الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخاف عليكم الرَّمَاءَ. والرماء هو الربا»
(1)
.
وقد
تنازع السلف والخلف في ربا الفضل
، فطائفة من السلف أباحَتْه ولم تُحرِّم منه شيئًا، وهذا مشهور عن ابن عباس، وهو مروي عن ابن مسعود ومعاوية، بل قد رُوي عنه أنه باعَ المَصُوغَ إلى أجلٍ، وبسبب ذلك فارقَهُ عبادة بن الصامت، وذهبَ إلى عمر رضي الله عنه شاكيًا منه
(2)
.
ويَروي عبادة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة
(3)
، وقد قيل: كانوا في غزوة قبرص، وليس كذلك، فإن قبرص إنما غزاها معاوية في خلافة عثمان باتفاق الناس، وكانوا قد استأذنوا عمر فيها، فنهى لأجل ركوب البحر، ثم استأذنوا عثمان فأذِنَ لهم. وفيها تُوفِّيَتْ أمُّ حرام بنت مِلْحان، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغزاة
(4)
، وبها احتجوا على جواز الغزو في البحر، مع ذكره غزو البحر في حديث
(5)
.
لكن شكوى عبادة إلى عمر قد كان قبل ذلك في بعض المغازي،
(1)
مسند أحمد (2/ 109)، والحديث فيه عن ابن عمر لا سعد. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 113): فيه أبو جناب، وهو ثقة، لكنه مدلس.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 355).
(3)
أخرجه مسلم (1587).
(4)
كما في حديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري (2788)، ومسلم (1912).
(5)
ورد في حديث أبي هريرة ذكر ركوب البحر مطلقًا، وقد أخرجه أحمد (237، 361، 393)، وأبو داود (83) والترمذي (69) والنسائي (1/ 50، 176) وابن ماجه (386، 3246)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
فإن معاوية فتح قَيْسَاريةَ، وكانت مدينة بالساحل عظيمة، ولعلّ النزاع كان فيها، وقد غنم المسلمون آنيةً من ذهب وفضة، فصار في الخُمُسِ منها ما صار، فباعَهم معاوية ذلك إلى العطاء. فصار بيع الإناء الذي وزنُه عشرون درهمًا بثلاثين درهمًا لأجل صيغتِه، والناس رغبوا في ذلك؛ لأنه إلى العطاء مؤخر عنهم، ويأخذون ذلك الساعة وينتفعون بها، فأنكر ذلك عبادة، وتقاولَ هو ومعاوية في ذلك، والقصة مشهورة
(1)
.
ولما أنكر أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة ذلك على ابن عباس، روى أبو سعيد حديث خيبر لما قال له وكيلُه: إنما نبتاعُ الصاعَ من التمر الجَنِيْب وهو جيد التمر، بالصاعين من الجمع وهو المخلوط، فقال:«إنه عين الربا، ولكنْ بِعِ الجمْعَ بالدراهم، ثم ابتَعْ بالدراهم جَنِيْبًا» ، وقال في الميزان مثل ذلك
(2)
.
ثم اتفق الناس على تحريم ربا الفضل في الأعيان الستة التي جاءت بها الأحاديث، وهي من أفراد مسلم
(3)
من حديث عبادة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبِيعُوا حيث شئتم إذا كان يدًا بيدٍ» .
(1)
أخرجها مسلم (1587).
(2)
أخرجه البخاري (4244) ومسلم (1593) عن أبي سعيد وأبي هريرة.
(3)
برقم (1587).
وتنازعوا فيما سوى ذلك على أقوال:
فطائفة لم تُحرِّم ربا الفضل في غيرها، وهذا مأثور عن قتادة، وهو قول أهل الظاهر، وابنُ عقيل في آخر مصنفاتِه رجَّح هذا القولَ مع كونه يقول بالقياس، قال: لأن علل القياس في مسألة الربا عللٌ ضعيفة، وإذا لم يظهر فيه علة امتنع القياس.
وطائفة حَرَّمَتْه في كلِّ مكيلٍ وموزونٍ، كما روي عن عمار بن ياسر، وبه أخذ أحمد بن حنبل في المشهور عنه، وهو قول أبي حنيفة وغيره.
