الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله وحده لا شريك له، فإن الجن والإنس خُلِقوا لذلك، لكن
لا يتم ذلك إلّا بدفع المكروه
، والأول قوة الرزق والثاني قوة النصر، ولا غِنًى لأحدهما عن الآخر، فإن اندفاع المكروه بدون حصول المحبوب عدمٌ، إذ لا محبوب ولا مكروه، وحصول المحبوب والمكروه وجودٌ فاسدٌ، إذ قد حصلا معًا، وهما متقابلان في الترجيح، فربَّما تختار بعضُ النفوس هذا وتختار بعضُها هذا، وهذا عند التكافؤ.
وأما المكروه اليسير مع المحبوب الكثير فيترجح فيه الوجود، كما أن المكروه الكثير مع المحبوب اليسير يترجح فيه العدم. لكن لما كان المقتضي لكل واحدٍ من المحبوب والمكروه الذي هو الخير والشرّ موجودًا، وبتقدير وجودِهما يحصل الضرّ كالرزق مع الخوف، صار يعظم في الشرع والطبعِ دفعُ المكروه، أما في الشرع فبالتقوى، فإن اسمها في الكتاب والسنة والإجماع عظيم
(1)
، والعاقبة لأهلها والثواب لهم. وأما في الطبع فتعظيم النفوس لمن نصرهم بدفع الضرر عنهم من عدوّ أو غيره، فإن أهل الرزق معظِّمون لأهل النصر أكثر من تعظيم أهل النصر لأهل الرزق. وذلك ــ والله أعلم ــ لأن النصر بلا رزقٍ ينفع، فإن الأسباب الجالبة للرزق موجودة تعملُ عملَها، وأما الرزق بلا نصرٍ فلا ينفع، فإن الأسباب الناصرة تابعة.
وفي هذا نظرٌ، فقد يقال: هما متقابلان، فإن أهل النصر يحبون أهل
(1)
في الأصل: "عظيمًا".
الرزق أكثر مما يحبّ أهلُ الرزق لأهل النصر، فإن الرزق محبوب والنصر معظَّم.
وقد يقال: بل النصر أعظم كما تقدم، فإن اندفاع المكروه محبوب أيضًا، وهو لا يحصل إلا بقوة الدفع التي هي أقوى من قوة الجذب، فاختص الناصر بالتعظيم لدفعه المعارضَ، وأما الرازق فلا معارضَ له، بل له موافق، فالناصر محبوب معظَّم.
وقد يُقابَل هذا بأن يقال: وثواب المحبوب مكروه أيضًا، والمحبوب لا يحصل إلا بقوة الجذب، ولا يُسلَّم أن قوة الدفع أقوى، بل قد يكون الجذب أقوى، بل الجذب في الأصل أقوى؛ لأنه المقصود بالقصد الأول، والدفع خادمٌ تابعٌ له. وكما أن الدافع دفعَ المعارضَ فالجاذبُ حصَّل المقتضي، وترجيح المانع على المقتضي غير حق، بل المقتضي أقوى بالقول المطلق، فإنه لابدَّ منه في الوجود. وأما المانع فإنما يحتاج إليه عند ثبوت المعارض، وقد لا يكون معارضٌ. فالمقتضي والمحبة هو الأصل والعمدة في الحق الموجود والحق المقصود، وأما المانع والبغضة فهو الفرع والتابع.
ولهذا كتب الله في الكتاب الموضوع عنده فوق العرش: "إن رحمتي تَغلِب غضبي"
(1)
. ولهذا كان الخير في أسماء الله وصفاته، وأما الشرُّ ففي الأفعال كقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ
(1)
أخرجه البخاري (7404) ومسلم (2751) عن أبي هريرة.
عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]، وقوله:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98].
يبقى أن يُقال: فلِمَ عُظِّمت التقوى؟
فيقال: لأنها هي تحفظ الفطرةَ وتمنع فسادها، واحتاج العبد إلى رعايتها، لأن المحبة الفطرية لا تحتاج إلى تحريك. ولهذا كان أعظم ما دعت إليه الرسلُ الإخلاص والنهي عن الإشراك، لأن الإقرار الفطري حاصل، لوجود مقتضيه، وإنما يحتاج إلى إخلاصه ودفْعِ الشرك عنه. ولهذا كانت حاجة الناس إلى السياسة الدافعة لظلم بعضهم عن بعضٍ، والجالبةِ لمنفعة بعضهم بعضًا، كما أوجبَ الله الزكاة النافعة وحرَّم الربا الضارَّ.
