الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فلما هاجر إلى دار النصر أذن له أن يقاتل بالحديد، فالكتاب هو العلم، والحديد هو القدرة، وكلاهما سلطان، والكتاب قيام الصلاة، والحديد قيام الجهاد، ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد، وكان الأمير يتولاهما جميعًا، أمير الحرب هو إمام الصلاة، وكلاهما فيه الصف الذي يحبُّه الله، وكلاهما فيه الطاعة والجماعة. ولهذا كان أول ما نزل من القرآن:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ، فأول هذه السورة الأمر بالقراءة، وآخرها الأمر بالسجود {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
والصلاة أقوال وأعمال، فأفضل أقوالها القراءة، وهو أوكد أركانها القولية، وأفضل أعمالها السجود، وهو أوكد أركانها الفعلية. وقد اختلف العلماء
أيهما أفضل؟ كثرة الركوع والسجود أو طول القيام
؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد، أصحُّها أنهما سواء، فإن فضل الركوع والسجود يُعادِلُه فضل القراءة. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسوِّي بينهما، فإذا أطال أحدَهما أطال الآخر، كما في قيام الليل وصلاة الكسوف، وبالعكس.
وهذان الركنان مشروعان على سبيل الاستقلال، فإن القرآن يُقرأ خارجَ الصلاة، والسجود يُفعَل مفردًا في سجود التلاوة والشكر والسهو، وآخر السور {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، وهو تمام مقصود الجهاد.
ولهذا كان خواصُّ الأمة صنفين: العلماء أهل القرآن، والأمراء أهل السيف، وهم أولو الأمر الذين قال الله فيهم:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فهؤلاء أولو الأمر.
وأما أقسام الأمة فقد ذكرهم في سورة المزمل لما نسخَ ما كان افترضه من قيام الليل، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ
وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، فأمرهم بقراءة ما تيسَّر من القرآن، فإن من المسلمين المعذور بالمرض، ومنهم التاجر الضارب في الأرض يطلب فضل الله، ومنهم المقاتل في سبيل الله.
ولهذا كانت أصناف الأمة ثلاثة: أهل القرآن، وأهل المال، وأهل السيف، وكانوا يسمون أهل القرآن "القراء"، وهو اسمٌ يجمع عندهم لأهل العلم والدين، فإن العلماء إنما كانوا يتفقهون في القرآن، والعبَّاد إنما كانوا يتعبدون بالقرآن، فأهل العلم والكلام لهم ما أنزله الله من العلم والكلام، وأهل السماع والوجد لهم سماع القرآن والوجد به، وكان هذا الصنف في السلف شيئًا واحدًا قبل تفرق الأمة.
ويؤخذ من الآية أن المريض والمسافر والمجاهد يُكتبَ له مثل ما كان يعمل، كما ثبت في الصحيح
(1)
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ له من العمل مثلُ ما كان يعمل وهو صحيح مقيم". فهذا نصٌّ في المسافر والمريض، وأما المجاهد فأمره أبلغُ من هذا، فإن في الصحيح
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل المجاهد
(1)
أخرجه البخاري (2996) عن أبي موسى الأشعري.
(2)
أخرجه البخاري (2787) عن أبي هريرة.
في سبيل الله مثل الصائم القائم القانت الذي لا يَفتُر في صلاة ولا صيام". وقال له رجل: أخبرني بعملٍ يَعدِلُ الجهادَ في سبيل الله، قال: "لا تستطيع"، قال: أخبِرْني به، قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهدُ أن تصومَ لا تُفطِر وتقومَ لا تَفتُر؟ " قال: لا، قال: "فذلك الذي يَعدِلُ الجهادَ في سبيل الله"
(1)
. إلى أمثال هذه النصوص.