وطائفة حَرَّمَتْه في الطعام وإن لم يكن مكيلًا وموزونًا، كقول الشافعي وأحمد في رواية.
وطائفة لم تُحرِّمْه إلا في المطعوم إذا كان مكيلًا أو موزونًا، وهذا قول سعيد بن المسيّب والشافعي في قول وأحمد في الرواية الثالثة، اختارها الشيخ أبو محمد
(1)
، وهو قريب من قول مالك: القُوت وما يُصلِح القوتَ. وهذا القول أرجح الأقوال.
وقد حكي عن بعض المتأخرين
(2)
أنه يحرم في جميع الأموال، لكن هذا ما علمتُ به قائلًا من المتقدمين.
فنقول: أما الدراهم والدنانير فالعلة فيهما الثمن، بدليل أنه يجوز
(1)
أي ابن قدامة في العمدة (ص 220).
(2)
هو أبو طاهر الرياشي، وسيأتي ذكره في كلام المؤلف.
إسْلافُهما في الموزونات من النحاس وغيره، ولو كان الربا جاريًا في النحاس لم يُبَع موزونٌ بموزونٍ إلى أجلٍ، كما لا يُباعُ تمرٌ بحنطةٍ ودراهمُ بدنانيرَ إلى أجلٍ، وهم يسلِّمون أن هذا خلاف القياس، والعلة إذا انتقضت من غير فرقٍ عُلِمَ أنها علة باطلة. وأيضًا فالتعليلُ بكونِه موزونًا أو مطعومًا عللٌ ليس فيها ما يُوجِب الحكم، بل طردٌ محض، كما بُسِط في غير هذا الموضع.
ولكن الدراهم والدنانير هي أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يُعرَف تقويمُ الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا، لا تُرفع قيمته ولا تنخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسِّلعَ لم يكن لنا ثمنٌ نعتبر به المبيعاتِ، بل الجميع سِلَعٌ، والحاجة إلى أن يكون للناس ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة عامة، فإنه قد يحتاج إلى بيع ثمنٍ بغير إذنِ صاحبه، فلا يُباع إلا بثمن المثل، كتقويم الشِّقْصِ على من أعتقَ نصيبَه. والناسُ يشترون بالسعر شراءً عامًّا، فإنْ لم يكن سِعرٌ لم يُعرَف ما لبعضهم عند بعضٍ، وقد يُقوِّمون بينهم عُروضًا وغيرها ممن لا تعدل فيه الأنصباء إلَّا بالقيمة.
ففي الجملة الحاجةُ إلى التقويم في الأموال حاجة عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تُعرَف به القيمة، وذلك لا يكون إلا إذا كان هناك ثمنٌ تُقوَّمُ به الأشياءُ وتُعتَبَر، وذلك إنما يكون إذا كان ذلك الثمن باقيًا على حالٍ واحدةٍ لا تزدادُ فيه القيمة ولا تنقُصُ.
وقد حُرِّمَ فيهما ربا النَّسَاءِ لما فيه من الضرر كما تقدم، ولو أُبِيحَ ربا الفضل، مثل أن يبيعوا دراهمَ بدراهمَ أكثر منها، مثل أن يكون محتاجًا إلى دراهم خفافًا وأنصَافًا ومكسَّرةً فيشتريها، فلا يبيعه الصيرفي إلا بفضل باقٍ يأخذ منه من الصحاح أكثر من وزنها= صار ذلك تجارةً في الثمن، ومتى اتَّجروا فيها نقدًا تذرَّعوا إلى التجارة فيها نسيئةً. ولو أبيحت التجارة في الأثمان مثل أن يبيع دراهم بدراهم إلى أجل، لصارت الدراهم سلعةً من السلع، وخرجت عن أن تكون أثمانًا، فحرم فيها ربا الفضل، لأنه يُفضِي إلى ربا النَّسَاء، وربا النَّسَاء فيها يَضرّ وإن اختلفت بالصفات، لأنه يُخرِجها عن أن تكون أثمانًا.
