الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صحيحة: «حتى تقوم الساعةُ»
(1)
يريد به انخرامَ ذلك القرن؛ فلهذا هو مفسَّرٌ في نفس الحديث الصحيح.
وكذلك مذهب أهل السنة والجماعة: الإقرار ب
معاد الأرواح والأبدان جميعًا
، وأن الروح باقية بعد مفارقة البدن منعَّمةً ومعذَّبةً.
وأما أهل الأهواء فكان كثير من الجهمية والمعتزلة ونحوهم يُكذِّب بما في البرزخ من النعيم والعذاب، ولا يُقِرُّ بما يكون في القبر، كما ينكرون أيضًا وجودَ الجنة والنار، ولا يعتقدون نعيمًا ولا عذابًا ولا ثوابًا ولا عقابًا إلّا عند القيامة الكبرى.
ثم منهم من يقول: ليست الروح شيئًا باقيًا بدون البدن. وبعض هؤلاء يُقِرُّ بعذاب القبر ونعيمه للجسد فقط دونَ روحٍ باقية دونه. وهذا كثير في مقالات طوائف من أهل الكلام، وهم يتكلمون في إحداث العالم وإفنائه. وقد يزعمون أن العالم يَفنى بجملته ثم يعاد. ومنهم من يزعم أنه يَفنَى بعد دخول الجنة والنار، وأنهما يَفنَيانِ، كما يُذكَر ذلك عن الجهم بن صفوان. وزعم أبو الهذيل أن حركاتهم تَفنَى، وأمثال هذه المقالات.
وفي مقابلة هؤلاء طوائف من الفلاسفة المشائين وغيرهم ومن قد يتبعهم من الملِّيين يُكذِّبون بالقيامة العامة، وإنما يُقِرُّون بالقيامة التي هي انقراض القرون، والطوفانات العامة، وبأن من ماتَ فقد قامتْ قيامتُه.
(1)
أخرجه البخاري (6511) ومسلم (2952) عن عائشة.
ويُقِرّون بمعاد الأرواح دون الأبدان، ولا يُقِرُّون بتغيير هذا العالم، ولا بشَقِّ السماوات وانفطارها، وتكوير الشمس والقمر، واستحالة الأجسام العلوية، كما جاءت به النصوص. بل يُحرِّفون الكلمَ عن مواضعه، ويتأولون ذلك على أنه أمثال مضروبة لحال المعاد الجزئي، وهو حال النفس عند مفارقة البدن. ولا يُقِرُّون بإحداثٍ ولا إفناء.
وقد تكلمنا من الرد على الطائفتين في غير هذا الموضع بما ليس هذا موضعه، لكن المقصود هنا أن القرآن لما كان هو كتاب الله الذي أنزله وهدى به عبادَه، وجعله تفصيلاً لكل شيء، وبيَّن فيه ما كان وما سيكون، وأخبر فيه من أمر المبدأ والمعاد والخلق والبعث بما فيه بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين= كان من بليغ ذلك أنه سبحانه يذكر في السورة الواحدة أمر المعادين جميعًا، والقيامة الكبرى مع الصغرى التي هي الموت، كما ذكر ذلك في سورة الواقعة، فإنه سبحانه في أولها ذكر القيامة الكبرى، وذكر انقسام الناس إلى ثلاثة أصناف، ثم في آخرها ذكر ذلك عند الموت، فقال في أولها:{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} إلى قوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 1 ــ 50].
ثم ذكر من آيات المعاد ما ذكر، ثم قال في آخر السورة:{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 81 ــ 96]. وهذا حال الإنسان عند الموت كما قال: فهلا تردونها، أي تردون النفس عند قبضها.
وكذلك قال سبحانه في سورة الأنعام: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2]، فالأجل المسمى هذا المحدود المقدر هو الذي يشترك فيه العباد، وهو أجل القيامة الكبرى، والأجل الأول هو الموت، ولهذا قيل: قد ينقص من هذا الأجل فتزاد هذه الروح، وقد يُزاد فيه فتنقص هذه الروح، والأجل المسمى لا يزاد ولا يُنقص، وهو وقت القيامة الذي لا يعلمه إلا الله.
