الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتدبَّرْ هذا لتعلمَ أن
الأعمال بخواتيمها
، وأن ما ظاهره نعمةٌ وهو لذة عاجلة قد يكون سببًا للعذاب، وما ظاهره عذاب وهو ألمٌ عاجل قد يكون سببًا للنعيم، وما هو طاعة فيما يرى الناس قد يكون سببًا لهلاك العبد برجوعِه عن الطاعة إذا ابتُلي في ثمرة الطاعة، وما هو معصية فيما يرى الناس قد يكون سببًا لسعادته بتوبة العبد منه وتصبُّرِه على المصيبة التي هي عقوبة ذلك الذنب.
فالأمر والنهي يتعلق بالشيء الحاصل، فيُؤمر العبد بالطاعة مطلقًا، ويُنهى عن المعصية مطلقًا، ويؤمر بالشكر على كل ما يتنعمَّ به. وأما القضاء والقدر ــ وهو عِلمُ الله وكتابُه وما طابقَ ذلك من مشيئته وخلقِه ــ فهو باعتبار الحقيقة الآجلة، فالأعمال بخواتيمها. والمنعَم عليهم في الحقيقة هم الذين يموتون على الإيمان.
وقد يكثر تنازعُ الناس في هذا الباب، فالمثبتةُ للقضاء والقدر من متكلمة أهل الإثبات وغيرِهم يُلاحِظونَ القدرَ من عِلم الله وكتابه ومشيئته وخلقِه، وقد يُعرِضون عمّا جاء به الأمر والنهي والوعد والوعيد، وعن الحكمة العامة وما في تفصيل ذلك من الحِكَم الخاصة. وأما من لم يلاحظ إلا الأمر والنهي والوعد والوعيد فقط من القدرية ومن ضاهاهم في حاله، فقد كفر بما وجبَ عليه الإيمان به من خلقِ اللهِ وكتابته ومشيئتِه، وتدبيره لعباده المؤمنين الذين سبقت لهم منه الحسنى بتدبيرٍ خاص، ومن قضائه على الكفار بما هو سبحانه فيه عَدْلٌ، كما في
الحديث المرفوع: «ماضٍ فيَّ حكمُك، عَدْلٌ فيَّ قضاؤك»
(1)
، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
وإذا عُرِف أن كل واحد من الابتلاء بالسرَّاء والضرَّاء قد يكون في باطن الأمرِ مصلحةً للعبد أو مفسدةً له، وأنه إن أطاع
(2)
الله فذلك كان مصلحةً له، وإن عصاه كان مفسدةً له= تبيَّن أن الناس أربعة أقسام: منهم من يكون صلاحُه على السَّراء، ومنهم من يكون صلاحُه على الضرَّاء، ومنه من يصلح على هذا وهذا، ومنهم من لا يصلح على أحدٍ منها. والإنسان الواحد قد يجتمع له هذه الأحوال الأربعة في أوقاتٍ أو وقتٍ واحدٍ، باعتبار أنواع يُبتلَى بها.
وقد جاء في الحديث المرفوع: «إن من عبادي من لا يُصلِحُ إيمانَه إلا الغِنى، ولو أفقرتُه لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلِحُ إيمانَه إلا الفقر، ولو أغنيتُه لأفسدَه ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلِح إيمانَه إلا الصحةُ، ولو أسقمتُه لأفسدَه ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلِح إيمانَه إلا السقم، ولو أصححتُه لأفسدَه ذلك، إني أدبِّر عبادي، إني بهم خبير
(1)
أخرجه أحمد (1/ 391، 452) وأبو يعلى (5297) وابن حبّان (972) والحاكم في المستدرك (1/ 509، 510) عن عبد الله بن مسعود. وفي إسناده أبو سلمة الجهني لم يتبيَّن من هو، فهو في عداد المجهولين. انظر: التعليق على المسند (3712). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (198).
(2)
في الأصل: «طاع» .