمع والفَرْق، بأنّ الله ربَّ كلِّ شيء ومليكه، وبأنه يأمر بالحسنات، وينهى عن القبائح.
وإذًا تَفْرِقة العامة بحسبِ أهوائها، لم تَجْعَل ذلك دينًا، بل تعرف أنه ذنب وقبح، ولا يقولون: إنه يسقط عنهم الأمر والنهي.
(1)
الأصل: "يشهدوا".
وهؤلاء قد يَرَوْنَ سقوطَ الأمرِ والنهيِ عنهم، فتكون العامة خيرًا منهم، لكن يُمَيَّزُون عن العامة بأن الجمع لهم حالًا وشهودًا، بخلاف العامة، فإنّ لهم إيمانًا وإقرارًا، وهذا لا يقع لوجهين:
أحدهما: أنهم كاذبون في دوام شهودهم الجمع والعمل به؛ إذ لابدّ من الفرق حسًّا وعقلًا، وذوقًا وشرعًا.
الثاني: أن صحة الإيمان مع الغفلة والسَّهْوِ خيرٌ من ذِكْرٍ وشهودٍ يَصحَبُه فساد الإيمان.
وقد يقول أحدُهم: إنّ المحبّة والتوكل ونحو ذلك من مقامات العامة السائرين في منازل الشرع إلى عين الحقيقة، وهذه الحقيقة التي انتهوا إليها هي الربوبيةُ العامةُ المطلقةُ التي أَقرَّ بها المشركون.
لكنْ كثيرٌ من هؤلاء لا يقولون بالجمع إلا مع تمييز بعض الواجبات من بعض، فيميّز بين ما يأمر به هو وينهى عنه من نفسه، لكن لا يميّز في شهوده ذلك.
وربما تأوَّلُوا قولَه تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. وظنُّوا أن المقصود من العبادة أن يحصل له يقينٌ بالربوبية العامة ونحو ذلك، فلا يحتاج حينئذٍ إلى العبادة.
وهذا ضلالٌ باتفاق أهل العلم والإيمان، فإنّ اليقينَ هو الموت وما بعده، كما قال الحسن البصري: "لم يجعل الله لأجلِ المؤمن غايةً دون
الموت"
(1)
.
كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 47 - 48]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمَّا عثمان بن مَظْعون فقد أتاه اليقينُ من رَبِّه"
(2)
. واتفق المسلمون على أن الأمر والنهي لازمٌ لكلِّ عبد حتى يموت.
ومن أكابر هؤلاء من يكون فيه نوع من التجهُّم
(3)
والجَبْر، كالسالكين طريق ابن التُّومَرْت وأمثاله ممَّنْ ينفي الصفات أو بعضها [كالجهمية]
(4)
وأمثالهم من الأشعرية ممن لا يقول: إنّ فوقَ العالمِ ربًّا مباينًا، ويكون مبالغًا في إثبات القَدَرِ حتى يجعل المحبةَ والرجاءَ بمعنى الإرادة، ويجعل الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ محبوبًا مرضيًّا، كالإيمان والطاعة؛ إذ الجميع عنده مراد الله.
فهؤلاء إذا انتهوا إلى ما يَظُنُّونه الفناء في حقائق التوحيد كان مضمونُه سقوط الأمر والنهي، لا يُفرِّقون بين الحسنات والسيئات، ويَشهدون ربًّا مطلقًا، ويُقِرُّون مجملًا أنه ليس هو المخلوقات، لكن
(1)
أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(18)، وأحمد في "الزهد"(ص 272)، وابن المقري في "المعجم"(750).
(2)
أخرجه البخاري (1243) عن أمّ العلاء امرأة من الأنصار.
(3)
الأصل: "التهكم" تحريف.
(4)
بياض بالأصل بقدر كلمة، فلعلها ما أثبت.
ليس في أصل عَقْدِهم وعِلْمهم وإيمانهم إقرار
(1)
بمباينته للمخلوقات وامتيازه
(2)
عنها، فيقعون في نوع من الإشراك والجمع بين الخالق والمخلوق، وبين المأمور به والمنهيِّ عنه.
ومن هنا ضَلَّ مَن ضَلَّ من الاتحادية ــ كابن عربي وأمثاله ــ كأن
(3)
يقول أحدهم: نشهد أولًا الطاعة والمعصية، ثم يشهدون طاعةً بلا معصية، ثم لا طاعة ولا معصية.
