المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المفسرون من السلف يفسرون المعنى، لا يتكلمون في دلالة العربية؛ لأن العربية عادتهم وطبعهم - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٨

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصول وقواعد(من مسوّدات شيخ الإسلام ابن تيمية)

- ‌الفاتحة نصفها ثناء وذكر، ونصفها دعاء ومسألة

- ‌كل واحدٍ من اسمي الذكر والدعاء يتناول الآخر

- ‌ الدعاء يُراد به دعاء العبادة ودعاء المسألة

- ‌الناطق بلفظ الثناء والذكر له ثلاثة أحوال:

- ‌ الشهادةَ على الناس مختصةً بهذه الأمة

- ‌ أخذ المال وصرفَه في مواضعه خيرٌ من تركه حيث لا ينفع

- ‌عمدتهم إما شبه قياسية أو ذوقية

- ‌ حجتهم تقليد كبيرٍ في أنفسهم

- ‌التلاوة تجمع معنى التدبر والاتباع ومعنى السماع

- ‌ جماع الخير في القرآن والإيمان

- ‌الهدى يدخل فيه العلم النافع، ودين الحق يدخل فيه العمل الصالح

- ‌المنحرف إما المبتدع في دينه، وإما الفاجر في دنياه

- ‌ البدع أحبَّ إلى إبليس من المعصية

- ‌ صنفانِ إذا صلحوا صلح الناس: العلماء والأمراء

- ‌ الدينُ كلُّه: العلم والعدل. وضدُّ ذلك: الظلم والجهل

- ‌ تحريم المضارَّة مطلقًا

- ‌ ترجيح جانب الحسنات

- ‌ ليس في أسماء الله الحسنى اسمٌ يتضمن صفة الغضب والعذاب

- ‌ جانب الحسنات هو الراجح في خلقه وأمرِه

- ‌ الجزاء في الحسنات بأفضل أنواعها وصفاتها، بخلاف السيئات

- ‌ الهمَّ بالحسنة يُثَابُ عليه، والهمّ بالسيئة لا يُعاقَب عليه

- ‌ الإرادة الجازمة مشروطة بالعلم المفصل

- ‌الإرادة تقوى وتضعف بحسب القدرة والعجز

- ‌ الحسنات يتعدى ثوابُها فاعلَها، وأما السيئة فلا يُعاقَبُ عليها إلا فاعلُها

- ‌ التفاوت في الحسنات والسيئات يقع من ثلاثة أوجه:

- ‌ وصف المختال الفخور بأنه يبخل ويأمر الناس بالبخل

- ‌ المسالمة لمن أمر الله بمسالمتِه، والمحاربة لمن أمر الله بمحاربته

- ‌فصلُ الخطاب(4): أن "الحدَّ" له عدة معانٍ تَرجِع إلى أصلين:

- ‌أما الحدُّ المركب من الجنس والفصل فلا يجوز في حق الله

- ‌أحدهما: اشتمال ذلك على أداء الواجبات وترك المحرَّمات

- ‌ الثاني: تضمُّنُها نهي المهجور وتعزيره وعقوبته

- ‌ أيهما أفضل؟ كثرة الركوع والسجود أو طول القيام

- ‌ فعلَ الإنسانِ وسائرِ الحيوان إما حركةٌ وإما صوتٌ

- ‌السماع الشرعي

- ‌كل وعد ووعيدٍ في القرآن فهو ترغيب وترهيب

- ‌ لا يتم ذلك إلّا بدفع المكروه

- ‌باعتبار القوى الثلاث كانت الأمم الثلاث المسلمون واليهود والنصارى

- ‌جنس القوة الشهوية: الحبُّ، وجنس القوة الغضبية: البغض

- ‌الحبُّ والبغض هما الأصل

- ‌الربيع هو المطر المُنبِت للربيع

- ‌الحياةُ والنورُ جماعُ الكمال

- ‌ المقصود هو العلم، وطريقه هو الدليل

- ‌الأنبياء جاءوا بالإثبات المفصل والنفي المجمل

- ‌ العلم بالعدم يحصل بواسطة العلم بالموجود

- ‌ العلم بالموجود وصفاته هو الأصل

- ‌ العلم بالسلوب لا يَستقلُّ في المسائل والأحكام، ولا في الوسائل والأدلة

- ‌ المطلوب بالنهي: هل هو نفسُ العدم أو الامتناع الذي هو أمر وجودي

- ‌معاد الأرواح والأبدان جميعًا

- ‌الأول كلام الله وكلام رسله وأنبيائه وخلفائهم

- ‌ الأصوات المثيرة للوجد والطرب

- ‌ أصل الصابئة الحروف والأصوات المجملة المشتركة

- ‌الأصل فيها أنها غير مشروعة ولا مأمور بها

- ‌ هذه الهداية والرئاسة كاملة العلم، ليس فيها نقص علمي

- ‌ أنها كاملة الرحمة

- ‌ أنها كاملة القدرة والسلطان، فإن ناصرها ومؤيدها هو الله

- ‌ تلازمَ العلم التام والعمل

- ‌ الأجسام ليست متماثلةً

- ‌لا يجوز حملُ نصوص الكتاب والسنة وكلام السلف على اصطلاحٍ حادثٍ

- ‌ الشهادة ركن في الخطب الواجبة

- ‌ لابُدَّ في الخطبة من ذكرِ الله وذكرِ رسوله

- ‌ المقصود بالشهادة سلبَ ألوهيةِ ما سوى الله عن القلب

- ‌من بدع ضلالهم وكفرهم

- ‌منشأ التلبيس

- ‌حكاية المناظرة في الواسطية

- ‌الإيمان قولٌ وعمل

- ‌ صفة العلو هل هي صفة كمال

- ‌فصلأصل الإيمان والهدى ودين الحقهو الإيمان بالله ورسوله

- ‌سورة البقرة جماعها في تقرير الرسالة

- ‌الإيمان بالله ورسوله هما المقصود والوسيلة

- ‌الإيمان بالله وباليوم الآخر غايتانِ، والإيمان بالرسل والعمل الصالح وسيلتان

- ‌يجبُ ردُّ جميع ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول

- ‌فصلوصف الله أفضلَ أهل السعادة بالإيمانوالهجرة والجهاد

- ‌فصلفي الكلام على النِّعم، وهل هي للكفار أيضًا

- ‌ هذه اللذات تارةً تكون بمعصيةٍ

- ‌ الأعمال بخواتيمها

- ‌ التنعُّم العاجل ليس بنعمةٍ في الحقيقة

- ‌ وصف المؤمنين بأنهم صابرون في البأساء والضراء وحين البأس

- ‌من لم يتصف بحقيقة الإيمان هو إما قادرٌ وإمّا عاجز

- ‌ حال كثير ممن يُشبِه اليهودَ من المتفقهة والمتكلمة

- ‌فصل في آية الربا

- ‌ حكم الخطاب هل يثبت في حق المسلم قبل بلوغ الخطاب

- ‌ أصل الربا هو الإنْسَاء

- ‌ الربا نوعان: جلي وخفي

- ‌ربا النَّسَاء من الجليّ

- ‌ تنازع السلف والخلف في ربا الفضل

- ‌ما حرم لسدِّ الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة

- ‌أواني الذهب والفضة وصيغتها محرمة

- ‌ مسألة «عَجِّلْ لي وأَضَعُ عنك»

- ‌الربا البيّن الذي لا ريب فيه هو ربا النسيئة

- ‌ إذا اجتمع ربا الفضل والنَّساء في جنس واحدٍ حرم

- ‌الفرق بين الحيل وسدّ الذرائع

- ‌النظر إلى الأجنبية

- ‌فصلفي أنه ليس في القرآن لفظة زائدة لا تفيد معنى

- ‌فصلفي توبة قوم يونس

- ‌هل هي مختصة بالقبول دون سائر من يتوب

- ‌ العذاب نوعان: عذابٌ يتيقن معه الموت، وعذاب لا يتيقن معه الموت

- ‌عذابُ الله ثلاثة أنواع:

- ‌المفسرون من السلف يُفسِّرون المعنى، لا يتكلمون في دلالة العربية؛ لأن العربية عادتهم وطبعُهم

- ‌ كل مَنْ تابَ قبلَ الرفع إلى الإمام لم يقم عليه [الحدّ]

- ‌ البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية

- ‌مسألةعن رجل يزعم أنه شيخٌ ويتوِّب الناسويأمرهم بأكل الحيَّة

- ‌ من أمرَ مُريديه بدخول النار فهو شيخٌ ضالٌّ مبتدع

- ‌ لا يوجد من هؤلاء إلا من هو خارجٌ عن الكتاب والسنة

- ‌ لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، والويل لمن اتبع الأكابر فيما خرج عن سنن المرسلين

- ‌مسألة في الحضانة

- ‌ الحضانة للأم ما لم تتزوج

- ‌ تصرف الولي في بُضْع وليته كتصرفه في مالها

- ‌مسائل مختلفة

الفصل: ‌المفسرون من السلف يفسرون المعنى، لا يتكلمون في دلالة العربية؛ لأن العربية عادتهم وطبعهم

والثاني: أنها بمعنى هلَّا. قاله أبو عبيدة

(1)

، وابن قتيبة

(2)

، والزجاج. قال الزجاج

(3)

: المعنى: فهلَّا كانت قرية آمنتْ في وقتٍ ينفعها إيمانُها إلا قوم يونس. و {إِلَّا} ههنا استثناء ليس من الأول، كأنه قال: لكن قوم يونس.

وقال الفراء

(4)

: نصب القوم على الانقطاع مما قبله، ألا ترى أن ما بعد {إِلَّا} في الجحد يتبع ما قبلها. تقول: ما قام أحدٌ إلَّا أخوك، فإذا قلتَ: ما فيها أحدٌ إلا كلبًا أو حمارًا نصبْتَ؛ لانقطاعهم من الجنس. كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء، ولو كان الاستثناء وقعَ على طائفة منهم لكان رفعًا

(5)

.

قلت: هذا قول أئمة العربية، وهذا مما يُعلَم بالاضطرار من لغة العرب التي بها نزل القرآنُ. {وَلَوْلَا} تارةً يليها الاسم، كقوله:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} ، فيكون حرف امتناع. وتارةً يليها الفعل، كقوله:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} . فيكون حرفَ تحضيضٍ، وهو يتضمن النفي. فالنفي لازمٌ لها، لا أنها بمعنى «لم تكن» .

و‌

‌المفسرون من السلف يُفسِّرون المعنى، لا يتكلمون في دلالة العربية؛ لأن العربية عادتهم وطبعُهم

، لا يحتاجون فيها إلى مقاييس النحاة. وابن عباس ذكر أن الآية دلَّتْ على أنه لم تكن أمةٌ آمنتْ فنفعَها إيمانُها إلَّا قوم يونس. وهذا حق، والاستثناء المنقطع يدل عليه. لم يقل: إنها بمعنى: لم تكن. وكذا قتادة ظنَّ أن المراد أن الإيمان نفعَهم ولم ينفع غيرَهم. وليس كذلك، بل غيرهم لم يؤمن إيمانًا ينفعه، وهؤلاء آمنوا إيمانًا ينفعهم، كانوا صادقين وآمنوا قبل حضور الموت، وغيرهم

(1)

مجاز القرآن (1/ 284).

(2)

تفسير غريب القرآن (ص 200).

(3)

معاني القرآن (3/ 34).

(4)

معاني القرآن (1/ 479).

(5)

إلى هنا انتهى النقل عن زاد المسير.