ومن ذلك أنه ذكر هذين أيضًا في سورة القيامة، فقال:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1، 2]، فأقسم بالأمرين جميعًا:
بيوم القيامة وهو يوم الجمع ويوم القيامة الجامعة، وأقسم بالنفس وهي التي أصل القيامة الصغرى، فإن الصابئة الفلاسفة ونحوهم مدار أمرهم في هذا المعاد على إثبات النفس. وقرر أولاً سبحانه القيامة الكبرى فقال:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 3 ــ 6]. والإنسان إنما ينكر وينتظر القيامة الكبرى، وأما الموت فكل أحد يعلم به. ولهذا كُره للخطباء أن يقتصروا في خطب الجمع والأعياد على التذكير بالموت ونحوه من الأمور التي لا يختص بها المؤمنون، وأحبوا أن يكون التذكير بما في اليوم الآخر مما أخبرت به الرسل.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العدد من خطبه {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] لتضمنها ذلك، ويقرأ يوم الجمعة {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2]، و {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1]؛ إذ في هاتين السورتين ما يكون في الجمعة من الخلق والبعث؛ إذ فيه خُلِق آدم وفيه تقوم الساعة
(1)
. وهاتان السورتان تضمنتا ذلك.
ثم إنه لما ذكر القيامة قال: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
(1)
كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (854) ومالك في الموطأ (1/ 108) ومن طريقه أحمد (2/ 486) وأبو داود (1046) والترمذي (491) والنسائي (3/ 113). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 26 ــ 30]. وهذا ذِكرٌ لحال الموت. روى أبو بكر ابن المنذر في تفسيره وغيره
(1)
من حديث هشام الدستوائي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس: حتى إذا بلغت التراقي، قال: تُنْتَزعُ نفسُه حتى إذا كانت في تراقيه قالوا: من يَصعد بنفسه؟ ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ فذلك قوله: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} .
وروى أيضًا
(2)
عن معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه قال: بلغني عن أبي العالية قال: يختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيُّهم يرقى به.
وذكر طائفة أن الراقي: الطبيب، والطبيب أيضًا إنما يُطلب في الدنيا لا في القيامة، فروى
(3)
عن سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن شبيب عن أبي قلابة: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قال: مَن طبيبٌ شافٍ؟
وروى أيضًا
(4)
عن ابن ثور عن ابن جريج وعن معمر عن قتادة في
(1)
أخرجه أيضًا الطبري في تفسيره (23/ 514، 515). وانظر الدر المنثور (15/ 135).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (15/ 136) إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(3)
أخرجه الطبري (23/ 513)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (15/ 135) إلى عبد بن حميد وابن المنذر أيضًا.
(4)
انظر تفسير الطبري (23/ 514) وتفسير عبد الرزاق (2/ 335) والدر المنثور (15/ 134).
قوله: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} ، قال: الطبيب.
وعن سهيل عن أبي صالح: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قال: من طبيب.
وعن الضحاك بن مزاحم
(1)
: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قال: هو الطبيب.
وعن أبي عبيدة
(2)
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} : من يرقي.
وعلى القولين فالضمير في «بلغت» للنفس، قال ابن ثور عن ابن جريج
(3)
في قوله: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} قال: الحلقوم.
وعن أبي عبيدة
(4)
: {بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} : صارت النفس بين تراقيه.
ولهذا قال: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} ؛ لفراق النفس البدن، وقد روي أيضًا عن سفيان عن عمرو بن دينار أنه كان يقرأ:«وأيقن أنه الفراق» .
وعن سعيد عن قتادة
(5)
{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} : استيقن أنه الفراق.