فإنهم لمّا كانوا مع المسلمين مُقِرِّين بالأمر والنهي الشرعيَّيْن، كانوا يشهدون الطاعة والمعصية، فلما دخلوا في جمع القدر من غير شهود لتفريق الشرع، شهدوا طاعةً بلا معصية، كما قال بعض شيوخهم:"أنا كافرٌ بربٍّ يُعْصَى"
(4)
.
وقال آخر:
أصبحت منفعلًا لما تختاره
…
منِّي، ففعلي كلّه طاعات
(5)
(1)
الأصل: "إقرارًا".
(2)
الأصل: "وامتيازهم".
(3)
غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبت أو "بأن".
(4)
عزاه المصنف للحريري الصوفي. انظر "الفتاوى": (8/ 257). والحريري له ترجمة في "فوات الوفيات": (3/ 7).
(5)
البيت ذكره المصنف في عدد من كتبه ونسبه لابن إسرائيل، كما في "الفتاوى":(8/ 257). وابن إسرائيل صوفي شاعر (ت 677) تكلم عنه المصنف في "بيان تلبيس الجهمية": (5/ 97)، وله ترجمة في "فوات الوفيات":(3/ 383)، و"البداية والنهاية":(17/ 549 - 556).
وقال آخر لبعض الظَّلَمَة الذين يتناول مِنْ أموالهم ــ لمَّا قيل: إنه مكّاس ــ فقال: إن كان عصى الأمر فقد أطاع الإرادة
(1)
.
وأمثال ذلك.
ثم إذا صاروا عينًا لم يفرقوا بين الربّ والعبد، ولم يشهدوا لا طاعة ولا معصية، بل كما قال بعضهم
(2)
:
ما الأمر إلا نسقٌ واحدٌ
…
ما فيه من حَمْدٍ ولا ذمِّ
وإنما العادةُ قد خصَّصت
…
والطبعُ والشارعُ بالحكم
وهذا هو النوع الثالث من أنواع الفناء، وهو الفناء عن وجود السِّوَى، بحيث يجعل وجود المخلوقات عين وجود الحق، فلا يكون ثَمَّ غيرٌ يكون له وجود أصلًا. فيتكلم هؤلاء فيما يُسمُّونه مفتاح غيب الجمع والوجود.
ومضمون أمرهم: أن الوجودَ كلَّه واحد، وهو واجب الوجود بنفسه، ولا يُفرِّقون بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع، ولا بين كون وجود المخلوقات بالله وبين كونها هي لله، كمن لا يُفَرِّقُ بين الشمس وبين شعاعها، ولا يميزون بين العالمين، وبين ربّ العالمين.
(1)
عزاه المصنف في "الفتاوى": (8/ 257) لبعض أصحاب الحريري.
(2)
نسبهما المصنف في "الفتاوى": (2/ 99)، و"جامع الرسائل":(1/ 105) إلى القاضي تلميذ (ابن عربي) صاحب الفصوص.
ويجعلون الأمرَ والنهيَ للمَحجُوبين عن شهودهم، وهم في هذا من أعبد الناس [ق 4] للمخلوق، وأخوفهم من المخلوق، وأرجاهم للمخلوق، وأعظم الناس إلحادًا في أسماء الله وآياته.
وتفصيل هذا الجمع يطول، وإنما هذا تنبيه على جوامع يَحتاجُ إليها الناسُ في هذه المسالك.
وقد رأيتُ في ذلك ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وتشهد النفوس ما بين هذا وهذا من المشترك الجامع، ولا يشهدون ما بينهما من المميِّزِ
(1)
الفارق، وهذا هو القياس الفاسد، وأول من قاس إبليس، وما عُبِدَت الشمس والقمر إلا بالمقاييس
(2)
.
وذو البصرِ يشهدُ الجمعَ المشترك والمميّز والجامع مع الفارق والكثرة في الوحدة، ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، كما شهد به القرآن والإيمان والبرهان.
قال الشيخ الإمام أبو العباس أحمد ابن تيمية ــ رضي الله عنه ــ
(3)
:
وما يُسمَّى بالفناء والاصطلام والمَحْق والطّمْس والسُّكْر، ونحو
(1)
الأصل: "الميز" سهو.