ص: 378

إما أن يكون كاذبًا في إيمانه كقوم فرعون، وإما أن يؤمن بعد حضور الموت، كالذين قال تعالى فيهم:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85]، والذين قال فيهم:{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 5]، وقوله:{فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 12 - 15]، فهؤلاء لم يؤمنوا. وكذلك قوله:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، فهؤلاء إما أنهم لم يتوبوا أو حضر الموتُ الذي لا يندفع.

وقد ذكر ابن الأنباري

(1)

في الآية قولين آخرين فاسدين:

أحدهما: أن {إِلَّا} بمعنى الواو، فالمعنى: وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا. قال: وهذا مروي عن أبي عبيدة

(2)

، والفراءُ

(3)

ينكره.

والثاني: أن الاستثناء من الآية التي قبلها، تقديره: حتى يروا العذاب الأليم إلَّا قوم يونس. والاستثناء على هذا متصل غير منقطع.

(1)

نقل عنه ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 65).

(2)

مجاز القرآن (1/ 282).

(3)

مجاز القرآن (1/ 489).

ص: 379

قلت: هذا في غاية الفساد، فإن ذاك من كلام موسى، قال:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]، وهو دعاء على آل فرعون، كما قال:{رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية [يونس: 88]. ولم يَستثنِ موسى من هؤلاء أحدًا، وقوم يونس ليسوا من قوم فرعون، فأين هذا من هذا؟

والأول أيضًا في غاية الفساد، فإنّ جَعْلَ {إِلَّا} المُخرِجة بمعنى الواو الجامعة استعمالٌ للفظ في نقيض معناه، وهذا فاسدٌ. وأبو عبيدة له من هذا الجنس أقوال فاسدة، وهذا مما يعلم أئمة النحاة أنه منكر، فالبصريون كلهم ينكرون ذلك، وقد أنكره الفراء وغيره من الكوفيين. وقد ذكر نحو هذا في قوله:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]

(1)

، وهو فاسد من وجوه متعددة. والله أعلم.

فصل

وقد دلت الآية على أن كل من آمن وتاب بعد نزول العذاب نفعَه إيمانُه، وأما من لم يتب أو تاب توبةً كاذبةً فهذا لا ينفعه. وأما التوبة عند

(1)

كلام أبي عبيدة على هذه الآية وأن {إِلَّا} هنا بمعنى الواو في مجاز القرآن (1/ 60). وردّ عليه الطبري في تفسيره (2/ 688).

ص: 380

حضور الموت فهي كالتوبة يوم القيامة، قال تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]، وقال:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 86 - 91]. وقد فسّروا ازديادهم كفرًا بأنهم أصرُّوا عليه إلى الموت، فلن تُقبل توبتُهم عند الموت، وذلك ــ والله أعلم ــ لأنه حين الموت وقع مبادئ الجزاء، فلم يكن ثمَّ زمنٌ يتسع لأنْ يرجعوا عن السيئات، فتنقص أو تذهب، بل حصلت بالإصرار في زيادة بلا نقصان. ولو تاب أحدهم قبل الموت لم يكونوا قد ازدادوا كفرًا، بل ذهب الأصل والزيادة، فإنهم بدَّلوا السيئات بالحسنات، وأما عند الموت فقد ازدادوا بالإصرار، ولم يكن هناك وقت يذهب، لا هذا ولا هذا.

فقوله: {ثُمَّ ازْدَادُوا} في معنى قوله: واستمروا على كفرهم وأصرّوا على كفرهم، ونظيرها قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ

ص: 381

آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137]، فهنا قال:{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ، وهناك قال:{لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} ، فإنه لو آمن ثم كفر ثم آمن وتاب من رِدَّته قُبِلتْ توبتُه كما تقدَّم، فإن كَفَر وارتدَّ مرةً ثانيةً حَبِطَ الإيمان الذي غُفِر به ذلك الكفر، فيبقى عليه إثم الكفر الأول والثاني، فإذا ازداد كفرًا فأصرَّ إلى الموت لم يُغفَرْ له. وقد ذكر في أول السورة الذي ازداد كفرًا بعد الكفر الأول، فذكر الكفر الأول والمكرر إذا حصل معهما ازدياد، ولما قال هناك: لم تُقبل توبتُهم عند الموت كان هذا تنبيهًا على أن الثاني لا تُقبل توبتُه بطريق الأولى. ولما ذكر في الثاني أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا، كان مفهومه أنهم لو تابوا قبل الارتداد لَقُبِلَتْ توبتهم وإن كرروا الكفر. فدلَّ على أن قوله في الأولى:{ازْدَادُوا} أراد به الإصرار، فإنه لو لم يرد به الإصرار لكان من كفر بعد إيمانه وبقي مدةً ثم تابَ لم تُقبل توبتُه، وهذا خلاف قوله قبل ذلك:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89]، وخلاف مفهوم آية التكرير، ولو كان كل مرتد بقي مدةً لا تُقبَل توبتُه لم يحتج إلى التكرير.

فإن قيل: ازدياد الكفر أن يأتي مع الردّة بزيادة في الكفر يغلظ به الكفر، فتكون رِدَّتُه مغلَّظةً، كردّة مِقيَس بن صُبابة وعبد الله بن خَطَل

ص: 382

اللذين

(1)

أُهدِر دمُهما يوم الفتح.

قيل: هذا من مسائل الاجتهاد، والكلام فيه مبسوط في غير هذا الموضع. والذين أتاهم العذابُ وبقي زمنًا حتى ماتوا، كقوم نوح لما شرع الماء يزيد لو تابوا كما تاب قوم يونس لقَبِلَ الله توبتَهم، لكن لم يتوبوا. وكذلك قوم عادٍ لما رأوا السحابَ فقالوا:{هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]، فهبَّت الريح سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حُسومًا، لم يتوبوا. وكذلك قوم صالح لما عقروا الناقة قال:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] لم يتوبوا.

فإن قيل: فقد قال: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء: 157 - 158].

قيل: وقد قال عن أحد ابنَي آدم: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31]، ولم يكن هذا ندمَ توبة، كذلك أولئك قالوا: وقد يقال: كانوا موعودين بالعذاب إذا عقروها، وعذاب الدنيا لا يندفع بمثل هذه التوبة، فإن قوم موسى لما تابوا من عبادة العجل كانت توبتهم بقتل خلقٍ كثير منهم. وكذلك لما سألوا الرؤية جهرةً فأخذتهم الصاعقة وهم لم يتوبوا إلّا خوفًا من عذاب الدنيا.

أو يقال: كانت توبتهم من جنس توبة آل فرعون، إذا جاءهم العذاب

(1)

في الأصل: الذي الخطل.

ص: 383

تابوا، فإذا رُفِع نكثوا التوبة. فقوله:{نَادِمِينَ} لا يدل على توبة صادقة ثابتة.

وكذلك قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 11 - 15]. فهو لم يذكر عنهم توبة، ولكن إخبارهم بأنهم ظالمون، والكفار والعصاة معترفون أنهم ظالمون مع الإصرار، وإبليس معترف أنه عاصٍ لربه مع إصرارِه، وفرعون كان يعلم أن موسى صادق مع إصراره، ومجرد العلم بأنه مذنب ليس توبة، إنما التوبة رجوع القلب عن الذنب إلى الله تعالى وطاعتُه.

وكذلك قوم شعيب لما أخذتْهم الظُّلَّة لم يتوبوا، وكذلك قوم لوط لما جاءهم العذاب لم يتوبوا. والتوبة عند نزول العذاب كثيرًا ما تكون غير صادقة، بل يتوب إلى أن ينكشف، ثم يعود، كتوبة آل فرعون باللسان من غير عملٍ بموجبها، بل مع الكذب.

ولهذا لم يقبل أكثر العلماء توبةَ الزنديق في الظاهر؛ لأنه لا يُعلَم صدقُه، وهو ما زال يُظهِر الإيمان، فلم يجدِّد شيئًا يُعرَف به صدقُه، وهو منافق، ولم ينتهِ عن إظهار النفاق. وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا

ص: 384