الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 130 - 136]. وقال تعالى: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الزخرف: 49 - 50].
فقد أخبر أنه كشفَ العذابَ عن قومِ فرعونَ.
و
عذابُ الله ثلاثة أنواع:
نوع يكون في الدنيا قبلَ الموت، فهذا يقبل الله توبةَ من تابَ بعدَ معاينته، ويكشفه عنه.
وعذاب يكون بالهلاك عند المعاينة، فهذا لا كرَّةَ فيه، ولا تُقبَل توبتُه بعد معاينته.
وكذلك عذاب يوم القيامة، فإن الموت هو القيامة الصغرى، قال المغيرة بن شعبة: إنكم تقولون: القيامة القيامة، وإنه من مات فقد قامتْ قيامتُه. وشهِدَ علقمةُ بن قيس صاحبُ ابن مسعود جنازةً، فلما دُفِنَ قال: أما هذا فقد قامتْ قيامتُه
(1)
.
وهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين
(1)
ذكر السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 428) هذين الأثرين، وعزاهما للطبراني.
وأهل السنة، الذين يُثبِتونَ في البرزخ بعدَ الموتِ وقبلَ قيامِ الناس من قبورِهم عذابًا ونعيمًا. وطائفة من أهل البدع تُنكِر هذا ويُنكِرون عذابَ القبر، فهؤلاء ليس عندهم جزاءٌ إلا في القيامة الكبرى. وبإزاء هؤلاء كثير من المتفلسفة والملاحدة الباطنية ومن وافقهم يُثبِتون القيامة الصغرى، وهو معادُ النفس إذا فارقت البدنَ، وليس عندهم قيامة كبرى يقوم الناس عنها من قبورهم، وإنما يُثبِتون تغيُّرَ العالم السُّفلِيّ من حالٍ إلى حال. وهذه القيامة الوسطى التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:«إن يَستنفِدْ هذا الغلامُ أجلَه لن يُدرِكَه الهَرَمُ حتى تقوم الساعةُ»
(1)
. يُريد به انخرامَ ذلك القرن، هكذا جاء مبينًا في الأحاديث الصحيحة.
وعذاب الله هو في هذه القيامات الثلاث، يُعذِّب من يشاء بعدَ الموتِ ويُعذِّب كثيرًا من الأمم بهلاكهم جميعًا، كما أهلك قومَ نوح وعادًا وثمودَ وغيرهم. وكذلك يُزيلُ الدُّوَل، وقد قال:«إذا رأيتَ الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعاءَ البَهْمِ يتطاولون في البنيان، فذلك من أشراطها»
(2)
.
والقيامة الكبرى إذا قامَ الناس من القبور، وانشقَّتِ السماءُ وبُسَّتِ الجبالُ، وكان ما أخبر الله به في كتابه. والوعيد في القرآن يتناول هذا وهذا وهذا، والمفسرون يذكرون الأمور الثلاثة.
ومما يبيِّن ذلك قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا
(1)
أخرجه البخاري (6167) ومسلم (2953) عن أنس.
(2)
أخرجه البخاري (50) ومسلم (10) عن أبي هريرة، ومسلم (8) عن عمر بن الخطاب.
يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]. فدلَّ ذلك على أنه بعد أن يُصيبَ الإنسانَ العذابُ تُقبَل منه الاستكانةُ والتضرعُ، كما قال:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94]، وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41]. فهذا يُبيِّن أنه قد يكشف العذاب الذي دَعَوا الله إليه، كما قال:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8].
ومما يبيِّن ذلك قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، فأخبر أنه يُذِيق الناس العذابَ الأدنى في الدنيا لعلهم يتوبون، وذلك أن التوبة ترفعُ العذاب الأدنى عن جميع الناس. وقال تعالى:{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]، وقال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وإذا كان القرآن قد فرَّق بين العذاب الذي يستعقبه الموتُ وبين
غيره وجبَ الفرقُ، والمريض تُقبل توبتُه ما لم يُغرْغِر
(1)
ويُعايِنْ ملك الموت، وإن كان مرضه مخوفًا. فقوم يونس إنما أخبر الله عنهم أنهم لما آمنوا كشف عنهم عذابَ الخِزي في الحياة الدنيا، فبيَّن أن العذاب المكشوف كان مما يُعذَّب به في الحياة الدنيا لم يكن هو العذاب الموجب للهلاك، ولو لم يفسّر ذلك فلفظ العذاب مجمل، والقرآن قد فرَّقَ بين النوعين، فلا يجوز حملُ هذا العذاب على العذاب الموجب للموت الذي لا يقبل معه توبة، فإنّ في هذا مخالفةً لسائرِ آيات القرآن ولحكمةِ الربّ وعدلِه بلا دليلٍ؛ إذ كان اللفظ المجمل لا يعين أحد النوعين، فكيف إذا كان معه ما يقتضي التعيين أنه كان العذاب الأدنى، وإن كانوا قد عاينوه وأصابهم، فالتوبة بعد هذا العذاب مقبولة، فقد أصابَ قومَ فرعون من أنواع العذاب ما ذكره الله، ومع هذا فقد كان يقبل توبتهم لو تابوا ووعدوا بالإرسال، فلما كشف عنهم العذاب نقضوا عهدهم.