وقوله: {مَنْ رَاقٍ} يجوز أن يراد به الطبيب الراقي، والراقي الذي
(1)
تفسير الطبري (23/ 513) والدر المنثور (15/ 135).
(2)
في «مجاز القرآن» (2/ 278).
(3)
انظر الدر المنثور (15/ 134).
(4)
في «مجاز القرآن» (2/ 278).
(5)
أخرجه الطبري (23/ 515).
يصعد بالنفس ويرقَى بها، إذ كلا القولين يقال، وهذا إمّا على أن اللفظ المشترك يجوز أن يُراد به معنياه، أو على أن الكلمة نزلت مرتين، فأريد بها هذا المعنى في مرة، وهذا المعنى في مرة. مع أن الراقي الذي هو الطبيب أظهر، لقوله:{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} ، وهذا ذكرٌ لفاعل مخلوق واستفهامٌ عن راقٍ منكَّرٍ. وهذا ظاهر من حال أهل المريض، والملائكة معلومون لله، والله هو الذي يأمرهم بقبض الروح ويعين فاعل ذلك، فلا يكون هناك من يقول: هل من راقٍ؟ ولا اختصام في ذلك.
وذكر سبحانه الراقي دون الطبيب الذي يسقي الدواء ونحوه؛ لأن تعلق النفوس بالرُّقَى أعظم، ولهذا قال في صفة المتوكلين:«هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون»
(1)
. والروح إذا بلغت التراقي قد يتعذر عليها الطعام والشراب، فلا يبقى إلا ما تتعلق به من الاسترقاء والدعاء ونحوه، وكان ذلك أعظم الأسباب.
قال تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} ، قال الوالبي
(2)
في تفسيره عن ابن عباس في قوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} يقول: آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلّا من رحم الله.
وروى ابن المنذر من حديث سلمة بن سابور عن عطية عن ابن
(1)
أخرجه البخاري (5705) ومسلم (220) عن ابن عباس.
(2)
أخرجه من طريقه الطبري (23/ 516). وعزاه السيوطي في الدر المنثور (15/ 136) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم أيضًا.
عباس
(1)
: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} ، قال: الدنيا بالآخرة. وكذلك قال الضحاك
(2)
.
وعن ابن جريج عن مجاهد
(3)
في قوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أمر الدنيا بأمر الآخرة، وإنما لزوم الأمر عند الموت.
ومن حديث حماد بن سلمة عن كثير بن زياد عن الحسن
(4)
في قول الله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: ساق الآخرة وساق الدنيا، أما سمعتم الشاعر يقول:
قد قامتِ الحربُ بنا على سَاقْ
قد تبيَّن الفتح لمن هو؟
وعن معمر عن قتادة
(5)
في قوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: الساق للدنيا بساق الآخرة.
وعن أبي عبيدة
(6)
: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: مِثل شمَّرتْ عن ساقها.
(1)
أخرجه الطبري (23/ 515، 516) من طريق آخر عنه.
(2)
انظر تفسير الطبري (23/ 517) والدر المنثور (15/ 137).
(3)
تفسير الطبري (23/ 516، 518).
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (15/ 136) إلى عبد بن حميد.
(5)
أخرجه الطبري (23/ 518).
(6)
مجاز القرآن (2/ 278).
وفيها قول ثانٍ عن بشير قال سألتُ الحسنَ
(1)
، قلت: أرأيتَ قول الله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} الآية، قال: هما ساقاك إذا التفَّتا.
ومن حديث سعيد عن قتادة
(2)
: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: أما رأيت إذا حُضِر ضربَ برجلِه رجلَه الأخرى.
ومن حديث شيبان عن قتادة
(3)
: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} : ماتَتْ ساقاه فلم تحملاه، وقد كان عليهما جوَّالًا.
وعن داود بن أبي هند عن الشعبي
(4)
في قول الله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} ، قال: ساقا الميت.
وقد يقال: الآية تعمُّ المعنيين جميعًا.
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} قال ابن ثور عن ابن جريج
(5)
في قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} قال: في الآخرة.
