الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وصف الله أفضلَ أهل السعادة بالإيمان
والهجرة والجهاد
فصل
وصفَ الله أفضلَ أهلِ السعادة بالإيمان والهجرة والجهاد، فقال:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 - 22]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218].
وهذا الوصف باعتبارٍ يختصُّ بالمهاجرين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وباعتبارٍ آخر يَعُمُّ الأنصار، وباعتبارٍ ثالث يعمُّ كلَّ من اتصف بمعنى ذلك إلى يوم القيامة. وذلك أن لفظ «الهجرة» يُراد بها هجرة الوطن، لكن المقصود بها هجرة ما نهى الله عنه، كما ثبت في الصحيحين
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجرَ ما نهى الله عنه» . وهذا مَرْوِيٌّ من عدّة طرق، وفي بعضها:
(1)
البخاري (10) ومسلم (40) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وليس عند مسلم الجزء الأخير من الحديث.
(1)
. وهذا المعنى يثبت للأنصار ولكل مؤمنٍ هجرَ ما نهَى الله عنه إلى يوم القيامة، وهجرة الوطن بدون هذه لا تنفع، وهذه الهجرة بدون هجرة الوطن تنفع. لكن مَن هجرَ مع السيئاتِ المباحاتِ لأجل اللّهِ كهجرةِ دارِه ومالِه وأهلِه، فهذا أكمل. فالهجرة الأولى للمقتصدين، وهذه للمقربين.
ولهذا كان المهاجرون أكمل في هذا الوصف، فخُصُّوا بهذا الاسم، وقُدِّموا على الأنصار. والأنصار خُصُّوا باسم الأنصار، والمهاجرون أنصارهم أيضًا، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14]. وهذا بعد قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]. وكل المؤمنين مخاطَبون بأن يكونوا أنصارَ الله.
وقد قال في صفة المهاجرين: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، فوصف المهاجرين بأنهم ينصرون الله ورسوله. لكن الأنصار كانوا في ديارهم وأموالهم، وهم مجتمعون متناصرون، فكانوا أكمل في وصف النصر، إذ كانوا أقدرَ عليه. والمهاجرون ما قدروا على النصر إلا بهم. ويومَ بدرٍ كان ثلاثة أرباع البدريين من
(1)
أخرجه ابن حبان (196) عن عبد الله بن عمرو. وإسناده صحيح.
الأنصار، ويومَ أُحُد أكثر القتلى كانوا من الأنصار، والقُرَّاء السبعون الذين قنت لأجلهم أكثرهم من الأنصار، ويومَ السقيفة، ويوم مُسيلمةَ أكثر القتلى من الأنصار، وكانوا أكمل بهذا الوصف فخُصُّوا به. وإلَّا فالنصرة هي الجهاد، والمهاجرون مجاهدون، ومقصود الهجرة هجر السيئات، والأنصار هجروا السيئات. فلهذا كان قوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [التوبة: 20] يتناول الطائفتين، ويتناول كلَّ من اتصف بذلك إلى يوم القيامة.
وهذا كنظائره إذا ذُكِر الاسم مفردًا يتناول النوعين، وإذا ذُكِر مقرونًا عُطِف أحدُهما على الآخر، كلفظ الإيمان والعمل، والإيمان والإسلام، ولفظ البِرّ والتقوى، والمنكر والفحشاء، وأمثال ذلك كما بُسِط في مواضع
(1)
. فلما ذُكِر لفظ الأنصار مفردًا في قوله: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} يتناول الطائفتين، ولما ذكر الهجرة والجهاد مقرونًا تناول الطائفتين، وإذا جمع بينهما في مثل قوله:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] مُيِّز بينهما. وكذلك في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]. ألا ترى أن الذين آوَوْا ونَصرُوا هم أيضًا آمنوا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (7/ 14).
وأنفسهم، لكن ذُكروا بأخصِّ أوصافهم، وهما الإيواء والنصر، فإن هذا امتازوا به. ثم قال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]، ثم قال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75]. قالت طائفة من السلف
(1)
: هذه تتناول المؤمنين إلى يوم القيامة، كما في سورة الحشر:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].