وما رُوِي أنه غشِيَهم العذابُ كالغمام الأسود واسودَّتْ أَسْطِحَتُهم
(2)
ونحو ذلك الله أعلم بثبوته، فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر ذلك إنما يأخذه المسلمون عن أهل الكتاب، وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نصدِّقهم أو نكذِّبهم. لكن مثل هذا العذاب قد يكون تهديدًا: إن
(1)
كما في حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد (6160) والترمذي (3537) وابن ماجه (4253). وإسناده حسن.
(2)
انظر: زاد المسير (4/ 65) والدر المنثور (7/ 707 وما بعدها).
تبتم وإلا أصابكم كنَتْقِ الجبل فوق بني إسرائيل، وهذا من أعظم الآيات. قيل لهم: إن أخذتم التوراة وإلّا أطبقناه.
ومما يبيِّن ذلك أن القوم لم يَطُلْ مقامُ يونسَ عندهم، بل حين كذَّبوه وعدَهم بالعذاب كما نقله هؤلاء، ومثل هذا يكون عذابَ تهديد، كما قد يُصيبُ الناسَ من الجدب والجوع ما هو أعظمُ من ذلك، ويُصيبُهم من الوباء والطاعون ما يُصيبهم، والذين عبدوا العجلَ أمرهم الله بقتلِ بعضهم بعضًا وقَبِلَ توبتَهم، ثم بعثَهم من بعد موتهم لعلهم يشكرون. وإنما الذي لا يقبل معه توبة ما يقترن به الموتُ كغرقِ فرعون ونحوه.
وأما استثناء الله قومَ يونس فهو حجة في المسألة، فإنّ الله قال:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [يونس: 98]، وقوله:{إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} استثناء منقطع، وهم قد سلموا أنه منقطع، ودليل ذلك أنه منصوب، ولو كان مثبتًا لكان مرفوعًا في اللغة المشهورة، كما في قوله:{مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، فلما قال:{إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} كان منقطعًا، كالاستثناء في قوله:{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116]، فإنه منقطع. وكذلك أهل العربية والتفسير قالوا
(1)
: هو استثناء منقطع، والمعنى: لكن قليل ممن أنجينا
(1)
انظر: زاد المسير (4/ 170) وتفسير القرطبي (9/ 113).
منهم من نهى عن الفساد. وقال مقاتل
(1)
: لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشرك، إلا قليلًا ممن أنجينا من العذاب مع الرسل.
ومما يُبيِّن ذلك أن قوله: {فَلَوْلَا} بمعنى فهلَّا، وهي كلمة تحضيضٍ على المذكور وذمٍّ لمن لم يفعله
(2)
، والمعنى: فهلَّا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها؟ كما قال: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود: 116]، أي لِمَ لا كان فيهم مَنْ ينهى وفي القرى مَن آمن فنفعه إيمانُه؟ وهذا يقتضي أن أهل القرى لو آمنوا لنفعهم إيمانهم كما نفعَ قومَ يونس، لكن لم يؤمنوا. وعلى ما قاله المنازعون يكون معنى الآية: ما آمنت قرية فنفعَها إيمانُها إلا قوم يونس، أو ما آمن أحدٌ عند رؤية العذاب فنفعَه إيمانُه إلا قوم يونس. فبهذا فسَّروا القرآن، وليس هذا مراد الله، فإن الله لم يخبرنا أن غير قوم يونس آمنوا وما نفعَهم إيمانهم، وأن الإيمان لم ينفع إلا قومَ يونس. بل مقصوده أنه لم يؤمنْ وينتفعْ بإيمانه من أهل القرى إلا قومُ يونس.
وأيضًا فإن هذا المعنى يقال فيه: فما قرية آمنت فنفعَها إيمانُها إلا قومَ يونس بصيغة النفي والسلب، لا يقال: فهلَّا كانت قرية آمنت بصيغة التحضيض والطلب والاستدعاء والتوبيخ والملام على ترك الإيمان،
(1)
كما في زاد المسير (4/ 171).
(2)
انظر: مغني اللبيب (ص 303) والكتب الأخرى في حروف المعاني. وهو أحد وجوه «لولا» الأربعة.
