الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأصحابي»
(1)
.
فوصفهم بالاجتماع واتباع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو السنة والجماعة.
فكل من خرج عن الدين العام الجامع من الأولين والآخرين فهو من أهل التفرق والاختلاف، الذين اختلفوا في الكتاب، واختلفوا على الأنبياء، وخرجوا عن بعض ما جاءت به الرسلُ عن الله، وهو دين الله العام، وهو دين واحد. والله سبحانه هو الإلاه الواحد، له ما في السماوات وما في الأرض، وهو أحد صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
والإيمان بالله ورسله يتضمن ما أخبرتْ به الرسل من الخبر وما أمرتْ به من العمل، فإن ذلك أيضًا وسيلة ومقصود، والإيمان بما أمرتْ به هو الإيمان بالعمل الصالح، وهو الوسيلة. و
الإيمان بالله وباليوم الآخر غايتانِ، والإيمان بالرسل والعمل الصالح وسيلتان
. ولما ذكر
(1)
أخرجه بهذا اللفظ الترمذي (2641) والحاكم في المستدرك (1/ 128، 129) وأبو نعيم في الحلية (9/ 242) عن عبد الله بن عمرو، وإسناده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وهو ضعيف.
المِلل التي فيها خير قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. ومثل ذلك في المائدة
(1)
. فعُلِم أن هذه الأصول الثلاثة هي جماع ما يجب في الملل كلها، وإنما أمر بقتال أهل الكتاب لخروجهم عن الأصول الثلاثة في قوله:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فذكر خروجهم عن حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر وعن العمل الصالح الذي هو فعلُ ما أمر به من الحق وتحريم ما حرَّم الله ورسوله. وقد بسطت ذلك في غير هذا الموضع.
فصل
ومحمد بن عبد الله هو خاتم الرسل وأفضلهم وأكملهم، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا، ودينُ الله هو ما بعثه الله به من الكتاب والحكمة، وهو الإسلام الخاص والإيمان الخاص، المتضمن للإيمان العام والإسلام العام. وقد أوجبَ الله على جميع أهل الأرض عربهم وعجمهم وإنسِهم وجنِّهم الإيمانَ به وطاعتَه واتباعَه، وتعزيرَه ونصْرَه وتوقيرَه وغيرَ ذلك من حقوقه، وأوجب على الخلق اتباعَ الكتاب
(1)
الآية: 69.
والسنة، وحرَّم اتباعَ ما سوى ذلك، فقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61]. وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وقد ثبت في صحيح مسلم
(1)
عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «إن أ صدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ» . وكان عبد الله بن مسعود يقول أيضًا في خطبته كلَّ خميس: «إنما هما اثنتانِ: الكلام والهدي، فخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ» . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُعلِّم أصحابَه أن يقولوا في خطبة الحاجة: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضرُّ إلا نفسَه، ولن
(1)
رقم (867).
يَضُرَّ الله شيئًا»
(1)
.
وذِكرُه لهذه الأصول في خطبة يوم الجمعة وغيرها من قواعد الإسلام وأصول الإيمان، بل ذِكرُه لهذا الكلام بعد قوله:«أما بعد» ــ كما رواه جابر وغيُره ــ دليلٌ على أن هذا هو جماع الدين كما قررناه أولًا، فإنه بعد الحمد والشهادتين يقول:«أما بعد، فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» . فعُلِم بذلك كمالُ موقعِ هذا الكلام من الدين، وذلك لأنه مشتمل على أَصْلَي الإيمان: شهادةِ أن لا إله إلا الله، وشهادةِ أن محمدًا رسولُ الله، على الإيمان بالله ورُسُله. ولكن بيَّن فيه جماع أمور الدين، فإنها نوعان: قولٌ وعمل، كما قال عبد الله بن مسعود: إنما هما شيئانِ: الكلام والهدي.
والهديُ: القصد والعمل، يقال: هَدَى يهدي هَدْيًا، كما يقال: مَشَى يمشِي مَشْيًا، وسَعَى سَعْيًا، ويقال: هَدَى غَيرَه يهدِيه هُدًى. ومن الأوّل قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، وقوله:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]. ومنه قوله: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} [يونس: 35] على قراءة من قرأ
(1)
أخرجه أبو داود (1097) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 215، 7/ 146) من حديث ابن مسعود. وإسناده ضعيف، وعلته أبو عياض وهو المدني، مجهول. ومع ذلك فقد صححه النووي في شرح صحيح مسلم (6/ 160).