وقوله: «في الآخرة» لا يمنع أن يكون عند الرب، كما قال مَن قال: التفت ساق الدنيا بساق الآخرة، وهو بالموت. كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا
(1)
تفسير الطبري (23/ 519) والدر المنثور (15/ 137).
(2)
تفسير الطبري (23/ 520) والدر المنثور (15/ 137).
(3)
تفسير الطبري (23/ 520) والدر المنثور (15/ 135).
(4)
انظر تفسير الطبري (23/ 519) والدر المنثور (15/ 137).
(5)
الدر المنثور (15/ 138).
جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 61، 62]. وقد دخل عثمان على ابن مسعود في مرضه، فقال: كيف تجدك؟ فقال: أجدني مردودًا إلى الله مولاي الحقّ.
وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11]، وقال تعالى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ــ 30]. وهذا الرد والرجوع مساقُها إلى الله، وهو هذا المعاد الذي يكون عند الموت. وقول المسترجع:«إنا لله وإنا إليه راجعون» يَعُمُّ هذا وغيره. وهذا هو التوفّي، كما قال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42]، وقال تعالى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11].
وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8]، و {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] ونحو ذلك يتناول هذا وهذا.
وأول ما أنزل الله على رسوله سورة «اقرأ» ، ذكر فيها الإيمان بالله واليوم الآخر، وذكر فيها حالَ الإنسان بين مبدئه ومعاده المذموم وحاله الممدوح، فذكر حال الأشقياء والسعداء، إذ قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ} إلى قوله: {الْأَكْرَمُ} [العلق: 1 ــ 3] تقريرٌ للخلق والربوبية، كما بيناه في غير هذا الموضع
(1)
. وقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَأَىهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، وهو لحاله المذموم، وقوله:{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} ذِكرٌ للمعاد، وما بعد ذلك ذكر حال المؤمن وحاله مع الكافر.
وقد ذكرنا أنه ذكر من أول السورة: القيامةَ والنفس جميعًا، وقد أقسم بهما، كما روى ابن المنذر عن الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير
(2)
، وفي روايةٍ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
(3)
قال: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال: يقسم ربكم بما شاء من خلقه.
وعن الحسن البصري وسعيد أيضًا
(4)
: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال: أُقسِم.
وكذلك عن أبي عبيدة، قال
(5)
: مجازه: أُقسِم بيوم القيامة وأُقسِم بالنفس اللوامة.
وأما النفس اللوَّامة فقد فُسِّرت بأنها التي تُلام وأنها التي تلوم،
(1)
انظر تفسير سورة العلق في مجموع الفتاوى (16/ 260 وما بعدها).
(2)
تفسير الطبري (23/ 466) والدر المنثور (15/ 95).
(3)
تفسير الطبري (23/ 467) والمستدرك (2/ 508، 509).
(4)
تفسير الطبري (23/ 465، 466).
(5)
مجاز القرآن (2/ 277).
وذلك أن صيغة «فعَّال» قد تكون للنسبة والإضافة، كما يقال: حدَّاد ونجَّار وخبَّاز وتمَّار ولبَّان وخيَّاط، أي صاحب كذا، فإذا قيل:«لوَّام» بهذا الاعتبار كان معناه صاحب لومٍ كثير، واللوم مصدر يضاف إلى الفاعل تارةً وإلى المفعول أخرى.
وقد تكون صيغة «فعَّال» توكيدَ فاعل، كعلَّام وضرَّاب وأكَّال ونحو ذلك، ومنه النفس الأمَّارة.
ولفظ «الفاعل» أيضًا يكون للنسبة، كتامرٍ ولابنٍ، وعلى هذا فما يقال: إن «فاعل» يكون بمعنى المفعول، مثل {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] ونحوه، قد يقال: إنه من هذا الباب بمعنى النسبة والإضافة.
ففي تفسير ابن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس
(1)
: قوله: {اللَّوَّامَةِ} يقول: مذمومة.