وهؤلاء التابعون وصفهم بالإيمان والهجرة والجهاد، لأن الناس يكثرون والأنصار يقلُّون، وما بقي بالنسبة إلى أولئك دارٌ يُؤْوُون إليها الرسولَ وأصحابَه. لكن هذا المعنى ثابت لكل من هُوجِرَ إليه من المؤمنين فآوَوا مَنْ هاجرَ إليهم ونصروه، كما أنه قد قال:«لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة»
(2)
، أي من أرض مكة وأرضِ العرب، لأنها صارتْ دارَ إسلام. وقد قال:«لا تنقطع الهجرةُ ما قُوتِلَ العدوُّ»
(3)
أي من دار الكفر، وكذلك النصرة والجهاد لا يزال مأمورًا به إلى يوم
(1)
انظر: تفسير الطبري (22/ 533) والدر المنثور (14/ 383).
(2)
أخرجه البخاري (3077) ومسلم (1353) عن ابن عباس. وفي الباب عن غيره من الصحابة.
(3)
أخرجه أحمد (5/ 270) وابن حبان (4866) والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 17 - 18) عن عبد الله بن وقدان القرشي، وإسناده صحيح.
القيامة. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن لفظ «الهجرة» يتناول هَجْرَ ما نهى الله عنه، وقد قال أيضًا:«المجاهد من جاهدَ نفسَه في ذات الله»
(1)
. ومجاهدة العدو الظاهر والباطن لا بدَّ فيه من احتمال المكروه، وهو ما يحصل للمجاهد من الإيلام، كالظمأ والمخمصة والنَّصَب، وكاحتمال أذى العدوّ بالقول والفعل. قال تعالى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]. بل لابدَّ فيه من احتمال المكروه وبذل المحبوبِ: النفسِ والمالِ والأهل، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]. والسيئات المنهي عنها تشتهيها النفسُ وتُحِبُّها، فهجْرُها هجر محبوبِ النفس.
والمقصود أنه لابدَّ أن يترك المؤمن ما تحبُّه نفسُه لله تعالى، ويحتمل ما تكرهُه نفسُه لله، فبهجْرِ ما تُحِبّه نفسُه لله مما نُهِيَ عنه يكون من المهاجرين، وباحتمالِ ما تكرهه نفسُه لله مما أُمِرَ باحتماله يكون
(1)
أخرجه أحمد (6/ 20، 22) والترمذي (1621) وابن حبان (4706) عن فضالة بن عبيد، وإسناده صحيح.
مجاهدًا لنفسِه ولعدوِّه. ولابدَّ أن يقع العبدُ في الذنوب التي تَفتِنُه، بل قد يقع فيما يَفتِنه عن الدين، قال تعالى:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]. وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]. وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وأمرُهم بهذا هو من أعظم نعمِه عليهم، وإذا يَسَّرهم لهذا فقد أتمَّ النعمةَ عليهم، فإن كلَّ ما يحبّه الإنسان يفارقه بالموت، كما في الحديث:«أحبِبْ من شئتَ فإنك مُفارِقُه»
(1)
. فهو يُفارِقُه بغير اختياره، فإذا فارقه باختياره لله كان أنفعَ له في الدنيا والآخرة. والمكاره التي
(1)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 253) والحاكم في المستدرك (4/ 324، 325) والبيهقي في الشعب (10541) من حديث سهل بن سعد، وفي إسناده زافر بن سليمان، وهو صدوق كثير الأوهام. والحديث حسن لطرقه، وقد حسَّنه المنذري في الترغيب (2/ 11) والحافظ في أماليه كما في فيض القدير (1/ 103). وانظر: السلسلة الصحيحة (831).
