الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]، وقال:{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11]، وقال:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]، وقال:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
وهذا أمر محسوس، لكن الكلام في أمرين:
أحدهما: هل هي نعمةٌ أم لا؟
والثاني: أن جنسَ تَنعُّمِ المؤمنِ في الدنيا بالإيمان وما يَتْبَعه هل هو مثل تَنَعُّم الكافر أو دونَه أو فوقَه؟ وهذه المسألة المتقدمة.
فأما الأول فيقال: اللذات في أنفسها ليستْ نفسَ فعلِ العبد، بل قد تَحدُثُ عن فعلِه مع سبب آخر، كسائر المتولّدات التي يخلقها الله تعالى بأسباب، منها فعلُ العبد. لكن
هذه اللذات تارةً تكون بمعصيةٍ
مِنْ تركِ مأمورٍ أو فعلِ محظورٍ، كاللذة الحاصلة بالزنا وتوابِعه، وبظلمِ الناس، وبالشرك، والقولِ على الله بغير علم. فهنا المعصيةُ هي سبب العذاب الزائد على لذة العقل، لكن ألم العذاب قد يتقدم ويتأخر، وهي تُشبِه أكلَ الطعام الطيب، الذي فيه من السُّموم ما يُمرِض أو يَقتُل. ثم ذلك العذاب يمكن دفعُه بالتوبة وفعلِ حسناتٍ أُخَر.
لكن يقال: تلك اللذة الحاصلة بالمعصية لا يكون مقاوِمًا لها ما في التوبة عنها والأعمال الصالحة من المشقة والألم، ولهذا قيل: تركُ
الذنب أيسرُ من التماسِ التوبة
(1)
، وقيل: رُبَّ شهوةِ ساعةٍ أورثَتْ حُزْنًا طويلًا. ولكن فعل التوبة والحسنات الماحية قد تُوجِب من الثواب أعظمَ من ثوابِ ترك الذنب أولًا، فيكون ألمُ التائب أشدَّ من ألم التارك إذا استويا من جميع الوجوه، وثوابُه أكثر. وكذلك ما يُكفِّر الله به الخطايا من المصائب مرارتُه تزيد على حلاوة المعاصي. وتارةً تكون اللذات بغير معصية من العبد، لكن عليه أن يطيع اللهَ فيها فيعصيه فيها بتركِ مأمورِه وفعل محظورِه فيما يُؤتاه العبدُ من المالِ والسلطان، ومن المآكل والمناكح التي ليست بمحرمة.
والله سبحانه أمر مع أكل الطيبات بالشكر، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، وفي صحيح مسلم
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «إنّ الله لَيَرضى عن العبد أن يأكلَ الأكْلةَ فيحمده عليها، ويَشربَ الشَّربةَ فيحمدَه عليها» . وفي الأثر: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» . رواه ابن ماجه
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ
(1)
نُقل نحو ذلك عن شفي الأصبحي، انظر: حلية الأولياء (5/ 167).
(2)
برقم (2734) عن أنس بن مالك.
(3)
برقم (1764). وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 283) والترمذي (2486) وابن حبان (315) والحاكم في المستدرك (1/ 422، 423) عن أبي هريرة. وقال الترمذي: حسن غريب. والحديث صحيح لطرقه وشواهده، انظر: تعليق المحقق على صحيح ابن حبان.
النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] لما أضافَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمرَ أبو الهيثم ابنُ التيِّهان، وجلسوا في الظلِّ، وأطعمهم الفاكهة واللحمَ، وسقاهم الماءَ البارد، قال:«هذا من النعيم الذي تُسألون عنه»
(1)
.
والسؤال عنه لطلب شكرِه، لا إثم فيه، فالله تعالى يطلب من عباده شكرَ نِعَمِه، وعليه أن لا يستعين بطاعته على معصيته، فإذا تركَ ما وجبَ عليه في نعمته من حقٍّ، واستعان بها على محرَّمٍ كان فعلُه بها وتركُه لما فيها سببًا للعذاب أيضًا. فالعذاب استحقَّه بترك المأمور وفعلِ المحظور، لا على النعمة التي هي من فعل الله تعالى، وإن كان فعله وتركه بقضاء الله وقدره، بعلمه ومشيئته وقدرته وخلقه. فإن حقيقة الأمر أنه نعَّمَ العبدَ تنعيمًا، وكان ذلك التنعيم سببًا لتعذيبه أيضًا، فقد اجتمع في حقه تنعيمٌ وتعذيب، ولكن التعذيب إنما كان بسبب معصيته، حيث لم يُؤدِّ حقَّ النعمة، ولم يتَّقِ الله فيها.