ومن حديث شيبان عن قتادة
(2)
: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال: يقسم الله بما شاء من خلقه، {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} الفاجرة، قال: يقسم بها.
وروى ابن المنذر من حديث سماك عن عكرمة عن ابن عباس
(3)
: النفس اللوامة التي تلوم على الخير، تقول: لو فعلت كذا وكذا.
(1)
تفسير الطبري (23/ 470) والدر المنثور (15/ 96).
(2)
تفسير الطبري (23/ 467) والدر المنثور (15/ 96).
(3)
الدر المنثور (15/ 96).
وعن قرة بن خالد عن الحسن
(1)
: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قال: إن المؤمن لا تراه إلّا يلوم نفسه: ما أردتُ بكلمتي، ما أردتُ [بأكْلَتي]، ما أردتُ بحديثي نفسي، ولا تراه إلا يعاتبها، وإن الفاجر يمضي قُدُمًا لا يُعاتب نفسه.
وعن ابن ثور عن ابن جريج عن مجاهد
(2)
في قوله: {بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قال: تندم على ما فات وتلوم عليه.
وبه عن ابن جريج عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
(3)
مثل ذلك. وهذا صحيح متصل عنه موافق لرواية عكرمة، وكلٌّ منهما أصح من رواية الوالبي، فإنها منقطعة، إذ الوالبي لم يسمع من ابن عباس.
قلت: وعلى هذا فاللَّوامة نحو الندَّامة والتوَّابة، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وهذا لا ينافي القول الأول، فإنها مذمومة قبل الندم بذمها وندمها، ملومة على ذلك، وهي ممدوحة بعد توبتها ولومها لنفسها. وفي مسند الإمام أحمد
(4)
عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحب العبد المفتَّن التواب» .
(1)
الدر المنثور (15/ 97).
(2)
تفسير الطبري (23/ 470) والدر المنثور (15/ 97).
(3)
الدر المنثور (15/ 96).
(4)
من زوائد ابنه عبد الله (1/ 80، 103). وإسناده ضعيف جدًّا، انظر تعليق المحققين على المسند (605).
وقد قيل: اللوم في الآخرة. روى ابن المنذر عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح
(1)
في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قال: ما من أحد إلا وهو لائم نفسَه يوم القيامة، مُحسِن لا يكون زادَ في إحسانه، ومُسِيءٌ لا يكون أقلعَ عن سيئاته، مما يرى من عِظَم عقوبة الله.
والآية قد تتناول هذا المعنى، وهذه صفة لازمة للنفس، فإنها لابدّ أن تأتي ما تُلام عليه، ولابدّ أن تلومَ نفسَها، فإن لم يتب وإلا لامَ نفسَه في الآخرة، مع أن كل امرئ لابد أن يلوم نفسه في الدنيا ولو لم يكن تائبًا إلى الله، إذ قد يفعل ما يندم عليه كما ندم ابن آدم القاتل على ترك دفن أخيه وإن لم يندم على قتله.
وكونها لوَّامةً قبل كونها أمَّارةً، وكثير من المتصوفة ونحوهم يجعل هذا في حال وهذا في حال، ويجعل الحال الثالثة أنها مطمئنة، ويقول: النفوس ثلاثة بهذا الاعتبار: أمَّارة ولوَّامة ومطمئنة، فالنفس المنتقلة إلى الحال الثالثة تتصف بالأوصاف الثلاثة، وأما غيرها فقد لا تكون مطمئنة.
والتحقيق: أن كونها أمَّارة ليس بملامٍ لها، فإن الله إنما أخبر عمن أخبر عنه أنه قال:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، فالنفس التي رحمها ربي ليست أمَّارة بالسوء، فالأمارة خاص،
(1)
لم أجد هذا الأثر. ونحوه كلام الفراء في معاني القرآن (3/ 208). ورُوي نحوه مرفوعًا عن أبي هريرة، أخرجه الترمذي (2403)، وفي إسناده يحيى بن عبيد الله، وهو متروك.