«يَهْدِيْ»
(1)
على أحد القولين. والهدْي من هَدَي يهدي مثل الدلّ من دلَّ يَدُلّ، ومنه الحديث المأثور في السنن
(2)
: «الهَدْي الصالح والاقتصاد والسَّمْت جزءٌ من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة» . ومنه قول حذيفة: كان عبد الله بن مسعود يُشَبَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هَدْيِه ودَلِّه وسَمْتِه
(3)
. وكان علقمة يُشَبَّه بعبد الله في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه، وكان إبراهيم يُشَبَّه بعلقمة في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه، وكان منصور يُشَبَّه بإبراهيم في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه، وكان سفيان يُشَبَّه بمنصور في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه، وكان وكيع يُشَبَّه بسفيان في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه، وكان أحمد بن حنبل يُشَبَّه بوكيع في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه
(4)
.
وذلك لأن المهتدي لابدَّ له من شيئين: من غايةٍ يقصدها، ومن عملٍ إلى تلك الغاية. وكل إنسان فله قصدٌ وعملٌ، فإن أصدقَ الأسماءِ الحارثُ وهمامٌ، سواءٌ كان قصدُه صوابًا أو خطًا، وسواءٌ سَعَى إليه أو لم يَسْعَ. فمن لم يقصد الحق أو قصدَه ولم يعمل لمقصودِه فليس بمهتدٍ، بخلاف من قصدَه وعمل له فإنه مهتدٍ بالحق.
وإذا كان ذلك فالواجب أن يُنظَر في كلِّ كلامٍ، فما وافقَ كتاب الله
(1)
هذه قراءة حمزة والكسائي وخلف. انظر: النشر (2/ 283).
(2)
أخرجه الترمذي (2010) عن عبد الله بن سرجس. وإسناده حسن. وليس فيه لفظ الهدي الصالح، بل التؤدة مكانه.
(3)
أخرجه البخاري (6097، 3762).
(4)
انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 316، 317).
فهو حقٌّ، وما خالفَه فهو باطلٌ، والموافق له وإن كان حقًّا فيُعلَم أن كلام الله أصدقُ الكلام وأحسنُ الحديث. وكذلك يُنظَر في كل عملٍ وحركةٍ باطنةٍ وظاهرة، ويُعلَم أن خير ذلك وأفضلَه هو هَدْيُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نيّتُه وعملُه، فأفضل النيَّات نيَّتُه، وأفضل الأعمال عملُه، فيكون هدْيُه أحسنَ الهدي، كما قال الفضيلُ بن عياض في قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي ما أخلصُه وأصوبُه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة
(1)
.
فعملُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخلصُ الأعمال، لا يَعبدُ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، كما عُلِمَ ذلك من دينه الخاص والعام. كان يقول في دُبُر صلاتِه:«لا إلاه إلا الله، ولا نعبد إلا إيَّاه، مُخلِصين له الدِّينَ ولوكرِه الكافرون. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إيَّاه، له النعمة وله الفضلُ وله الثناء الحسن»
(2)
. بل هو إمام الموحدين المخلصين، لم يُقِمْ أحدٌ من الخلائق دينَ الله وتوحيدَه باطنًا وظاهرًا كما أقامَه، ولم يَدْعُ أحدٌ إلى سبيل ربّه كما دعا إليه، ولم يجاهِدْ في سبيل الله كما جاهدَ في سبيل ربّه. وعملُه أصوبُ الأعمال، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
(1)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 95) عنه. وكثيرًا ما يذكره المؤلف في كتبه.
(2)
أخرجه مسلم (594) عن عبد الله بن الزبير.
هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وكان خُلُقُه القرآن.
وهو لم يفعل من العبادة ولم يشرع منها الا ما أمره به ربُّه، ولم يَدعُ إلى سبيل إلا بإذن ربّه، كما قال:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46]، وقال عنه:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50]. وقال عنه: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15].
ويتفرع على هذا الأصل أن المتكلمين الخائضين في العلوم الإلهية والمعارف الدينية والحقائق العلمية، من جميع الطوائف المتكلمة والمتصوفة والمتفقهة والمتفلسفة وغيرِهم أهلِ الخطاب وأهلِ الكتاب، فإن المهتدي منهم هو المتبع لكتاب الله. والسالكينَ طرقَ العباداتِ والزهاداتِ والأحوالِ القلبية والتألُّهاتِ من جميع الطوائف المتقرئة والمتصوفة والمتفقرة والمتعبدة والمتفقهة وغيرهم، فإن المستقيم منهم هو المتبع لهدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك أهل النظر في الأمور العامة من الأمراء والعلماء، فإن المصيب منهم هو المتبع لكتاب الله وسنة رسوله.
وهذا الأصل يُقِرُّ به المؤمنون جملةً وابتداءً، ولكن قد يغيب عنهم تفصيلُه عندما تُبْهَر عقولُهم من أقوال ذوي الأقوال وأحوالِ ذوي الأحوال وأوامر ذوي العلم والإمارة، وقد لا يكون عندهم أصلٌ من