وإذا وقعت فيها التجارة قصدت صفاتها، فيقصد كلُّ واحدٍ ادخارَ ما يرتفع ثمنُه في وقت، كما يصنعون بالدراهم إذا كانت نقودًا ينقون خيارها، وكما يصنعون بالفلوس أحيانًا. وهذا كلُّه مما نُهِي عنه في الأثمان، فالأثمان المتساوية متى جُعِلَ بعضُها أفضلَ من بعضٍ حصلَ الفسادُ، بل لابدَّ أن لا تُقصَد لأعيانها، بل يُقصَدُ التوسُّلُ بها إلى السِّلَع. والناس كلُّهم يشتركون في التوسّل بها، وهي دائرة بين الناس بمنزلة العلامة، ولهذا في بعض البلاد يتخذون أثمانًا من نوع آخر، وهذا معنًى معقولٌ في الأثمان مختصٌّ بها، فلا يتعدّى إلى النحاس والحديد والقطن والكتَّان؛ فإنه لا فرقَ بين تلك وبين غيرها، بل المطعومات أشرف منها.
وأما الأصناف الأربعة فالناس محتاجون إلى القُوتِ، كالأصناف
الأربعة وكما يشابهها من المكيلات، فمن تمام مصلحة الناس أن لا يُتَّجَر في بيع بعضها ببعضٍ؛ لأنه متى اتُّجِرَ في ذلك خَزَنَها الناسُ، ومنعوا المحتاجَ منها، فيُفضِي إلى أن يَعِزَّ الطعام على الناسِ، ويتضررون بتقليل الانتفاع به، وهذا هو في بيع بعضها ببعضٍ إلى أ جل. فإنه متى بيعت الحنطة بالحنطة إلى أجل، أو التمر بالتمر، أو الشعير بالشعير أو نحوه، سمحت الأنفس ببيعها حالَّةً طمعًا في الربح إذا بيعت إلى أجل، وإذا لم تُبَعْ حالَّةً تضرر الناس، بل حينئذٍ لا تباع إلا بزيادة فيها، فيضر الناس. بخلاف بيعها بالدراهم، فإن من عنده صنف منها هو محتاج إلى الصنف الآخر، فيحتاج أن يبيعه بالدراهم ليشتري به الصنف الآخر، أو يبيعه بذلك الصنف بلا ربح. وعلى التقديرَيْن يحتاج إلى بيعه حالًّا، بخلاف ما لو أمكنه التأخر، فإنه يمكنه أن يبيعه بفضلٍ ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضلٍ؛ لأن صاحب ذلك الصنف يُربي عليه كما أربَى هو على غيره، فيتضرر هذا ويتضرر هذا مِن تأخُّر هذا ومِن تأخُّر هذا. فكان في التجارة فيها ضررًا عامًّا
(1)
، فنهي عن بيع بعضها ببعضٍ نساءً، وهذا من ربا النسيئة، وهو أصل الربا.
لكن هنا النسيئة في صنفين معلَّلين، وهو كبيع الدراهم بالدنانير نَساءً، وهذا من ربا النسيئة، وهو ما ثبت تحريمه بالنصّ والإجماع. فربا النسيئة يكون في الصنف الواحد، وفي الصنفين اللذين مقصودهما
(1)
كذا في الأصل منصوبًا. والوجه الرفع.
واحدٌ، كالدراهم مع الدنانير، وكالأصناف الأربعة التي هي قوت الناس.
وأما ربا الفضل فإذا باع حنطة بحنطة خير منها مدّ بمدّين، كان هذا تجارة فيها، ومن سوَّغ التجارة فيها نقدًا طلبت النفوس التجارة فيها نَساءً كما تقدم في النقدين، وإن لم يشترطوا ذلك بل قد يتعاقدان على الحلول.
والعادة جارية بأنك تصبر عليَّ كما هو الواقع في كثير من السِّلع، وكما يفعل أرباب الحِيَل، يطلقون العقد وقد تواطأوا على أمر آخر، كما يطلقون عقد نكاح التحليل وقد اتفقوا على أنه يطلّق، ويطلقون البيع على بيع الفضة بالفضة وقد اتفقوا على أنه باذل عنها ذهبًا، واتفقوا على أنه يبيعه السِّلعةَ إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن، ومثل ذلك كثير.