تحصُلُ لأهل الإيمان والجهاد يحصُل مثلُها وأعظمُ منها لغيرهم، فإنه لا تتم مصلحةُ أحدٍ إن لم يَنُبْ عن نفسِه وأرضِه، فلابدَّ لكلٍّ إمّا أن يقاتل وإما أن يَذِلَّ لمن يقاتل، فمن لم يقاتل في سبيل الرحمن قاتلَ في سبيل الشيطان، أو كان متهوّرًا مع هؤلاء أو هؤلاء، ومعلومٌ أن كونه عزيزًا خيرٌ من كونِه ذليلًا، ولابدَّ من موتِ الخلق كلِّهم، وخيرُ الموتِ القتلُ في سبيل الله. فلهذا قال:{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52]، كسُنَّته فيمن كذَّبَ الرسلَ، فإنه ينتقم منهم بعذابٍ من عنده، أويُسلِّط عليهم عبادَه المؤمنين، فهو معذِّبهم في الدنيا والآخرة كما يذكر الله، وهنا إنما ذكر عذاب الدنيا، فكان ما أُمِروا به من هَجْر المحبوبات المنهيِّ عنها لله، ومن الجهاد واحتمال المكاره فيها، وبَذْل المحبوب لله، هو غاية السعادة في الدنيا والآخرة.
ولهذا كان الجهاد سَنَامَ العمل، وفي الأثر:«من ترك أن يُنفقَ دراهمَ في سبيل الله أنفقَ مثلَها في طاعة الشيطان، ومن تركَ أن يمشيَ مع أخيه خُطواتٍ لله مشى مثلَها في طاعة الشيطان، ومن ترك الحج لحاجةٍ حجَّ الناسُ ورجعوا وحاجتُه لم تُقضَ»
(1)
. وذلك أن الله تعالى خلق الخلقَ
(1)
أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (5/ 136) عن أبي سعيد الخدري نحوه، وفي إسناده أحمد بن محمد أبو حنش السقطي، قال الذهبي في الميزان (1/ 145):«نكرة لا يُعرف، وأتى بخبر موضوع» . ثم ذكر له هذا الحديث. وانظر: السلسلة الضعيفة (5030).
لعبادتِه، فمن لم يستعمل نفسَه ومالَه في عبادة الله استعملها بغير اختياره في طاعة الشيطان، إذ كان لابدَّ لها من عملٍ، ولا بدَّ للمال من مَصْرف، ولو حفظَه مات عنه، فمالُ البخيل لحادثٍ أو لوارثٍ، لا ينتفع به صاحبُه، كما قال تعالى:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]، فهم يُعذَّبون بها، فتزهق أنفسهم وهم كافرون، فإن النفس المعلَّقة بها لا تُفارِق باختيارها، بل تزهق وهي كافرة، لم يؤمنوا ويعملوا صالحًا.
وأيضًا فالصبر على ما يحصل باختيار العبد، كصَبْرِ الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على ما يُصيبه في ذلك من المكروه، ولو تركَه لم يُصِبْه، وصَبْر المطيع والممتنع عن المعصية إذا أوذي حتى يَعصِيَ، فصبَر على الأذى ولم يَعْصِ، وصَبْر المؤمن على مفارقة محبوبِه باختياره وعلى احتمال المكروه باختياره= هذا الصبر أفضل من الصبر على المصائب التي لا حيلةَ له في دفعها، كالمرض وموتِ الأقارب، والجائحة التي تذهب بالمال، فإن هذا إن يصبْر وإلا فلا فائدةَ له في الجزع، وهو لم يُمكِنْه دفعُها، ولهذا يشترك الناس في هذه المصائبِ، المؤمنُ والكافر. وأما تلك فإنما حصلتْ بسبب إيمانه وطاعته لله ورسولِه، فعلى ذلك أوذِيَ، فبإرادته واختياره حصلَ الأمرُ المكروه الذي يُريد أن يصبر عليه. فهذا أزكَى نفسًا وأعظمُ محبَّةً وصبرًا على طاعته، وأعظمُ تركًا لمحبوباته وفعلًا لمكروهاته لله. ولهذا كان مَنْ
كَمُلَ بهذه الطريق أكملُ مِمَّن كَمُل بتلك من الأنبياء والصالحين، فإن هذا حصل المقصودُ باختياره، وذلك ابتلاه الله بما يحصل المقصود بغير اختياره.
