الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك، فإن إخلاصَ الدين لله أصل العدل، كما أن الشرك بالله ظلم عظيم، وأصل ذلك العلمُ، فإنه لا يُعلَم العدلُ والظلمُ إلا بالعلم، فصار
الدينُ كلُّه: العلم والعدل. وضدُّ ذلك: الظلم والجهل
، قال الله تعالى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. ولما كان ظلومًا جهولاً، وذلك يقع من الرعاة تارةً، ومن الرعية تارةً، ومن غيرهم تارةً= كان العلم والعدل المأمور به: الصبر على ظلمِ الأئمة وجَورِهم، كما هو من أصول أهل السنة والجماعة، وكما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المشهورة عنه، كما قال:"إنكم ستَلْقَون بعدي أَثَرةً، فاصبروا حتى تَلْقَوني على الحوض"
(1)
. وقال: "من رأى من أميرِه شيئًا يَكرهُه فليصبْر عليه"
(2)
. إلى أمثال ذلك. وقال: "أَدُّوا لهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم"
(3)
، ونَهى عن قتالهم ما صَلَّوا
(4)
؛ وذلك لأن معهم أصل الدين المقصود، وهو توحيد الله وعبادته، ومعهم حسناتٌ وتركٌ لسيئاتٍ كثيرة.
وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغٍ أو غيرِ سائغ فلا يجوز أن يُزالَ بما فيه ظلم وجور، كما هو عادةُ أكثرِ النفوس، يُزِيل الشرَّ بما هو شرٌّ منه، ويُزِيل العدوانَ بما هو أعدى منه. فالخروج عليهم
(1)
أخرجه البخاري (4330) ومسلم (1061) عن عبد الله بن زيد بن عاصم.
(2)
أخرجه البخاري (7053) ومسلم (1849) عن ابن عباس.
(3)
أخرجه مسلم (1843) عن ابن مسعود.
(4)
كما في حديث أم سلمة الذي أخرجه مسلم (1854).
يُوجِب من الظلم والفساد أكثرَ من ظلمهم، فيصبر عليه، كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور المنهيّ في مواضع كثيرة، كقوله:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، وقوله:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وقوله:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].
وهذا عام في ولاة الأمور وفي الرعية، إذا أمروا بالمعروف ونَهَوا عن المنكر فعليهم أن يصبروا على ما أُصيبوا به في ذات الله، كما يَصبر المجاهدون على ما يُصابُ من أنفسهم وأموالهم. فالصبر على الأذى في العرض أولى وأولى؛ وذلك لأن مصلحة الأمر والنهي لا تتم إلّا بذلك، وما لا يتم الواجبُ إلّا به فهو واجب.
ويندرج في ذلك وُلاةُ الأمور، فإن عليهم من الصبر والحلم ما ليس على غيرهم، كما أن عليهم من الشجاعة والسماحة ما ليس على غيرهم؛ لأن مصلحة الإمارة لا تتمُّ إلا بذلك. فكما وجب على الأئمة الصبرُ على أذى الرعيةِ وظلمِها إذا لم تتمَّ المصلحةُ إلّا بذلك، أو كان تركه يُفضِي إلى فسادٍ أكثر منه، فكذلك يجب على الرعية الصبرُ على جور الأئمة وظلمهم إذا كان في ترك الصبر مفسدةٌ راجحة.
فعلى كلٍّ من الراعي والرعية للآخر حقوقًا
(1)
عليه أداؤها، كما
(1)
كذا في الأصل منصوبًا.
ذكرت بعضه في "كتاب الجهاد والقضاء"
(1)
، وعليه أن يصبر للآخر ويَحْلُم عنه في أمورٍ. فلابدَّ من السماحة والصبر في كلٍّ منهما، كما قال تعالى:{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17]، وفي الحديث:"أفضلُ الإيمان: السماحةُ والصبر"
(2)
. وفي أسماء الله: الغفور الرحيم، فبالحلم يعفو عن سيئاتهم، وبالسماحة يُوصِل إليهم المنافعَ، فيجمع جلب المنفعة ودفع المضرة. فأما الإمساك عن ظلمهم والعدلُ عليهم فوجوبُ ذلك أظهرُ من هذا، فلا حاجةَ إلى بيانه. والله أعلم.
