الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
الحروف والأصوات المكتوبة والمسموعة ــ سواء جمعَ الوصفين كالحرف المسموع، أو أحدهما كالحرف المكتوب والصوت الذي ليس بحرف ــ إذا كانت متعلقةً بالدين فلا تخلو عن ثلاثة أقسام:
إما أن تكون سببًا للإيمان.
وإما أن تكون سببًا للكفر.
وإما أن تكون مجملةً تَصلُح لهذا ولهذا.
ف
الأول كلام الله وكلام رسله وأنبيائه وخلفائهم
بلفظه ومعناه، فإن السامع إذا سمع القرآن كان سماعه سببًا للهدى، فيوجب الهدى إذا لم يكن مانع. وإذا نظر فيه وتدبَّره كان ناظرًا في دليلٍ هادٍ يُوصله إلى العلم والمعرفة إذا كان النظر صحيحًا. فأهل النظر من أهل العلم والكلام إذا كان نظرهم فيه وكلامهم منه اهتدَوا، وأهل السماع والوجد إذا كان سماعهم له ووَجْدُهم به رشدوا؛ ولهذا حضَّ سبحانه على تدبره وعلى سماعه، فهو أحسن الحديث وخير الكلام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«زيِّنوا القرآن بأصواتكم»
(1)
، وقال: «للّهُ أشدُّ أَذَنًا إلى الرجل الحسنِ الصوتِ
(1)
أخرجه أحمد (4/ 283) وأبو داود (1468) والنسائي (2/ 179، 180) وابن ماجه (1342) عن البراء بن عازب. وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (749) والحاكم (1/ 572).
بالقرآن من صاحِب القَينةِ إلى قَينتِه»
(1)
.
وأما النوع الثاني فالكلام المتضمن للكفر والنفاق، لاسيما إذا زُخرِف بالعبارات والشُّبهات، وحُسِّن باللحون والأصوات، من نظمٍ ونثرٍ، مثل كلام القرامطة والإسماعيلية، وكلام التلمساني نظمه ونثره، وكلام ابن سبعين والبلياني وغيرهم من الملاحدة؛ فإن حروفهم سبب لاعتقاد الضلال، وهو اعتقاد أن الله هو المخلوقات، وأنه ليس وراء المخلوق خالقٌ خَلَقَه متميزٌ عنه، كحقيقة قولِ فرعون والقرامطة من جحود خالقِ الخلقِ؛ لكن فرعون نفاه بقوله ظاهرًا وباطنًا، فهو أكفر من هذا الوجه، ومن جهة أنه كان معاندًا جاحدًا. وهؤلاء قد يكون أحدهم ضالًّا يعتقد أنه على هدًى. ففرعون أكفر منهم من جهة أنه نفاه مطلقًا، وأنه كان معاندًا في نفيه وجحوده مستكبرًا عليه.
وهؤلاء قد يكون أحدهم مُقِرًّا بوجوده ومعتقدًا أنه هو الذي يثبته، ويحسب أنه مهتدٍ في ذلك وأن هذا هو دين الأنبياء، لكن هؤلاء أضرُّ على الأمة من فرعون؛ لأنهم يرون أن هذا دين الأنبياء. وفرعون كان
(1)
أخرجه أحمد (6/ 19) والحاكم في المستدرك (1/ 570، 571) والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 230) عن فضالة بن عبيد، وإسناده ضعيف، فإن إسماعيل بن عبيد الله لم يدرك فضالة بن عبيد، فهو منقطع. وبينهما ميسرة مولى فضالة عند أحمد (6/ 20) وابن ماجه (1340) وابن حبان (754). وهو مجهول، ومع ذلك حسَّن إسناده البوصيري في الزوائد.
أعلم منهم، لكن علمه ضار، فإنه كان مستيقنًا بأن للعالمين رب
(1)
، كما قال له موسى:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102]، لكن كان مع علمه معاندًا، فهو أصحّ منهم علمًا وأعظم كفرًا وعنادًا. وهؤلاء أضرُّ منه على الأمة لكن فيهم نوع من الإيمان والإقرار. وقد يكون لما جحد فرعون فهم ضالون لا جاحدون.