وعلى هذا فهذه التنعيمات هي نعمة من وجهٍ دونَ وجهٍ، فليست من النعم المطلقة، ولا هي خارجة عن جنس النعم مطلقِها ومقيَّدِها، فباعتبار ما فيها من التنعيم يَصلُح أن يُطلَب حقُّها من الشكر وغيره، ويُنهَى عن استعمالها في المعصية، فتكون نعمةً في باب الأمر والنهي والوعد والوعيد، وباعتبار أن صاحبها يترك فيها المأمورَ ويفعل بها
(1)
أخرجه أحمد (3/ 338، 351، 391) والنسائي (6/ 246) وابن حبان (3411) عن جابر بن عبد الله. وإسناده صحيح. وأصله عند مسلم (2038) عن أبي هريرة.
المحظورَ الذي يُربي عذابُه على نعيمها، كانت وبالًا عليه، وكاد أن لا يكون ذلك في حقّه خيرًا له من أن يكون، فليستْ نعمةً في حقِّه في باب القضاء والقدر والخلق والمشيئة العامة، وإن كان ذلك يكون نعمةً في حق عموم الخلق والمؤمنين. وعلى هذا يظهر ما تقدم من خبر الله بأن ذلك استدراج ومكرٌ وإملاءٌ.
وهذا الذي ذكرناه من ثبوتِ الإنعام بها من وجهٍ وسلبِه من وجهٍ آخر مثل ما ذكره الله في قوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 17]، فأخبر أنه أكرمه وأنكر قول المبتلَى «أكرمني» ، واللفظ الذي أخبر الله به مثل اللفظ الذي أنكره الله من كلام المبتلَى، لكن المعنى مختلف، فإن المبتلَى اعتقدَ أن هذا كرامة مطلقة، وهي النعمة التي يقصد بها المنعِمُ إكرامَ المنعَم عليه، والإنعامُ بنعمةٍ لا يكون سببًا لعذابٍ أعظم منها. وليس الأمر كذلك، بل الله تعالى ابتلَى بها ابتلاءً ليتبيَّن هل يطيعه فيها أم يعصيه، مع علمه بما سيكون من الأمرين، ولكن العلم بما سيكون شيء، وكون الشيء والعلم به شيء. وأما قوله:{فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} فإنه تكريم بما فيه من اللذات، ولهذا قرنَه بقوله:{وَنَعَّمَهُ} .
ولهذا كانت خوارق العادات التي تسميها العامة كرامةً ليست عند أهل التحقيق كرامةً مطلقة، بل في الحقيقة الكرامةُ هي لزوم الاستقامة،
وهي طاعة الله، وإنما هي مما يبتلي الله بها عبدَه، فإن أطاعه بها رفعَه، وإن عصاه بها خفضَه، وإن كانت من آثار طاعةٍ أخرى، كما قال تعالى:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 16 - 17].
وإذا كان في النعمة والكرامة هذان الوجهان
(1)
فهي في باب الأمر والشرع نعمةٌ يجب الشكر عليها، وفي باب الحقيقة القدرية لم يكن لهذا الفاجر بها إلا فتنة ومحنة استوجبَ بمعصية الله فيها العذاب، وهي في ظاهر الأمر قبلَ أن تُعرَف حقيقةُ الباطن ابتلاءٌ وامتحانٌ، يمكن أن تكون من أسباب سعادته، ويمكن أن تكون من أسباب شقاوته.
وظهر بهذا جانبُ الابتلاء بالمرّ، فإن الله يبتلي بالحلو والمرّ، كما قال:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وقال تعالى:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، فمن ابتلاه الله بالمرّ بالبأساء والضرَّاء والبأس وقَدَر عليه رزقَه، فليس ذلك إهانةً له، بل هو ابتلاء، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيدًا، وإن عصاه في ذلك كان شقيًّا، كما كان مثلُ ذلك سببًا للسعادة في حقّ الأنبياء والمؤمنين، وكان شقاءً وسببًا للشقاء في حقّ الكفار والفجّار، قال تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:
(1)
في الأصل: «هذين الوجهين» .
177]. وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214]، وقال تعالى:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101]. وقال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76].
وكما أن الحسنات وهي المسارّ الظاهرة التي يُبتلَى بها العبدُ تكون عن طاعاتٍ فعلَها العبدُ، كما قال تعالى:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]. وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال:{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62]، وقال:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48].
ثم تلك المسارّ التي هي ثواب طاعته إذا عصى الله فيها كانت سببًا لعذابه، فالمكاره التي هي عقوبة معصيته إذا أطاع الله فيها كانت سببًا لسعادته.