فإن هذه الصيغة أصل وضعها هو للتحضيض لا للنفي، ولهذا قد يُفعل المحضوضُ عليه بعد التحضيض، كما يُفعل بعد الأمر، كما قال تعالى:{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ} [محمد: 20]، ثم قال:{فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 20]، فأين هذا من هذا؟ أين إخبارُه بأنهم آمنوا ولم ينفعهم إيمانُهم من كونه وبَّخهم وذمَّهم على أنهم لم يؤمنوا فينتفعوا بالإيمان؟
ولهذا كان الاستثناء بعده منقطعًا، ولو كان نفيًا وسلبًا لكان الاستثناء معه متصلًا، كقوله:{مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، فلما قُطِع الاستثناء ونُصِب المستثنَى عُلِمَ أنه استثناء من نفيٍ وسلبٍ، لكن الكلام تحضيض، فلو اتصل الاستثناء لكان المعنى تحضيضهم على الإيمان إلا قوم يونس، وتحضيضهم على النهي عن الفساد إلا القليل. وهذا يوجب قلبَ المعنى، فإن الله يحضُّ الجميع على الإيمان وعلى النهي عن الفساد، لكن لما ذكر صيغة للحضّ العام بيَّن أن هؤلاء وهؤلاء فعلوا ما حُضُّوا عليه، فلا يتناولهم الذمُّ، فإن الاستثناء المنقطع قد يكون من الجنس المشترك بين المستثنَى والمستثنى منه، كما في قوله:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]، فاتباع الظن مستثنًى من المعنى العام المشترك بين العلم والظن، وهو الاعتقاد، فإنه لما قال:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} بقيت النفس تطلب: فهل عندهم شيء من الاعتقاد؟
فيقال: ما عندهم إلا اتباع الظن.
وكذلك قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]، فإنه استثناء من المعنى المشترك بين الجنة والدنيا، فلما قال:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} بقيت النفس تطلب: هل ذاقوه في غيرها؟ فقال: لم يذوقوا إلا الموتة الأولى. وكذلك نظائره.
وقد يكون أخصَّ من المستثنى منه، فلما قال:{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116] و {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس: 98] كان هذا تحضيضًا للجميع، والتحضيض أمر مؤكد يقتضي ذمَّ مَنْ لم يفعل المأمور وعقابَه، ونفسُ الحضّ والأمر لا يستلزم الخبر، فإن المأمور لم يَفعل ما أُمِر به، بل قد يفعله وقد لا يفعله، وإذا لم يفعله استحقَّ الذمَّ والتوبيخ. وقد يكون في المحضوضين مَن فعلَ، فلما ذكر التحضيض والفاعل مستثنى من التوبيخ لا مستثنى من الحضّ، فلو قال:{إِلَّا قَلِيلٌ} و {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} لكان هذا استثناءً من التحضيض، وليس كذلك، وإنما هو استثناء من أخص منه وهو التوبيخ ونفي الفعل، فإنه لما حضّ الجميع كأنه قيل: فكلُّهم لم يُنْهَ، وكلُّهم يستحقون الذمَّ والتوبيخ، فيقال: نعم إلا قوم يونس، وإلا قليلًا.
ومما يبيِّن أن مثل هذا التحضيض لا يستلزم النفي عن الجميع قولُه: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ
عَظِيمٌ} [النور: 16]، وقوله:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]. وقد كان من المؤمنين من قال لما سمعه: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم. وكثير منهم أو أكثرهم ظنَّ بعائشة خيرًا، مثل أسامة بن زيد وجاريتها وغيرهما ممن زكَّاها وبرَّأها. فعُلِم أن التحضيض لا يستلزم النفي العام.
فلهذا كان قوله: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116] التحضيض فيه عام لم يُستثنَ منه أحد، فلم يكن الاستثناء متصلًا، ولكن الاستثناء وقعَ من ترك المحضوض عليه ولوازم الترك، من الذم والتوبيخ، وهذا الترك قد كان في أكثر المحضوضين، وقد صار يُفهم منه أن هذه الصيغة لم تُستعمل إلا إذا حصل تركٌ من جميع المحضوضين أو من بعضهم. فإذا فرَّ الجيشُ مثلًا قيل: هلَّا ثَبتُّم؟! وإذا فرَّ الأكثر قيل: يستحقون العقوبة إلَّا فلانًا، ولا يقال: هلَّا ثبتُّم إلَّا فلان؟! فإنه تحضيض على الثبات إلَّا لفلانٍ، وهذا ليس بمرادٍ، بل هو مستثنًى من الترك وسلبِ الفعل والذمّ والعقاب، لا من شمولِ الطلبِ والحضِّ له. والله أعلم.