وكذلك المطمئنة خاص. وأما اللوامة فعند هؤلاء هي أيضًا خاص ببعض النفوس. والتحقيق: أن اللوامة إذا كانت بمعنى التوابة فكل أحدٍ توّاب إلى الممات، فتكون النفس أبدًا لوَّامةً، وإذا لم تكن لوامة فهي تُلام وتَلوم في الآخرة وفي الدنيا أو الدين، فكل نفسٍ لوَّامة، ولهذا جاءت معرَّفةً بقوله:{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}
(1)
.
(1)
بعدها بياض في باقي الصفحة (ق 225 ب). ثم الأوراق (226 ــ 228) فارغة.
فصل
(1)
قول من يقول: «إن لله عبادًا يَرضى لرضاهم ويغضبُ لغضبهم» حقٌّ، لكن هذا لا يستمرُّ في جميع أنواع رضاهم وغضبهم، فإن ذلك إنما يكون لمن لا ذنبَ له أصلاً، لكن قد يكون في غالب رضاهم وغضبهم. وذلك لأن من كان رضاه وغضبه موافقًا لرضَى الله وغضبه فإن الله يَرضَى لرضاه ويغضب لغضبِه، وهذا يقع من الطرفين، تارةً يَرضَون لرِضى الله ويغضبون لغضبه، وتارةً يَرضى الله لرضاهم ويغضب لغضبهم.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في صحيحه
(2)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يَروي عن ربه قال: «من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّب إليَّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمع به، وبَصَرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يَبطِشُ بها، ورِجْلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطِينَّه، ولئن استعاذني لأُعِيذَنَّه، وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدي عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يكرهُ الموتَ وأكرهُ مساءتَه، ولابدَّ له منه» .
فقد أخبر أنه من عادى وليَّه فقد بارزه بالمحاربة، وفي المعاداة
(1)
انظر في معنى هذا الفصل: مجموع الفتاوى (11/ 515 ــ 517، 10/ 58 ــ 59).
(2)
برقم (6502).
مغاضبةٌ ومباغضة، ثم قال:«فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه» إلى آخره، إلى أن قال:«وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموتَ وأكرهُ مساءتَه، ولابدَّ له منه» . فأخبرَ أنه يكره ما يكرهُ عبدُه الموت، حتى يكره مساءتَه بالموت، مع أنه لابدَّ له منه، ويُحِبّ ما يُحِبُّ. والحبّ والكراهة أصلُ الرضا والغضب.
وأيضًا ففي صحيح مسلم
(1)
عن معاوية بن قرة عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفرٍ، فقالوا: ما أخذَتْ سيوفُ الله من عُنُقِ عدوِّ الله مأخذَها. فقال أبو بكر: تقولون هذا لشيخِ قريش وسيِّدهم؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:«يا أبا بكرٍ لعلك أغضبتَهم، لئن كنتَ أغضبتَهم لقد أغضبتَ ربَّك» ، فأتاهم، فقال: يا إخوتَاهْ! أغضبتُكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أُخَيَّ أبا بكر.
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرٍ أنه إن كان أغضبَ أولئك المؤمنين الذين قالوا لأبي سفيان ما قالوا، وهم بلال وصهيب وسلمان ومن معهم من أهل الإيمان والتقوى، الذين أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
أن يَصبر نفسَه معهم وإن كانوا مستضعفين، وأن لا يُطيعَ من أغفلَ قلبَه عن ذكر الله واتبعَ هواه وإن
(1)
برقم (2504).
(2)
كان من الرؤساء= فقد أغضبَ الله. ولا ريبَ أنه لو أغضبَهم فإنه كان يكون ذلك انتصارًا لأبي سفيان لرئاستِه في قومه، وأولئك هم أولياء الله الذين يَغضَبون لله ويَرضَون له، فإغضابُهم إغضابٌ لله.