وللنوعين أمثلةٌ، فصبر المصيبة مثلُ صبرِ يوسف على فراق أبيه وأهلِه، واسترقاقِ الغير له، وصبر الاختيار مثل صبره على الحبس لئلا يفعل الفاحشة، فهذا الثاني كان أفضل له، ولهذا نُقِل من الأول إليه، فلما كملَ بالثاني مكَّنَه الله.
ومثال الأول صبر يعقوبَ عن ابنه يوسف، ومثال الثاني صبر الخليل على أن يذبح ابنَه، فإن الخليل كان يذبح بِكْرَهُ، لم يكن له غيرُه، وأراد أن يذبَحه باختياره، فأسلم الأب والابن لله. وهذا أعظم من حالِ إسرائيل، فإنه فُرِّق بينه وبين يوسف بغير اختياره، وصبرَ حتى ردَّه الله عليه. والله تعالى يبتلي كلَّ واحدٍ بحسب حالِه، فالخليل أعظمُ وأفضل، فاحتملَ هذا البلاء الذي لا يحتمله غيرُه لو ابتُليَ به، بخلاف صبر المصيبة، فإن الصبر عليه موجود كثيرًا. وكذلك صبر نوح وهود وصالح وموسى على تكذيب الكفَّار وأذاهم لهم هو من أعظم النوعين، وكذلك صبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومَنْ آمن معه على أذى الكفار لهم بأنواع الأذى، ثم صبرهم لما هاجروا على الجهاد.
هذا الصبر أفضل النوعين، فلا جرمَ كان أهلُه أفضلَ الخلق عند الله، وهذا لا يحتمله كثير من أولياء الله، فيبتليه الله بمصائبَ يصبر عليها ليبلغ
بذلك منزلتَه، مثل ما ابتُلِي عثمانُ، وبشَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تُصِيبه
(1)
. فبهذه البلوى نالَ منزلتَه، إذ لم يكن معه من القوة ما يصبر صبرَ أبي بكر وعمر. وأبو بكر كان أصبرَ من عمر وأعظمَ يقينًا، فلهذا لم يحتجْ إلى مثل الشهادة التي حصلتْ لعمر، وكذلك عليٌّ ثالث الشهداء، أكمل الله بالشهادة أمرَه، وكذلك الحسين وغيرُه، كانت المصائب والشهادةُ في حقِّهم وحقِّ أمثالهم مما أنعمَ الله به عليهم، وبلَّغَهم به من المنازل التي تناسب حالَهم، إذ كان الحسن والحسين لم يحصل لهما من الابتلاء ما حصلَ لأبيهما، لأنهما رُبِّيا في عزّ الإسلام، فابتُلِيا بما رفعَ الله به درجاتهم بحسب حالهم.
وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48 - 49]. وقال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 48 - 50]. وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. فأمره أن يصبر الصبرَ الاختياري كما صبر أولو العزم، فيصبر لحكمِ ربه: الحكمِ الأمري بامتثال أمر ربه في تبليغ الرسالة ودعوة الخلق وبيانِ ما بُعِث به، والحكمِ المقدَّرِ بأن يصبر على تكذيب المكذّبين وافترائهم عليه وعداوتهم له. قال
(1)
أخرجه البخاري (3695) ومسلم (2403) عن أبي موسى الأشعري.
تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31]، وقال:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، فلا يجزع ولا يُغاضب، فيحتاج أن يُبتلى بما يَصبِر عليه صبرَ المصائب. فإن ذا النون:{ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87]، و {أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 40 - 44]. والمسبِّح يتناول من كان مسبِّحًا قبل ذلك، ومن كان مسبِّحًا في بطن الحوت.
{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 145 - 148]. وهذا من أعظم البلوى، وهو صلى الله عليه وسلم صبر على ما أصابه لما ألقي في بطن الحوت، ودعا ربَّه واعترفَ بذنبه فقال:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، قال الله تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]. وقد ثبت في الصحيحين
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى» ، و «من قال: أنا خير من يونس بن متّى فقد كذب»
(2)
.
