الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال الله تعالى فيما ذكره من موعظة لقمان لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]، ويُشبهها قوله:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
وذلك أن
فعلَ الإنسانِ وسائرِ الحيوان إما حركةٌ وإما صوتٌ
، وإن كان يدخل في مسمَّى الحركات والأصوات أمورٌ كثيرة، فأمر لقمان بالقصد في المشي الذي هو الحركة والعمل، وبأن يغض من الصوت، فكان في هذا دلالةٌ على كراهة ما خرجَ عن القَصْدِ والغَضِّ، مثل الصوتين الأحمقين الفاجرين عند النعمة: صوتِ الفرح بالغناء والزَّمْر، وعند المصيبة بالنَّدبِ والنوح. وقال للشيطان:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]، وصوتُ الشيطان ما يُحِبُّه ويأمرُ به وإن كان قائمًا بإنسانٍ أو جمادٍ كأصواتِ الملاهي وغيرها، فصوتُ الشيطان يَستفِزُّ الناسَ أي يُحرِّكهم ويُزعِجُهم ويُثِيرُهم. وهذا أثر الصوت وهو التحريك كما أنه صادر عن الحركة، فسببه الحركة وغايتُه الحركة.
والأصوات تؤثِّر في الحيوان بحسبها، فإذا كان الحيوان له قوتان: قوة الشهوة والجذب، وقوة الغضب والدفع، كان الصوتُ منقسمًا إلى هذين القسمين: صوت للمحبوب وصوت للمكروه. كما أن الحركة
تنقسم إلى هذين القسمين. ثم إما أن يكون الصوت والحركة لطلب المحبوب أو دفع المكروه أو لحصول المحبوب أو لحصولِ المكروه، فصارت الأصوات أربعة: صوت شوق، وصوت غضب، وصوت فرح، وصوت حزن. فالشوق والفرح من بابٍ، والغضب والحزن من باب.
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوتين الأحمقين الفاجرين: صوتِ الحزن وصوتِ الفرح
(1)
، ولهذا استُحِبَّ خفضُ الصوتِ في المواطن الثلاث: موطن الغضب والحزن وموطن الذكر، قال قيس بن عُبَاد: كانوا يستحبون خفضَ الصوتِ عند الذكر وعند الجنائز وعند التحام الحرب
(2)
.
وقد ابتدع الناسُ عند الذكر رفعَ أصواتٍ وعند الجنائزِ أيضًا، وعند الحرب بُوقاتٍ ودَبادِبَ، وابتدعوا المكاء والتصدية المضارع للذكر، وحصل عنده أصواتٌ وحركاتٌ. ورخِّص في الصوت عند الفرح الشرعي، واستحبَّ عند النكاح لإعلانه.
فالذي يحصل من الرقص والحركات هو خلاف القصد في المشي، والذي يحصل من الغناء والمزامير خلاف غضّ الصوت، ولهذا
(1)
أخرجه أبو يعلى والبزار عن جابر بن عبد الله، كما في مجمع الزوائد (3/ 17)، قال الهيثمي:"في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وفيه كلام". وانظر: شرح السنة للبغوي (5/ 431).
(2)
أخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 274). وأخرج أبو داود (2656) عنه قوله: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال.
يحصل بهذا خلافُ ما ذكر الله في قوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 72، 73]، فإنهم يُصغُون إلى اللغو ويخرّون عند آيات الله صمًّا وعميانًا، والصوت المطلق أو المتضمن لنوع تشويق أو تحزين أو تفريح أو تغضيب يُوجب حركةً مطلقةً، لا إلى معبود معيَّن ولا لعبادة معينة، فلذا تجد غالبَ المتنغمين للصوت المطلق أربابَ حركةٍ مطلقةٍ ضالِّين، لا يَعرِفون من يعبدون ولا بماذا يعبدون. لكن قد يحصل لهم تأثيرات شيطانية لاستفزاز الشيطان. فظهر بالانحراف اليهودي صوت الغضب بالحاجات العلمية، وبالانحراف النصاري صوت بالمطربات الجالبة الخطأ لمعترض
(1)
.
وأما سببه فقد يكون حركة حيوان، وقد يكون حركة غير حيوان، إما طبعية وإما قَسْرية، ولكن القسرية الطبعية فرع الاختيارية، فإن الحيوان ......
(2)
إلا عن حيوان.
يبيِّن ذلك أنه لما حصل في المنحرفين إلى شبهٍ من النصرانية التحركُ عن الصوت المطلق، سواء كان بالآيات أو بأبيات، بل منهم من يُرجّح السماع لصوت الأبيات، لما تتضمنُه من مطلق وصف الشوق والوصل والهجر وأحوال الحبّ المطلق أو الحزن المطلق، بل قد
(1)
كذا في الأصل. ولم أعرف وجه الصواب.
(2)
هنا في الأصل كلمات غير واضحة.
يُرجِّح سماعَ الصوتِ المحض الذي لا حروفَ معه، سواء كان صوت إنسانٍ بمجرده أو مقترنًا بالأبواق والصفّارات والدُّفوف المصلصلة والأوتار وغير ذلك، لما في الصوت من تحريكه وتهييجه والتذاذه به بحسب حاله، كما يُصيب المتحرك عن الشراب والطعام الجسماني من الخمر والحشيشة، أو عن العيان النفساني في الشاهد ونحوه.