ثم يقال: هو مستثنًى من القدر المشترك بين أنواع الحضّ والأمر، حضٌّ وأمرٌ لمن فعلَ ولمن ترك. وقد يقال مستثنى مما هو أخصُّ من الحضِّ، وهو الترك والذمّ، وكلا الأمرين واحدٌ. والله أعلم.
ومثل هذا قوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود: 81]
فمن رفعَ جعلها مستثناةً من النهي، فلم تُنهَ عن الالتفات لأنها من المعذبين. ومن نصبَه جعلَه منقطعًا، فإنه لما نهاهم عن الالتفات، والالتفات مُوجب للعقوبة، فقد يكون منهم من لا يطيع فيُعاقَب، ومنهم من لا يُعاقَب، فكأنه قال: فهل تُطيع وتسلِّم؟ فقال: نعم إلا امرأتك. وقيل: إنها استثناء من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} ، وقد ذكروا الوجهين في قراءة النصب، وهي قراءة نافع وغيره.
قال ابن الأنباري
(1)
: على قراءة نافع يكون الاستثناء منقطعًا، معناه: لكن امرأتك فإنها تلتفتُ، فيُصيبها ما أصابهم. فإذا كان الاستثناء منقطعًا كان التفاتُها معصية لربِّها؛ لأنه نَدبَ إلى ترك الالتفات.
وقال الزجاج
(2)
: من قرأ بالنصب فالمعنى: فأسْرِ بأهلك إلا امرأتك. ومن قرأ بالرفع حمله: ولا يلتفتُ منكم أحد إلا امرأتك، وإنما أُمِروا بترك الالتفات لئلا يروا عظيمَ ما نزلَ بهم من العذاب.
فإن قيل: فإذا جعل الاستثناء منقطعًا تكون منهيَّةً عن الالتفات، وعلى قراءة نافعٍ ليست منهيةً، والقراءتانِ لا تتناقضان.
قيل: الالتفات نوعان: نوع يكون مع محبة المعذبين، كالتفاتها. ونوع يكون مع بُغضِهم، كالتفاتِ لوطٍ لو التفتَ.
(1)
نقل عنه ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 142).
(2)
في معاني القرآن له (3/ 69، 70).
فنُهوا عن الالتفات لئلا يروا عظيمَ العذاب، فيحصل لهم روعٌ وفزعٌ. فكلهم منهيُّون عن النوع الأول، وهي عاصية التفتتْ التفاتَ محبة، فكان الاستثناء في حقّها منقطعًا. وأما الثاني فهم نُهُوا عنه، وهي لم تُنْهَ عن هذا الالتفات الذي هو مع البغض، ليَسلَمَ صاحبُه من الفزع والروع، بل لو التفتتْ مع البغض لم تكن عاصيةً وإن حصلَ لها روعٌ، ولكن لما التفتتْ وهي مُحِبّةٌ لهم على دينهم ــ والمرء على دين خليله ــ أصابها ما أصابَهم، لمشاركتها لهم في الذنب، لا لمجرد الالتفات لو خلا عن دين القوم. ولهذا لو التفتَ لوطٌ أو إحدى ابنتيهِ لم يُصِبه ما أصابهم. فهذا من دقائق معاني القرآن.
وقد ذكر ابن الجوزي القولين، قال
(1)
:
فإن قيل: [كيف] كُشِف العذابُ عن قومِ يونس بعد إتيانه إليهم، ولم يُكشَف عن فرعونَ حين آمن؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن ذلك كان خاصًّا لهم، كما ذكرنا في أول الآية.
والثاني: أن فرعون باشره العذابُ، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموتَ ويرجو العافيةَ، فأما الذي يُعاين فلا توبة له. ذكره الزجاج
(2)
.
والثالث: أن الله علم فيهم صدقَ النيات، بخلاف من تقدمَهم من
(1)
زاد المسير (4/ 66، 67). وما بين المعكوفتين منه.
(2)
في معاني القرآن (3/ 34).
الهالكين. ذكره ابن الأنباري.
قلت: هذا القول معناه: أن هؤلاء تابوا، وغيرهملم يتبْ، ولو تابَ قُبِلتْ توبتُه. وهذا إنما يكون قبل المعاينة.
وقد ذكر في الكلام هل هو نفيٌ أو تحضيضٌ قولين، فقال
(1)
:
وفي {لَوْلَا} قولان:
أحدهما: أنها بمعنى لم تكن قرية آمنتْ فنفعَها إيمانُها ــ أي قُبِل منها ــ إلا قوم يونس. قاله ابن عباس
(2)
.
وقال قتادة
(3)
: لم يكن هذا لأمةٍ آمنتْ عند نزول العذاب إلا لقوم يونس.
(1)
أي ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 64 - 65).
(2)
انظر: تفسير الطبري (12/ 292، 293).
(3)
تفسير الطبري (12/ 293).