(2)
"وأول من قاس
…
بالمقاييس" مأثور عن ابن سيرين، أخرجه الطبري في "تفسيره": (8/ 98)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (2/ 892).
(3)
كذا في الأصل، فربما يكون بداية فصل صدّره الناسخ بهذه العبارة، ويؤيده إحالة الشيخ عليه (ص 178، 190).
ذلك من العبارات التي تُشعِر إمّا بعدم العلم ونوعه، وإما بعدم القَصْد ونوعه، وإما بعدم
(1)
الوجود ونوعه، وما يتعلق بذلك، فإن للناس في هذه الأمور أربعة أقوال:
أحدها: قولُ مَن يجعل ذلك غاية السالكين، ونهاية الواصلين إلى الله، ويقولون: الإرادة، والزهد، والتوكل، والصبر، والخوف، والرجاء، والسُّكْر، والمحبة= منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شهدوا عين الحقيقة اضمحلَّتْ فيها أحوال السائرين، حتى يَفْنَى ما لم يكن، ويبقى ما لم يزل.
والغاية عندهم: هو الجمع والوجود والفناء فيه.
القول الثاني: قولُ مَنْ يجعلُ هذا من لوازم سبيل
(2)
الله الذي سلكه القاصدون له. ويقولون: لا بدَّ لكلّ واصلٍ إلى الله متقرِّب
(3)
إليه مخصوص بولاية الله الخاصة، مِنْ أن ينزل هذه المنازل، ويقوم بهذه المقامات، لكنْ ليست هي الغاية، بل الغاية بعدها في حال الصحو والبقاء والشهود، ونحو ذلك من العبارات.
القول الثالث: قولُ مَن يجعلُ هذه الأمورَ مذمومةً معصيةً، ويجعلُها من عيوب القاصدين وذنوبهم، إما لكونها بدعةً في الدين، وإما لكون
(1)
الأصل: "عدم".
(2)
الأصل: "سبل".
(3)
الأصل: "مقرب".
أصحابِهَا مُفَرِّطين بترك مأمورٍ أو فعلِ محذور.
القول الرابع: قول من يجعلها من عوارض الطريق التي قد تعرض لبعض السالكين، فليست من لوازم كلّ سالك، ولا كلّ مَنْ عرضت له يكون مبتدعًا مذمومًا، أو عاصيًا مَلُومًا، بل قد تعرض لبعض السالكين دون بعض، لقوَّة ما يَرِد على قلبه، وضعفه عن التمييز في حال ورودها.
وقد يكون صاحبها مَلُومًا، وقد لازمه في حقّ
…
(1)
لا يمكنه الوصول بها، وقد يكون منتهى بعض ضعفاء السالكين.
والقول في هذا كالقول في الذي يَعْرِض عند سماع القرآن من الصَّعْقِ والصياح والاضطراب، فإنّ هذا لم يكن في الصحابة، بل كانوا عند السماع يبكون، وتَوْجَل قلوبُهم، وتَقشعرُّ جلودُهم. وهذه الأمور هي التي أثنى الله على أهلها في القرآن.
فلما كان في زمن التابعين، كان في أهل البصرة ونحوهم مَن يَصْعَق عند سماع القرآن ويموت. فمن السلف من أنكر ذلك، إما لكونِ صاحبِهِ مُتصنِّعًا، أو لكونه مبتدعًا.
ويُروَى هذا عن عبد الله بن الزبير، وأسماء بنت أبي بكر، ومحمد ابن سيرين
(2)
.
(1)
كلمة غير محررة ورسمها: "بحص" بلا نقط.
(2)
أثر أسماء بنت أبي بكر أخرجه سعيد بن منصور (95 - ت الحميد). وأثر ابن سيرين أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص 215)، وأبو نعيم في "الحلية":(2/ 265)، والدينوري في "المجالسة":(5/ 116). وجاء إنكاره أيضًا عن ابن عمر وعائشة وأنس وعكرمة، كما في "فضائل القرآن" لأبي عبيد.
وأما جمهور العلماء فَسوَّغوا ذلك إذا كان صاحبُه مغلوبًا، حتى قال الإمام أحمد: "قُرئ على
(1)
يحيى بن سعيد، فغُشِيَ عليه. فلو قَدَرَ أحدٌ أن يدفعَ هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد، لكمال عقله"
(2)
. وهذا هو الصحيح؛ فإن زُرارةَ بن أوفى قرأ في صلاة الفجر: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] فَخَرَّ ميتًا
(3)
. وكان قاضي البصرة، ومن خيار المسلمين.