وأصل الدين هو عبادة الله، الذي أصله الحبُّ والإنابة والإعراض عمَّا سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس، وهذه المحبة التي هي أصل الدين انحرف فيها فريقٌ من منحرفة الموسوية من الفقهاء والمتكلمين، حتى أنكروها وزعموا أن محبة الله ليست إلّا إرادة عبادته. ثم كثيرٌ منهم تاركون للعمل بما أُمِروا به، فيأمرون الناسَ بالبر وينسون أنفسهم، وهذا فاشٍ فيهم، وهو عدم المحبة والعمل. وفريقٌ من منحرفة العيسوية من الصوفية والمتعبدين، حتى خلطوها بمحبة ما يكرهه، وأنكروا البغض والكراهية، فلم يُنكروا شيئًا ولم يكرهوه، أو قصَّروا في الكراهة والإنكار، وأدخلوا فيها الصور والأصوات ومحبَّة الأنداد.
ولهذا كان لِغُواةِ الأولين وصفُ الغضب واللعنة الناشئ عن البغض، لأن فيهم البغض دون الحب، وكان لِضُلَّالِ الآخرين وصفُ الضلال والغلو، لأن فيهم محبةً لغير معبودٍ صحيح، ففيهم طلب وإرادة ومحبة، لكن لا إلى مطلوب صحيح ولا مرادٍ صحيح ولا محبوب صحيح، بل قد خلطوا وغَلَوا وأشركوا، ففيهم محبة الحق والباطل، وهو وجود المحبوب والمكروه، كما في الآخرين بغض الحق والباطل، وهو دفع المحبوب والمكروه.
والله سبحانه يهدينا صراطَه المستقيم، فنحمد من هؤلاء محبةَ الحق والاعتراف به، ومن هؤلاء بُغضَ الباطل وإنكاره.
فصل
وباعتبار القوى الثلاث انقسمت الأمم التي هي أفضل الجنس الإنساني، وهم العرب والروم والفرس، فإن هذه الأمم هي التي ظهرت فيها الفضائل الإنسانية، وهم سكان وسط الأرض طولاً وعرضًا، فأما من سواهم كالسودان والترك ونحوهم فتَبَعٌ.
فغلبَ على العرب القوة العقلية النطقية، واشتُقَّ اسمُها من وصفها، فقيل لهم «عرب» من الإعراب، وهو البيان والإظهار، وذلك خاصة القوة المنطقية.
وغلبَ على الروم القوة الشهوية من الطعام والنكاح ونحوهما، واشتُقَّ اسمُها من ذلك، فقيل لهم «الروم» ، فإنه يقال: رُمْتُ هذا أرومُه، إذا طلبته واشتهيته.
وغلبَ على الفرس القوة الغضبية من الدفع والمنع والاستعلاء والرئاسة، واشتُقَّ اسمُها من ذلك فقيل «فُرس» ، كما يقال: فَرَسَه يَفرِسُه إذا قَهَره وغَلَبه.
ولهذا توجد هذه الصفات الثلاثة غالبةً على الأمم الثلاث حاضِرَتِها وبادِيَتِها، ولهذا كانت العرب أفضل الأمم، ويليها الفرسُ؛ لأن القوة الدفعية أرفع، ويليها الروم.
فصل
وباعتبار هذه القوى كانت الفضائل ثلاثًا:
فضيلة العقل والعلم والإيمان التي هي كمال القوة المنطقية.
وفضيلة الشجاعة التي هي كمال القوة الغضبية، وكمال الشجاعة هو الحِلْم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس الشديدُ بالصُّرَعَةِ، وإنما الشديد الذي يَملِكُ نفسَه عند الغضب»
(1)
. والحلم والكرم مَلْزُوزَانِ في قَرَنٍ، كما أن كمال القوة الشهوية العفة. فإذا كان الكريم عفيفًا والشجاع حليمًا اعتدلَ الأمر.
وفضيلة السخاء والجود التي هي كمال القوة الطلبية الحُبِّية، فإن السخاء يَصدُر عن اللين والسهولة ورطوبة الخلق، كما تَصدُر الشجاعةُ عن القوة والصعوبة ويُبْسِ الخلق.
فالقوة الغضبية هي قوة النصر، والقوة الشهوية هي قوة الرزق، وهما المذكوران في قوله:{أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]. والرزق والنصر مفسران في الكتاب والسنة وكلام الناس كثيرًا.
وأما الفضيلة الرابعة التي يقال لها العدالة فهي صفة منتظمةٌ للثلاث، وهو الاعتدال فيها. وهذه الثلاث الأخيرات هي الأخلاق
(1)
أخرجه البخاري (6114) ومسلم (2609) عن أبي هريرة.