(1)
البخاري (3413) ومسلم (2377) عن ابن عباس.
(2)
أخرجه البخاري (4604) عن أبي هريرة.
وأما أولو العزم الذين أمر الله نبيّه أن يتأسَّى بهم ولا يتشبَّه بذي النون، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أوذي يقول:«قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر»
(1)
.
وأهل المصائب إنما يكونون صابرين إذا صبروا عند الصدمة الأولى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الصبر عند الصدمة الأولى»
(2)
. وإلا فمن لم يصبْر صبرَ الكرام سَلَا سُلُوَّ البهائم. والعاقل يفعل في أول يومٍ ما يفعله الأحمق بعد ثلاثة أيام.
فالإنسان إذا أوذي على إيمانِه وأمْرِه بالمعروف ونهْيِه عن المنكر وتبليغ رسالات الله وإظهارِ دينِ الله، وذمِّ مَنْ يخالف دينَ اللهِ، كما أوذي الرسلُ وأتباعُهم، كان صبره من القسم الأعلى، مثل صبر الرسل وصبر المهاجرين والأنصار. وكثيرٌ من الناس إذا أوذي على الحق تركه، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 11 - 13].
(1)
أخرجه البخاري (4336) ومسلم (1062) عن عبد الله بن مسعود.
(2)
أخرجه البخاري (1302) ومسلم (626) عن أنس بن مالك.
ثم هؤلاء إذا أُوذوا على الحق فرجعوا عنه، ثم تابوا وجاهدوا في سبيل الله قَبِلَ الله ذلك منهم، قال تعالى لما ذكر المرتدّين طوعًا وكرهًا:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110].
فمن حصل له إيمانٌ وطاعة، ففتَنه شياطينُ الإنس والجنّ حتى رجع عن ذلك، ثم إنه هاجر فهجرَ تلك السيئات، ثم جاهدَ العدوَّ، وصبرَ على الإيمان والطاعة فلم يرجع، وصبرَ على ظلم الظالم له، ثم إنه هجرَ ما له من المباحات للّهِ ليُتِمَّ إيمانَه، فهذا أعلى. قال تعالى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41 - 42].
فهَجْرُ السيئاتِ فرضٌ على كل أحد، وهجرُ المباحات من الوطن والأهل والمال إن لم يَتمَّ الواجبُ إلا به كان واجبًا، وإن لم يتم المستحبُّ إلا به كان مستحبًّا. ولهذا تجب الهجرةُ على من يُمنَع من الواجبات وتُستحبُّ لغيره. وفي الصحيحين
(1)
أن أعرابيًّا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الهجرة، فقال:«ويحَكَ! إن الهجرة شأنُها شديد، فاعملْ من وراء البحار، فإن الله لن يَتِرَك من عمِلك شيئًا» .
(1)
البخاري (2633، 3923) ومسلم (1865) عن أبي سعيد الخدري.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]. وفي حديث بريدة الذي في صحيح مسلم
(1)
وهذه الأمور لبسطِها موضع آخر، والمقصود أن معنى الهجرة العامة هي هجر السيئات، وهجرها بعدَ الدخول فيها هو التوبة، فهذا المعنى يُلْحَظُ في هذا اللفظ. ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلَمُهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمُهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمُهم سِنًّا»
(2)
= جعلَ طائفةٌ من العلماء مما يدخل في تقدم الهجرةِ تقدُّمَ التوبة وتقدُّمَ الإسلام، فإذا كان الرجلان قد أسلم أحدهما قبل صاحبه، أو تاب من السيئات قبلَ صاحبِه، فهذا أقدمُ هجرةً وأركانًا في وطنَيْهما، فإن المقدَّم أسبقُهما إلى الطاعة باختياره، ثم أسبقُهما إلى الطاعة بفعل الله تعالى، وهو كِبَرُ السِّنِّ. والله أعلم.
(1)
برقم (1731).
(2)
أخرجه مسلم (673) عن أبي مسعود الأنصاري.