وهذا الانحراف إنما وقع في النصارى من الصابئة الفلاسفة الذين هم أئمة صناعة الصوت التي يسمونها الموسيقى، دخل بسبب هذا القدر المشترك بينهم وبين الصائبة قومٌ من الصابئة في اسم التصوف ونحوه، وقرروا الانحرافات الصابئية. قال الشافعي رضي الله عنه: خلَّفتُ ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، يصدُّون به الناسَ عن القرآن
(1)
. فإن إحداث التغبير إنما هو من المتفلسفة الزنادقة، ولهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي في "مسألة السماع" عن ابن الراوندي أنه قال: اختلفَ الفقهاءُ في السماع هل هو حلال أو حرام؟ وأنا أقول: هو واجب
(2)
. وهذا قول الزنادقة كما ذكره الشافعي.
ولهذا قرَّر ابن سينا في الإشارات
(3)
وغيرُه من المتفلسفة أمْرَ سماع الألحان وعشْق الصور، وجعلوه من جملة الطريق التي تُوصِلُ إلى الله
(1)
انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال (ص 299) والرد على من يحب السماع لأبي الطيب الطبري (ص 28) وتلبيس إبليس (ص 230).
(2)
ذكره المؤلف في كتاب الاستقامة (1/ 238، 239).
(3)
انظر (4/ 820 ــ 827) منه.
وتُزكِّي النفوس، وهاتان الآفتان هي التي دخل بها الشيطانُ في المتصوفة، كما قال
(1)
: رأيتُ إبليسَ فقلت: يا عدوَّ الله، نَجَوْنا منك، فإنا تركنا الدنيا التي تصطاد بها الناس، أو كلامًا هذا معناه. فقال: ولكن بقي لي فيكم لطيفة السماع وصحبة الأحداث.
لكن العقلاء إذا وقعوا في ذلك علموا أنه من هَوَى النفوس، وأنه من الذنوب التي يجب على صاحبها التوبة والاستغفار. وأما الضالُّون فاتخذوه دينًا، كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} [الأعراف: 51]، فلَهَوْا عن الحق ولعبوا بالباطل. وهذا شأن هذه السيئات المنهي عنها من الأغاني ونحوه كالخمر، فإنها تَصُدُّ عن الحسنات المأمور بها من الذكر والصلاة والعلم النافع والعمل الصالح، وتُوقِع في مفاسدَ بحسبها، كما تُوقِع الخمرُ في العداوة والبغضاء، إما في زنًا وإما في نفاق، كما قال ابن مسعود: الغناء يُنبتُ النفاقَ في القلب كما يُنبت الماءُ البقلَ
(2)
.
فخَمرُ الجسم هي الشرابُ وتُسكِر صاحِبَها، وخمرُ النفس هي الصور والعشق، وهي تُسكِر صاحبَها، وخمرُ الأرواح الصوتُ المطرب
(1)
بعده بياض في الأصل قدر أربع كلمات، كأنه يريد أن يذكر اسم القائل، وهو المحترق البصري كما في تاريخ بغداد (14/ 429). وانظر الكلام على مسألة السماع لابن القيم (ص 36).
(2)
سبق تخريجه (ص 41).
وسماعُه، وهو يُسكِر صاحبَه. ولهذا قد يَحصلُ لأهلِه مع الأحوال من العداوة والبغضاء والعَربدة، من جنسِ ما يحصُل للشَّرْبِ
(1)
المجتمعين على الحُمَيَّا.
وكما دخلت الصابئةُ بسبب انحراف بعض أصحابنا الصوفية إلى القدر المشترك في الصوت والصُّور، دخلوا أيضًا في الشرك من تعظيم القبور وغير ذلك، كما فعله ابن سينا وابن الخطيب وقاضي حَماة ابنُ واصل وغيرهم في تقرير الاستغاثة بالموتى، بناءً على أن الروح المفارقةَ تَعضُد الأرواحَ المستغيثةَ بها، وهذا مبدأ الشرك وعبادة الأوثان، وتعدَّت العامة ذلك إلى رسم عبادة الأصنام والأوثان، كما فعل ابن الخطيب في كتاب الطلاسم والسحر، وقصدوا أصل الشرك الذي بعث الله الرسل بتحريمه وجعله أصل الشرك، وغيَّروا بذلك ملة التوحيد التي هي أصل الدين، كما فعله قدماء المتفلسفة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
ومن أسباب ذلك الخروجُ عن الشريعة الخاصة التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى القدر المشترك الذي فيه مشابهة الصابئين أو النصارى أو اليهود، وهو القياس الفاسد المشابه لقياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، فيريدون أن يجعلوا السماعَ جنسًا واحدًا، والتألُّه جنسًا واحدًا، ولا يميزون بين مشروعه ومبتدعه، ولا بين المأمور به والمنهي عنه.
(1)
الشَّرب: القوم المجتمعون على الشراب.