كذلك يطلقون بيع الدراهم بالدراهم على أنها حالة، ويؤخر الطلب لأجل الربح. فكان يحرم ربا الفضل؛ لأنه ذريعة إلى ربا النَّساء، كما جاءت هذه العلة منصوصة عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، فإني أخافُ عليكم الرَّماءَ، والرماء هو الربا»
(1)
، وإلّا فمعلوم أنه مع استواء الصفاتِ لا يبيع أحدٌ مُدَّ حنطةٍ أو تمرٍ مُدًّا بمدٍّ يدًا بيدٍ، هذا لا يفعله أحد. وإنما يُفعَل هذا عند اختلاف الصفات، مثل أن يكون هذا جيدًا وهذا رديئًا، أو هذا جديدًا وهذا عتيقًا، وإذا اختلفت الصفات فهي
(1)
سبق تخريج الحديث.
مقصودة، ولهذا يجب له في القرض مثل ما أ قرضه على صفته، وكذلك في الإتلاف، لأنه في القرض لم يقصد البيع، وإنما قصد نفعه، فهو بمنزلة العارية. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«منيحة الورق»
(1)
، ويقال فيه: أَعِرْني دراهمك، فهو يستعير تلك الدراهم ينتفع بها مدة ثم يردُّها، وعينها ليست مقصودة، ويرد جنسها، كما في القراض يرد رأس المال، ثم يقتسمانِ الربح، وعين ما أعطاه ليس مقصودًا، بل المقصود الجنس. فهذه أمورٌ معقولة جاءت بها الشريعة في مصالح الناس.
ولما خفيت علة تحريم الربا أباحه مثلُ ابن عباس حبر الأمة ومثلُ ابن مسعود، فإن الحنطة الجيدة والتمر الجيد يقال لصاحبه: ألْغِ صفاتِ مالك الجيدة، لكن لما كان المقصود أنك لا تتَّجر فيها لجنسها، بل إنْ بِعْتَها لجنسها فلتكن بلا ربح ولا إلى أجل ظهرت الحكمة، فإن التجارة في بيعها لجنسها تُفسِد مقصودَ الأقوات على الناس. وهذا المعنى ظاهر في بيع الدراهم بالدراهم، وفي بيع التِّبر بالدراهم، لأن التبر ليس فيه صنعةٌ تُقصَد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قُصِد أن لا تفضل على جنسها، ولهذا جاء في الحديث:«تِبْره وعينُه سواء»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (4/ 285، 296، 300، 304) والترمذي (1957) من حديث البراء بن عازب. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(2)
أخرجه أبو داود (3349) والنسائي (7/ 276) من حديث عبادة بن الصامت.
فصل
وأما المصوغ من الدراهم والدنانير، فإن كانت صياغة محرمةً كالآنية، فهذه يحرُم بيعُ المصاغة لجنسها وغير جنسها، وبيعُ هذه هو الذي أنكره عُبادةُ على معاوية.
وأما إنْ كانت الصياغة مباحةً، كخواتيم الفضة، وكحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها من الفضة، وما أبيح من الذهب عند مَن يرى ذلك= فهذه لا يبيعها عاقلٌ بوزنها، فإن هذا سفَهٌ وتضييعٌ للصنعة، والشارع أجلُّ من أن يأمر بذلك، ولا يفعل ذلك أحدٌ البتة إلا إذا كان متبرعًا بدون القيمة. وحاجة الناس ماسَّةٌ إلى بيعها وشرائها، فإنْ لم يُجَوَّز بيعُها بالدراهم والدنانير فسدتْ مصلحة الناس.
والنصوصُ الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في هذا، فإن أكثرها إنما فيه الدراهم والدنانير، وفي بعضها لفظ الذهب والفضة. وجمهور العلماء يقولون: لم يدخل في ذلك الحلية المباحة، بل لا زكاة فيها، فكذلك الحلية المباحة لم تدخل في نصوص الربا، فإنه بالصيغة المباحة صارت من جنس الثياب والسِّلع، لا من جنس الأثمان، فلهذا لم يجب فيها زكاة الدنانير والدراهم، ولا يحرم بيعها بالدنانير والدراهم.
ومما يبيِّن ذلك أن الناس كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتخذون الحلية، وكُنّ النساء يَلبسْنَ الحلية، وقد أَمرهنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد أن