وقرأ صالح المُرّي على أبي جَهير الضرير، فمات
(4)
.
ومات طائفة بوعظ عبد الواحد بن زياد.
ومات عليُّ بن الفُضيل بسماع القرآن
(5)
.
ومن قَتَله القرآنُ كثير، والموت لا حيلة فيه.
(1)
ضبطها في الأصل: "قرأ عليّ" خطأ.
(2)
الخبر ذكره ابن الجوزي في "القصاص والمذكّرين"(ص 366) عن الخلال قال: حدثنا المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: سمعت محمد بن سعيد الترمذي يقول: قرأت على يحيى فسقط حتى ذهب عقله. فقال أبو عبد الله: لو قدر
…
لدفعه يحيى في كثرة علمه". وذكره في "السير": (9/ 180) بسياق آخر.
(3)
أخرجه ابن سعد في "الطبقات": (9/ 151)، وابن أبي خيثمة في "تاريخه":(1/ 476).
(4)
الخبر في "صفة الصفوة": (3/ 333).
(5)
انظر "تاريخ بغداد": (4/ 276).
فالتحقيق: أن السبب الذي فعلوه إذا لم يكن منهيًّا عنه، لم يكن على صاحبه إثم فيما يَتولّد عنه من موت، أو سُكْر، أو غَشْي، أو نحو ذلك.
وأما إذا كان السبب محظورًا، لم يكن صاحبُه معذورًا، كما في زوال العقل بالسُّكْر، ونحوه.
فمن شَرِبَ مُحرَّمًا يُزيلُ عقلَه، كان مذمومًا على زوال عقله.
ومن أُوجِرَ الخمرَ، أو أُسْقيَ ما ظَنَّه مباحًا، فتبيَّن محظورًا، ونحو ذلك، لم يكن مذمومًا على زوال العقل.
فكما يعرض مَغِيب العقل عند السماع لِمَا يَرِدُ على القلب، فكذلك يعرضُ مَغِيبه عند مشاهدة أمور، وعند ورود أمور عليه من غير سماع ظاهر؛ إذ السماع يورث معارفَ
(1)
وأحوالًا، وكذلك تحصل هذه في غير السماع.
وإذا كان زوال العقل غير مقدور وصاحبُه في الشرع معذور، لم يَجُزْ أن يُجْعلَ آثمًا بذلك، ولا مُعاقَبًا عليه، بل ولا منهيًّا عنه، ولا مذمومًا عليه.
بخلاف مَن يكون قد حصل له ذلك بسببٍ محظور، كمن يسمع السماع المنهيّ عنه، سماع المُكاء والتّصْدِية، فيُورِثُه هذه الأحوال التي يزول فيها عقله. فهذا مذموم على ذلك.
لكن إن كان متأوّلًا معتقدًا جواز ذلك، لاجتهادٍ أو تقليد، أو غير
(1)
الأصل: "معارفًا".
عالم بما في ذلك من النهي الشرعي، كان له حُكْم أمثاله من أهل التأويل وعدم العلم.
وإذا كان مخطئًا معفوًّا له عن خطئه، عُفِي له عما يترتَّب على خطئه، لكن قد يَضْمَنُ ما تلف بخطئه من حقوقِ العبادِ في أنفسهم وأموالهم، كما أوجب الله الديةَ في القتل خطأً.
وأما إذا كان الإتلافُ بتأويل من جهتين، فله حُكْم قتال الفئة من أهل التأويل، كالجَمَل وصِفِّين. والصحيح: أنه هَدْرٌ من الجانبين.
وهذا حكم ما يعتري أهل الأحوال في
(1)
حال سُكْر السماع، من عدوان بعضهم على بعض، كما هو مذكور في غير هذا الموضع.
وجماع ذلك: أن الأمر والنهي مشروطان بالتمكين من العلم [ق 5] والعمل، فإذا كان العبد عاجزًا عن أحدهما، لم يكلَّف الكفَّ عما هو عاجزٌ عنه.