وهؤلاء أقرُّوا باسمه وبالتعبد له، وجعلوه هو المخلوقات، وهي إياه، وصرَّحوا بأن من عبدَ الشمسَ والقمرَ والطواغيتَ فما عبد إلا الله، ولا يُتصور أن يُعبَد إلّا الله، وأن العابد هو المعبود ولكن دار على نفسه. وزعموا أنه هو الذي جاءت به الرسل والأنبياء وكبار العارفين، فهم من هذا الوجه أضرُّ على الناس من فرعون. كما يذكره ابن العربي في «فصوص الحكم» ، ويذكره القونوي في «مفتاح غيب الجمع والوجود» ، وكما يذكره العفيف في «شرح الأسماء الحسنى» وفي «شرح قصيدة ابن الفارض» وفي أشعاره. وإن كان ابن العربي يرى أن المعدوم شيء ثابت في العدم، كقول من يقول ذلك من المعتزلة والرافضة، ويرى أن عين وجود الحق فاض عليهم، فيرى أن وجود الكائنات عين وجود الحق، وأن الناكح هو المنكوح، والشاتم هو المشتوم. وكما قال بعضهم: من قال لك إن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له صاحبه: من الذي كذب؟
(1)
كذا في الأصل.
وقد يُبتلى ببعض ذلك حالًا بعض جهال المتصوفة والمتعبدة، فإنهم لما توجهوا بقلوبهم إلى الله وذكروه وأحبوه شهدت قلوبهم الوجود العام بالمخلوقات الصادر عن الحق الذي خلق السموات والأرض، فاعتقدوا أن هذا الحق المخلوق هو الحق الخالق، فأشبهوا من بعض الوجوه مَن رأى شعاعَ الشمس فظنّ أنها هي الشمس، أو رأى الظلَّ فظن أنه الشخص.
وأما صاحبه الصدر الرومي فيرى أن الله هو الوجود المطلق الساري في الكائنات، لا يفرق بين الوجود والماهية، ولا الفائض والمفيض عنه، لكن ليس هو عين كل موجود، فإن المطلق ليس هو المعيَّن. وهذا تعطيل محض، وهو حقيقة مذهب فرعون والقرامطة. وأما الأول ففيه قسط من ذلك.
وصاحبه التلمساني ونحوه لا يفرق بين مطلق ومعين، ولا بين وجود وماهية، بل عنده أن نفس الأكوان هي الله، وهي أجزاء منه وأبعاض له، بمنزلة أمواج البحر مع البحر، وأجزاء البيت من البيت.
فما البحر إلّا الموج لا شيء غيره
…
وإن فرَّقتْه كثرةُ المتعددِ
(1)
فهؤلاء في الكفر الصريح، وهم أهل الإلحاد والاتحاد العام، بخلاف من قال بالاتحاد الخاص المقيّد في نبي أو غير نبي، كالنصارى وغالية الرافضة وغالية جهال المتعبدة من الحلَّاجية واليونسية وبعض العدوية
(1)
البيت في مجموع الفتاوى (2/ 169) وعزاه إلى التلمساني ومن نحا نحوه.
والحاكمية وغيرهم؛ فإن هؤلاء يقولون بالاتحاد المعيَّن المقيّد.
ثم مع كل فريق من أهل الاتحاد المطلق والمعين فريقًا ثانيًا
(1)
يقولون بالحلول، أما الحلول المطلق ــ وهو قول من يقول: إن الحق حالٌّ في الأماكن كلها ــ فهذا كفر قديم في الأمة من كفر الجهمية الذين كان السلف ينكرون قولهم، وهم الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان؛ فإن هؤلاء الحلولية إخوان هؤلاء الاتحادية. أولئك قالوا: هو في جميع المصنوعات، وهؤلاء قالوا: هو نفس المصنوعات.
وهؤلاء الاتحادية المطلقة والحلولية المطلقة إنما أوقعهم في ذلك عدم إثباتهم لما جاءت به الرسل من ربّ العالمين، الذي فوق الخلق، الذي استوى على العرش، فإنهم تجهموا في أنه ليس فوق العالم ولا داخلَه ولا خارجَه ونحو ذلك من الصفات السلبية التي رأوها منطبقةً على الوجود المطلق، وهم عُبَّاد لابدَّ لقلوبهم من شيء تعبده، فلم يجدوا ما يطابق هذه السُّلوب إلا وجود المخلوقات.
