الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ثبتَ في الصحيح
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم كلثوم أنه قال: "ليس الكذاب الذي يُصلِح بين الناس، فيَنْمِي خيرًا ويقول خيرًا". وثبت عنه أنه قال: "الحرب خدعة"
(2)
، وكان إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها. وثبتَ عنه أنه قال:"بئسَ أخو العشيرة"، فلما دخلَ ألانَ له القول وقال:"يا عائشة، إن شرَّ الناس مَن وَدَعَه الناسُ اتقاءَ فُحشِه"
(3)
.
قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يُرخِّص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في الحرب والإصلاح بين الناس والرجل يُحدِّث امرأته
(4)
.
فهذه المعاني التي جاءت بها النصوص يجمعُها نوعان:
المسالمة لمن أمر الله بمسالمتِه، والمحاربة لمن أمر الله بمحاربته
. فالإصلاح بين الاثنين هو من نوع المسالمة الشرعية، وإصلاح الرجل بينه وبين امرأته من أعظم الإصلاح والمسالمة الشرعية، وكذلك إصلاح الرجل بينه وبين من يؤمر بمسالمته من إخوانه ورعيته وأئمته. فإذا كان هو مأمورًا بأن يصلح بين فئتين من المؤمنين غيره، فلأن يُؤمَر أن يُصلِح بينه وبين
(1)
البخاري (2692) ومسلم (2605).
(2)
أخرجه البخاري (3030) ومسلم (1739) عن جابر بن عبد الله.
(3)
أخرجه البخاري (6032) ومسلم (2591) عن عائشة.
(4)
بعده في الأصل بياض بقدر ستة أسطر. وقول أم كلثوم عند مسلم (2605) ضمن الحديث السابق.
إخوانه من المؤمنين أولى، فإنه إلى هذا أحوج، وهو عليه أوكدُ إيجابًا أو استحبابًا، إذ التأليف بين الناس والإصلاح بينهم فرعُ مؤالفتِه لهم وصلاح حالهِ معهم. قال الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، وقال:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96]، وقال:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وقال:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وقال:{إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
والمحاربة الشرعية أصلها ظاهرًا لأهل الحرب من الكفار، وفي الباطن وبعضِ الظاهر للمنافقين، والمرخَّص فيه هو المعاريض بالاتفاق، وقد يسمَّى كذبًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لم يَكذِبْ إبراهيم إلّا ثلاثَ كذباتٍ كلُّهنّ في ذات الله"
(1)
. وهذه الثلاث هي من باب المعاريض.
وأما الكذب الصريح ففيه قولان، أظهرهما أنه لا يباح، ولهذا قالت: ولم أسمعه يُرخِّص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث.
ومن الحرب المباحة دفعُ المظالم عن النفوس والأموال والأبضاع المعصومة
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (3357، 3358) ومسلم (2371) عن أبي هريرة.
(2)
بعده في الأصل بياض بقدر تسعة أسطر.
وإنما جاءت الرخصة في السلم والحرب خاصة؛ لأن هذين الموطنين مبناهما على تأليف القلوب وتنفيرها، فإذا تألفت فهي المسالمة، وإذا تنفَّرت فهي المحاربة، والتأليفُ والتنفير يَحصُل بالتوهُّمات كما يَحصُل بالحقائق، ولهذا يؤثِّر قول الشعر في التأليف والتنفير، بحيث يُحرِّك النفوسَ شهوةً ونفرةً تحريكًا عظيمًا وإن لم يكن الكلامُ منطبقًا على الحق، لكن لأجل تخييلٍ أو تمثيل. فلما كانت المسالمة والمحاربة الشرعية يقوم فيها التوهمُ لما لا حقيقة له، والباطنُ لم يعن إلا الحقَّ= صار ذلك صفاءً وصدقًا عند المتكلم، وموهمًا للمستمع توهُّمًا يؤلِّفه تأليفًا يحبه الله ورسولُه، أو يُنفِّره تنفيرًا يحبُّه الله ورسولُه، بمنزلة تأليفه وتنفيره بالأشعار التي فيها تخييلٌ وتمثيلٌ، وبمنزلة الحكايات التي فيها أمثال مضروبة، فإن الأمثال المنظومة والمنثورة إذا كانت حقًّا مطابقًا فهي من الشعر الذي هو حكمة، وإن كان فيها تشبيهاتٌ شديدة وتخيلات عظيمة أفادت تأليفًا وتنفيرًا.