وإذا عَجَز عن حفظ عقله، أو عن حَمْل ما يَرِدُ عليه، أو عن العلم بحاله ــ عجزًا يُعْذَرُ فيه شرعًا ــ لم يكن مُعاتَبًا بما يترتّب على زوال العقل، بحسب المزيل للعقل، هل هو معفوّ عنه، أو محظور. وقد يظن صاحبه أنه مأمور به أو مباح لاجتهادٍ أو تقليد، ولكن في نفس الأمر لا يأمر الله عز وجل بما يزيل العقل، ولا يبيح ذلك.
(1)
الأصل: "من".
ولهذا تنازع الفقهاء في المؤدِّب المأذون له في أدبٍ غير مُقدَّر، إذا تَلِف بأدبه، كالزوج إذا ضرب امرأته، والرائض إذا ضرب دابَّته، فقيل: يَضمنُ ذلك كقول الشافعي؛ لأنه يتبيَّنُ بالإتلاف أنه زاد على المأذون.
وقيل: لا يضمن كقول مالك وأحمد؛ لأن القَدْر المأذون فيه ليس محدودًا، بل هو مُوكَلٌ
(1)
في اجتهاده، فإذا فعل ما اجتهد فيه لم يكن عليه دَرَك، كالمقتصّ.
فقد تبيَّن ضعف قول من يذمُّ هذه الأمور مطلقًا، ويسوِّغها مطلقًا، ويعلم أن الاعتبار في ذلك بأسبابها المأمور بها والمنهيِّ عنها.
ثم نقول في سائغها: ليس هذا لازمًا من لوازم الطريق، كفعل المأمور، وترك المحظور، فضلًا عن [أن] تكون هي الغاية التي تُناقض هذه الأمور وتضادّها مأمورًا به أمرَ إيجاب ولا أمرَ استحباب. فلا يكون من لوازم طريق الله، فإنَّ اللازم لهم إما أن يكون واجبًا أو مستحبًّا. والأحوال التي تكون من لوازم أعمالهم تكون نتيجة واجبٍ أو مستحبٍّ، فما ليس بواجب ولا مستحبّ ولا نتيجة واجب ولا مستحبّ لا يلزمهم أن يفعلوه، ولا يلزمهم وجوده، فلا يكون من لوازم طريق الله وسبيله، ومنهاج القاصدين إليه، ومنازل السائرين إليه.
وإن عَرَض لبعضهم وكان له منزلًا ومقامًا لخصوص حاله؛ لم يقتضِ أن يكون لكل سائرٍ؛ بل ولا هو لازمًا لكلِّ أحد أن يفعله.
(1)
الأصل: "موكلًا".
ولا يجبُ على أحدٍ في الشريعة أن يفعل ما يغيِّبُ به عقلَه، أو يُنْقِص به قوَّتَه، ولكن قد يفعلُ أمورًا يلزم [منها] ضعف عقله ونقص قوَّة قلبه، فتكون هذه لوازم وجود تلك الأمور؛ لا أنه يلزمه تحصيل ذلك.
فوجوبُ تحصيل ذلك لا يثبت في حق أحد، وأما وجوب وجوده فقد يَعْرضُ لبعض السالكين دون بعض، ولا يَعْرضُ إلَّا مقرونًا بصعق وعجز، والصَّعِقُ العاجزُ هو معذور على ما تركه، ليس مأمورًا بما تركه.
واعتَبِرْ هذا بالأحوال العارضة للناس في سائر ما يحبونه ويطلبونه، منهم من يعرض له في حُبِّ الصُّوَرِ والرياسة أو المال ما يُذْهِل لبَّهُ ويُزيلُ عقلَهُ.
وكذلك قد يَعْرضُ له في المخاوف ما يذهل لبَّه
(1)
ويزيل عقلَه، بحيث يبقى مستغرقًا في مشهوده وموجوده.
كما يذكرون أنَّ رجلًا كان يحب آخر، فألقى المحبوبُ نفسه في اليمّ، فألقى المحبُّ نفسه خلفه، فقال: أنا وقعتُ، فما الذي أوقعك معي؟ فقال: غبتُ بك عني، فظننتُ أنك أنّي. وقد ذُكِرَتْ قَبْل
(2)
.
والحكايات في مثل هذا كثيرة. لكن لا يقول عاقل: إنَّ مثل هذا كمالٌ ممدوح مأمور به، لا في حقِّ
(3)
الممدوح ولا في المذموم.
(1)
الأصل: "اليه" تحريف وقد جاءت على الصواب قبل سطر.
(2)
(ص 160).
(3)
الأصل: "الحق" سهو.