ولما تفرقت الأمةُ صار من جنس أهل القرآن سائرُ أنواع أهل العلم والدين، حتى إنه لما انتشر الأمر صار من جنسهم أهلُ التكلم في العلم والتعبُّد من أهل البدع وغيرهم. ولما ظهرت الدولة الجاهلية دولة المغل جعلوا العالم كذلك ثلاثة أقسام: أهل السيف وهم المقاتلة، وأهل المال والصناعات، ويسمونهم "الصاط"
(2)
، وأهل العلم والدين، ويسمونهم "دَانِشْمَنْد"، ويدخل في هذا عندهم الفقيه والزاهد، والقسيس والراهب وعلماء اليهود، والأطباء والحُسَّاب، وعلماء الصابئة والمشركين من المنجمين والنجسية
(3)
وغير ذلك.
وكذلك صار من جنس أهل الجهاد كل حامل سلاحٍ وأعوانهم، سواء كانوا يقاتلون في سبيل الله أو في سبيل الملوك أو القبائل أو غير ذلك. وكذلك صار من جنس التجّار وُلاة الأموال الخاصة والمشتركة من الكتَّاب والوزراء.
(1)
أخرجه البخاري (2785) ومسلم (1878) عن أبي هريرة.
(2)
كذا في الأصل، ولم أتبين وجه الصواب.
(3)
يراجع مجموع الفتاوى (13/ 219) والتحرير والتنوير (10/ 160).
فصل
قد ذكرتُ في غير هذا الموضع أن الناس اختلفوا في مسمى الإنسان: هل هو الجسد وهو الجملة المشاهَدة، كما يقوله أكثر أهل الكلام من أصحابنا وغيرهم، أو هو اسمٌ لمعنًى وراءَ هذه الجملة وهو الروح، كما يقوله كثير من أهل الفلسفة وطائفة من أهل الكلام، أو هو اسمٌ للمجموع؟ على ثلاثة أقوال.
والثالث هو الصواب الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، وعليه عامة أهل السنة وجمهور الناس، وإن كان الاسم عند التقييد يتناول الجسدَ فقط، أو الروح فقط، أو أحدهما بشرط الآخر، فيكون الآخر شرطًا تارةً، كما كان شَطْرًا في الأصل.
وكذلك اختلفوا في وصفه الظاهر، وهو النطق المذكور في قوله:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، هل هو اسمٌ للحروف والأصوات فقط؟ كما هو قول المعتزلة وطائفة من أهل السنة من أصحابنا وغيرهم، أو هو اسمٌ لمعنًى قائمٍ بالنفس وراءَ الحروف والأصوات؟ كما هو قول الكلّابية والأشعرية وبعض أهل الحديث والسنة، أو هو اسمٌ لمجموع اللفظ والمعنى؟ على ثلاثة أقوال.
والثالث هو الصواب الذي عليه الأئمة، وهو منصوص أحمد
وغيره، حيث قد نصَّ على أن كل واحدٍ من المعاني والحروف داخلةٌ في مسمى الكلام، وهو قول جمهور الخلق، وهو مدلول الكتاب والسنة، وإن كان الكلام يقع [على اللفظ] تارةً وعلى المعنى تارةً، إما مجردًا وإما بشرطِ الآخر، وهذا في الحروف كثير، فإن إضافة الكلام والمنطق والقول إلى اللسان ووضع ذلك على الحروف والأصوات كثير.
وأما إضافة ذلك إلى النفس والقلب ووضع ذلك على المعاني فمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عمّا حدَّثتْ به أنفسَها ما لم تتكلَّمْ به أو تعملْ به"
(1)
، ومثل قول أبي الدرداء: ليحذَرْ أحدُكم أن تلعنَه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر
(2)
، وقوله: إنا لنكشِرُ في وجوه أقوامٍ وإن قلوبنا لَتلعنُهم
(3)
. فأضاف اللعنة إلى القلوب، واللعنة من الدعاء الذي هو أحد نوعي الكلام. ومثل قول الحسن البصري: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقَتْ، فإذا لها أسماعٌ وأبصارٌ، فأورثت العلمَ ونطقت بالحكمة. ومثل قول الجنيد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب.
(1)
أخرجه البخاري (2528، 5269، 6664) ومسلم (127) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه أحمد في الزهد (ص 142) ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 300).
(3)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 222).