الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نادمين من حين رجع الرسول والمؤمنون.
وهذا كما قد قيل: إن الله حجرَ التوبة عن كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها، لأنه يراها حسنةً، والتوبة إنما تتيسر على من عرف أن عمله سيِّء قبيح، فيكون عمله داعيًا له إلى التوبة، أما إذا اعتقد أنه حسن فيحتاج ذلك الاعتقاد إلى أن يزول، وزوال الاعتقاد لا يكون بالوعظ والتخويف، وإنما يكون بعلم وهدى يبيِّن الله له فساد اعتقادِه، وصاحب الاعتقاد الفاسد جهلُه مركب، وهو لا يُصغي إلى أدلّة مخالفيه وتفهُّمِها لوجهين:
أحدهما: أنه لا يجتمع النقيضان في القلب، فلا يجتمع ذلك ودليلُ نقيضِه، فإن دليل النقيض يستلزمه، فلا يمكن أن يتصور دليل النقيض إلا مع عُزوب ذلك الاعتقاد عن القلب، لا مع حضوره، ولأن اعتقاده لذلك القول يدعوه إلى أن لا ينظر نظرًا تامًّا في دليل خلافه، فلا يعرف الحق.
ولهذا قال السلف: إن
البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية
. وقال أيوب السختياني وغيره: إن المبتدع لا يرجع. واحتج بقوله في الخوارج: «يمرقون من الإسلام كما يمرق السهمُ من الرميَّة، ينظر في نَصْلِه فلا يرى شيئًا، وينظر في رِصَافِه فلا يرى شيئًا، وينظر في قِدْحِه فلا يرى شيئًا، وينظر في نَضِيِّه فلا يرى شيئًا، ويتمارى في الفُوْق قد سبقَ الفرثَ والدمَ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (3610) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري. والرميَّة: الصيد المرميّ، والنصل: حديدة السهم، ورِصافه: عصبه الذي يكون فوق مدخل النصل، والنضيّ: عود السهم قبل أن يُراش ويُنصل، وقيل: هو ما بين الريش والنصل. والقِدح هو النضيّ كما فُسّر في الحديث. والفُوق من السهم: حيث يثبت الوتر منه.
وهذا الذي ذكره هو كحال من {أَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]، والذين لو {رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]. لكن ليس هذا وصف جميع أهل البدع، فليست البدعة أعظم من الردّة عن الإسلام والكفر، وقد تاب خلقٌ من المرتدّين والكفار، لكن هو مظنة الخوف، كالذين أسلموا من المرتدّين كان الصحابة يحذرون منهم خوفًا من بقايا الردَّة في قلوبهم. فهذا هو العدل في هذا الموضع، وقد تاب خلقٌ من رأي الخوارج والجهمية والرافضة وغيرهم. لكن التوبة من الاعتقادات التي كثُر ملازمةُ صاحبها لها ومعرفتُه بحججها يحتاج إلى ما يقابل ذلك من المعرفة والعلم والأدلة.
ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا شيوخَ المشركين واستبقُوا شَرْخَهم»
(1)
. قال أحمد وغيره: لأن الشيخ قد عسَى في الكفر، فإسلامه بعيد، بخلاف الشاب، لأن قلبه لين، فهو قريبٌ إلى قبول الإسلام.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (5/ 12، 20) وأبو داود (2670) والترمذي (1583) من حديث سمرة بن جندب. وإسناده ضعيف لعنعنة الحسن البصري وهو مدلس، وفيه الحجاج بن أرطاة، وفيه لين. انظر: ضعيف سنن أبي داود للألباني (459).
ومما يناسب هذا قوله تعالى عن مسجد أهل الضرار: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110]، هذا قرأه الجماعة، وقرأ يعقوب «إلى أن تقطع»
(1)
، وعلى هذا فالريبة باقية إلى حين التقطع. وأما قراءة الجمهور فإنه استثنى فقال:{إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} ، فإذا قطعت قلوبهم لم يبقَ ريبةٌ في قلوبهم. وقد قال سفيان وغيره: هو التوبة. وقال كثير من المفسرين
(2)
: هو التقطع بالموت أو في القبر أو يوم القيامة. وقول هؤلاء يناسب قراءة يعقوب، فإنه لا تزال ريبة إلى حين تقطع القلوب. وأما قراءة الاستثناء فإن كانت توبتهم مقبولة كما قال سفيان وغيره فهي تحتاج إلى تقطع القلوب، تتمزق بالتوبة، فتحتاج إلى مشقة وشدة. وهكذا كثير من ذنوب أهل الاعتقاد والشبهات وأهل الشهوات القوية يحتاج صاحبُها إلى معالجة قلبه ومجاهدة نفسه وهواه. وتوبة الثلاثة قد قال الله فيها:{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118]، فكيف غيرهم؟ وتوبة أبي لبابة وأصحابه كانت لما ربطوا أنفسَهم في السواري
(3)
، وقوله:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يدل على أنه
(1)
انظر: النشر في القراءات العشر (2/ 281).
(2)
انظر: زاد المسير (3/ 503) وتفسير الطبري (11/ 701) والقرطبي (8/ 266) وابن كثير (4/ 1711).
(3)
لأنهم تخلفوا عن غزوة تبوك، وقيل لسبب آخر. انظر: مصنف عبد الرزاق (5/ 405) والاستيعاب (4/ 1741) وتفسير ابن كثير (4/ 1702).
سبحانه يعلم من أحوالِ القلوب ما يناسب هذا، وهو حكيم في حكمه بأنه {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} .
وإذا أريد بتقطع القلوب تقطعها بالتعذيب فقط فيكون ذلك لأنه علمَ أن هؤلاء المعينين لا يتوبون، وإن أريد تقطعُها بالتوبة أو بالتعذيب فلابدّ لهم من أحد الأمرين: إما أن يقطعوها بالتوبة، وإلا قطعت بالعذاب، كما قال:{إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106]. وأولئك المعينون إذا لم يقطعوها بالتوبة قطعت بالتعذيب، فالعذاب مُخرِج ما في النفوس من الريبة والنفاق، لمن لم يُخرِجه بالتوبة، والذنوبُ لابد فيها من توبة أو تعذيب، ولو أنه ينقص الحسنات لأجلها، كما قال:{إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} ، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع. والله أعلم.
فصل
وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]، نُقل عن ابن عباس وغيره أنهم قالوا: عسى من الله واجب
(1)
. وهذا الذي قالوه قد وُجِد بالاستقراء في مواضع، كقوله:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ} [الممتحنة: 7]. وجعل الله المودة بين المؤمنين وبين الذين كانوا يعادونهم بعد أن نزلت هذه الآية لما فُتِحتْ مكة وآمن الطلقاءُ، كأبي سفيان، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن
(1)
انظر: البرهان للزركشي (4/ 160).
أبي جهل، والحارث بن هشام وغيره.
وقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]، وأتى الله بالفتح وبأمرٍ من عنده، فأصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
وقوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]، وتاب عليهم.
وقوله: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 50 - 52]. وهذا يكون ذلك اليوم.
وقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، ومن تولى عن طاعة الله والرسول أفسد في الأرض وقطعَ رَحِمَه، كما فعل المشركون {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10].