الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من تأخير الإيفاء، وذلك واجب فيه في أحد قولي العلماء، ولو أجَّله بأجلٍ، كمذهب مالك وقول في مذهب أحمد.
ومن قال: إن له المطالبة في الحال ولا يتأجّل، قالوا: لأن هذا تبرع، والتبرع لا يلزم بالعقد، كما قالوا مثل ذلك في الهبة والعارية. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين. وأما أهل المدينة فعندهم يلزم بالعقد، وعليه تدل نصوص الكتاب والسنة.
فالقرض من أقوى الحجج على أنه
إذا اجتمع ربا الفضل والنَّساء في جنس واحدٍ حرم
، وإن لم يكن مما يجري فيه ربا الفضل وحده. وهذه حجة لمالك وأحمد في إحدى الروايتين، وهو حجة على الشافعي وأحمد في رواية؛ إذ كانوا يجوزون بيعَ غير الربوي كالموزون غير النقدين بجنسه متفاضلًا، ويحرِّمون ذلك بلفظ القرض. وهؤلاء يجعلون الأحكام تختلف بمجرد اللفظ مع اتحاد المقصود، وهذا يقوله مَن يقوله مِن أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد، يقولون هذا في مواضع، كما جوَّز القاضي أبو يعلى وغيره السَّلَم الحال بلفظ البيع دون السَّلَم، وكما جوَّز أن يكون البذر من العامل إذا كان بلفظ الإجارة دون لفظ المزارعة. وأبو محمد المقدسي عكَسَ ذلك، فجوَّزه بلفظ المزارعة دون الإجارة، وأبو الخطاب جوَّزه بلفظهما، وهو الصواب، وعليه تدلُّ نصوصُ أحمد، فإنه جوَّز أن تُؤجَر الأرض بجزءٍ من الخارج منها، واحتجَّ على ذلك بمزارعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر. ولو كان الحكم يختلف باللفظ لم تصح هذه الحجة، وإنما تصح هذه
الحجة إذا كان البذر من أهل خيبر، فإن المستأجر للأرض هو الذي يبذر فيها، لا يبذر رب الأرض. ولهذا قال أبو الخطاب: هذه النصوص الكثيرة عن أحمد تدلُّ على أنه جوَّز المزارعة ببذر من العامل، كما ثبت في الصحيح
(1)
أنه عاملهم على أن يعمروها من أ موالهم. وحينئذٍ فكيف يجوز إلحاقُ فرعٍ بهذا الأصل مع مخالفته؟
ودَلَّ ذلك على أن الرواية التي اشترط فيها أن يكون البذر من المالك قياسًا على المضاربة قالها موافقة لمن قال ذلك، وهي مخالفة لهذه السنة التي قاس عليها. وأحمد أصوله توجب اعتبار المقاصد والمعاني دون مجرد اللفظ، كما يعتبرها مالك رحمه الله وغير مالك من أهل المدينة. وفقهاء الحديث وفقهاء المدينة متفقون على هذا الأصل، وهو رعاية المقاصد في العقود.
وأبو حنيفة يقول: الجنس بانفرادِه يحرمُ فيه النَّساء، وهو الرواية الأخرى عن أحمد واختياره، فلا يجوز بيع الشيء بمثله نَساءً. والقرض حجة على هذا القول، فإنه يجوز القرض، قرض الشيء بمثله مع التأخير. لكنْ أبو حنيفة يقول: أنا لا أجيز القرض إلا في المثليات، لا أجيزه إلا في المكيل والموزون. ومالك ليس عنده ربا الفضل، بل فيها ربا النساء، فهذا يجيب عن القرض.
لكن الأكثرون يجوزون قرض الحيوان استدلالًا بالسنة، وأن النبي
(1)
أخرجه البخاري (2328) ومسلم (1551) من حديث ابن عمر.
- صلى الله عليه وسلم اقترض بعيرًا وردَّ خيرًا منه
(1)
، فقد ثبت أخذ الحيوان بمثله مع التأخير، وذلك مُبطِلٌ لقولِ من يقول: الجنس بانفراده يحرم النَّساء، فإنه لو جاز ذلك لم يجز قرض بعير ببعير مع التأخير.
لكنْ أبو حنيفة لا يُجوِّز قرضَ غير المكيل والموزون، فلا يجوز بعير ببعير إلى أجل، لا قرضًا ولا بيعًا. وأحمد يجوِّزه قرضًا بخلاف البيع. وهل الواجب في الردّ الجنسُ أو القيمةُ؟ على وجهين، والجنس هو المنصوص. ولا يجوِّزه بيعًا في إحدى الروايات؛ لأن البيع يجب فيه الأجل، وأما القرض فإنه بذل المنفعة بلا عوض، ولهذا لا يجوز فيه التأجيل عنده.
وكذلك أبو حنيفة لا يُجوِّز التأجيل في القرض، فإنه إذا جاز التأجيل فيه كان معنى بيع الشيء بجنسه نَسَاء، وذلك لا يجوز عند أبي حنيفة وأحمد في رواية. بل كلما يجب وفاء القرض وحده يحرم ربا النَّساء وحدَه.
والشافعي وأحمد في رواية ومن وافقهما يُجوِّزون في غير الشيء الربوي كالحيوان يبيع بعضه بجنسه حالًّا وإلى أجلٍ متماثلًا ومتفاضلًا، ولا يجوّزون أن يُقرِضه ويشترط أكثر منه. وهذا تناقض، فإنه إذا جاز معاوضة بعضه ببعض حالًّا ومؤجلًا فالقرض لا يخرج عن هذا وهذا كما تقدم. وإذا أراد أن يُقرِضه بعيرًا ويشترط بعيرين قال: بعني بعيرًا
(1)
أخرجه مسلم (1600) من حديث أبي رافع.
ببعيرين، ولكن هنا يشترط يعني الحلول أو التأجيل بخلاف القرض، وليس هذا فرقًا، فإن الناس مع القرض قد يتفقون على أنه يوفيه في وقت معين، فلا يخرج هذا عما يقصده الناس بالقرض.
فتبيَّن أن أظهر الأقوال قولُ مالك وأحمد في رواية، أنه إذا جمع النوعان حرم، فإذا باع الشيء بجنسه متفاضلًا إلى أجلٍ لم يجز، كما لا يجوز مثل ذلك في القرض، وإن تباعدت المقاصد ففيه نزاع.
فقد تبين أنه إذا اجتمع ربا الفضل والنَّساء حرم بالإجماع، مما فيه ربا الفضل، وفي غير ذلك عند أكثر العلماء، وأما إذا لم يكن إلا النَّساء فقط في غير الربوي فهذا يباح عند أكثر العلماء، كالبعير بالبعيرين إلى أجل.
فصل
وأما ربا الفضل بلا نَساءٍ فقد أشكل على السلف والخلف، فروي عن ابن عباس وابن مسعود ومعاوية أنه لا ربا إلا في النَّساء، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا ربا إلا في النسيئة»
(1)
.
وبإزاء هؤلاء بعض المتأخرين الذي قال: إنه يجري في كلِّ مال. وهذا خلاف إجماع السلف، ولا معنى فيه. يحكى هذا عن أبي طاهر الرياشي.
(1)
سبق تخريجه.