وأما المتكلمة الجهمية فإنهم في العلم والكلام ......
(2)
، والعلم يتناول الموجود والمعدوم، فإذا وصفوه بهذه السلوب وكانت إنما تطابق المعدوم لم يَضُرَّهم إذا كان الذي أثبتوه معدومًا، فإنهم لا يعبدون شيئًا،
(1)
كذا في الأصل منصوبًا.
(2)
هنا كلمة غير واضحة.
كما أخبر السلف بذلك عنهم. فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئًا، ومتعبدتهم يعبدون كل شيء.
ولقد كان في مبدأ دولة التتار: ابن الخطيب متكلم المعطلة والجهمية والزنادقة، وابن العربي متصوفهم وعارفهم، فاتفقا على جحد ربّ العالمين الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل، وإن كانوا قد أقروا بما ظنوا أنه هو، وحاروا فيه، فإن الحيرة ظاهرة عليهم، لما هم فيه من التناقض. واختلفا بعد ذلك. فالأول أثبت العالم لكن بالكلام الباطل، والثاني لم يثبت العالم لكن بالعقل الفاسد.
فتدبَّر هذا واجمعه مع ما قدَّمتُه من القواعد يتبيَّن لك الأمر. والله أعلم.
وكذلك أهل الحلول الخاص إخوان أهل الاتحاد الخاص، كما افترقت النصارى في المسيح، فإن النسطورية قالوا بحلول اللاهوت في الناسوت، واليعقوبية قالوا باتحاد اللاهوت والناسوت، والملكانية قالوا بالاتحاد من وجه دون وجه. الأولون شبَّهوه بالماء في الإناء، والآخرون شبَّهوه بالماء واللبن، والملكانية شبَّهوه بالنار في الحديد، فقالوا: هما جوهر واحد وأقنومان.
ثم هؤلاء أهل الاتحاد المخصوص يحتاجون أن يقولوا: إن الرب والعبد اتحدا بعد أن كانا اثنين، وأن اللاهوت اتحد أو امتزج أو اختلط أو اتصل بالناسوت بعد أن لم يكن كذلك.
وأما أهل الاتحاد المطلق فإن لفظة الاتحاد عندهم ليست مطابقة
لمذهبهم؛ فإنه
(1)
عندهم ما زال واحدًا ولا يزال، لم يكن شيئان فصار واحدًا، ولكن كانت الكثرة والتفرق في قلب الإنسان لما كان محجوبًا عن شهود هذه الحقيقة، فلما انكشف الحجاب عن قلبه شهد الأمر، فالمراتب في اعتقاده وخياله، وأما الكثرة والتفرق الموجود في الخارج فهو عندهم بمنزلة أجزاء الكلّ أو جزئيات الكلّي، كما تقدم.
وهؤلاء إذا أُنْشِد شعرُ بعضهم بصوت ملحَّن كشعر التلمساني وبعض شعر ابن إسرائيل، مثل قوله:
وما أنتَ غيرَ الكونِ بل أنتَ عينُه
…
ويَفْهم هذا السرَّ من هو ذائقُ
(2)
وقوله:
وتلتذُّ إن مرَّتْ على جسدي يدي
…
لأنِّيَ في التحقيقِ لستُ سِواكمُ
(3)
كان هذا من سماع الذي هو سبب الكفر.
وأما المجمل من الحروف والأصوات فمثلُ كثيرٍ من المنطق والكلام، ومثل الأشعار التي فيها ذكر الحب مطلقًا بتوابعه من الهجر والوصل والصدود والشوق، مثل كثير من شعر ابن الفارض؛ فإن تلك القصيدة يتقبلها الزنديق التلمساني ونحوه ممن يقول: إن الله هو وجود
(1)
في الأصل: «فإن» .
(2)
البيت في فوات الوفيات (3/ 384). وأورده المؤلف في مجموع الفتاوى (2/ 80).
(3)
أورده المؤلف في الموضع السابق.