(1)
لم أقف على هذا الكتاب، وتكلم الشيخ على هذا الموضوع في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 103 وما بعدها) ومواضع أخرى.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 319) عن عبادة بن الصامت، وإسناده ضعيف، فيه ابن لهيعة، ولكنه قد تُوبع، فالحديث محتمل للتحسين. انظر تعليق المحققين على المسند (22717).
فصل
قاعدة في الإجبار على المعاوضات إذا لم يكن فيه ضرر،
وعلى الغير بتركه ضرر
عن سمرة بن جندب أنه كان له نخلٌ في حائطِ رجلٍ من الأنصار، ومع الرجلِ أهلُه، فكان سمرة يدخل إلى النخل، فيتأذَّى به ويَشُقُّ عليه، فطلبَ إليه أن يبيعها منه فأبى، فطلب أن يُنَاقله فأبى، قال:"فهَبْها لي ولك كذا وكذا" أمرًا رغَّبَه فيه، فأبى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنتَ مضارٌّ"، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري:"اذهَبْ فاقلَعْ نَخْلَه". رواه أبو داود
(1)
.
فيه من الفقه أن تلك النخلة كانت ملكًا لرجلٍ، وكان بقاؤه في أرضِ الغير يَضُرُّ به، فوجب عليه أن يزيل ضررَ ربِّ الأرض، إمّا بمعاوضةٍ وإما بتبرُّعٍ، فلما امتنعَ جَوَّزَ القَلْعَ؛ لأن تَرْكَ ذلك ضِرارٌ، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنما أنت مُضارٌّ"، ثم قال للأنصاري:"اذهَبْ فاقلَعْ نخلَه". وهذا موافق للحديث الذي رواه ابن ماجه
(2)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا
(1)
برقم (3636). وفيه انقطاع بين أبي جعفر الباقر وسمرة، فإنه لم يسمع منه.
(2)
برقم (2340)، وأحمد (5/ 326، 327) عن عبادة بن الصامت، قال البوصيري في الزوائد: "إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع؛ لأن إسحاق بن الوليد، قال الترمذي وابن عدي: لم يدرك عبادة بن الصامت، وقال البخاري: لم يلقَ عبادة. وأخرجه أحمد (1/ 313) وابن ماجه (2341) عن ابن عباس. وفي إسناده جابر الجعفي متهم. وأخرجه مالك في الموطأ (2/ 745) عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلاً. وروي هذا الحديث عن عدد من الصحابة بأسانيد ضعيفة. لكن يتقوى بعضها ببعض كما قال النووي، ووافقه الحافظ ابن رجب. انظر: جامع العلوم والحكم (2/ 207).
ضرار".
فصار هذا الحديث أصلاً في أن المعصوم إذا أصابه ضررٌ لا يندفعُ إلا بمعاوضةٍ من غيرِه وجبت المعاوضةُ على ذلك الغير إذا لم يكن عليه فيها ضررٌ زائدٌ؛ لأن المعاوضة على هذا الوجه إنما فيها تبديلُ المالِ بمثلهِ، وهذا لا يضرُّه فيه، وإزالةُ الضرر عن المسلم واجبة.
وهذا نظير إيجاب الشفعة، فإن الشريك عليه بالشركة ضرر الشركة والقسمة، والبائع إذا أراد البيع فهو يأخذ الثمن، فسيّانِ أخذه من هذا أو من هذا، فتبديل مُشترًى بمشترًى سواءٌ عليه.
ومن هذا الباب إجبارُ الشريك على القسمة وإن كان فيها شوب معاوضة، لما في ذلك من زوال ضرر الشركة بنوع معاوضةٍ لا ضررَ فيها، فإن كان في قسمة العينِ ضررٌ أُجْبِرَ الممتنع على البيعِ وقَسْم الثمنِ، فإنه إجبارٌ على معاوضةٍ لا ضررَ فيها، لدفعِ ضررِ الشريك بالشركة. وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور.
ونظيره إيجاب الشريك الممتنع على العمارة في ظاهر المذهب، لأن العمارة من نوع المعاوضة، فإنه يبذل ماله ليحصل له البناء، فإجباره على العمارة نظير إجباره على البيع معه.