الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قلت: فأنا أسألك على هذا التقدير، بعد خروجي عن تقدير الجبر الذي نَفَوه وأبطلوه، وثباتي على ما قالوه وبيَّنوه،
كيف انبنى الثوابُ والعقابُ
(1)
، وصحَّ تسميتُه فاعلًا حقيقةً
(2)
، وانبنى فعلُه على قدرته؟
فأقول ــ والله الهادي إلى سواء السبيل
(3)
ــ: اعلم أن الله جعَل
(4)
فعلَ العبد سببًا مفضيًا إلى آثارٍ
(5)
محمودةٍ أو مذمومة.
فالعملُ الصالحُ ــ مثل صلاةٍ أقبل عليها بقلبه ووجهه، وأخلصَ فيها، وراقبَ، وفَقِه ما بُنِيت عليه من الكلمات الطيبات، والأعمال الصالحات ــ يُعْقِبُه في عاجل الأمر نورًا في قلبه، وانشراحًا في صدره، وطمأنينةً في نفسه، ومزيدًا في علمه
(6)
، وتثبيتًا في يقينه، وقوةً في عقله، إلى غير ذلك من قوة بدنه، وبهاء وجهه، وانتهائه عن الفحشاء والمنكر، وإلقاء المحبَّة له في قلوب الخلق، ودفع البلاء عنه، وغير ذلك مما يعلمُه ولا يعلمُه
(7)
.
ثم هذه [الآثار] التي حَصَلت له من النور والعلم واليقين وغير ذلك أسبابٌ مفضيةٌ إلى آثارٍ أُخَر من جنسها وغير جنسها أرفعَ منها، وهلمَّ جرًّا.
(1)
(ف): "انبنى الثواب والعقاب على فعله".
(2)
(ف): "على حقيقته".
(3)
(ف): "الصراط".
(4)
(ف): "خلق".
(5)
(ف): "مقتضيا لآثار".
(6)
الأصل: "عمله". والمثبت من (ف) أصح، وسيأتي قوله:"التي حصلت له من النور والعلم واليقين"، وسيأتي كذلك ضده بنسيان العلم.
(7)
أي العبد. والكلمة مهملة في الأصل، وفي (ف):"نعلمه".
ولهذا قيل: "إن من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، وإن من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها"
(1)
.
وكذلك العملُ السيِّء ــ مثل الكذب، مثلًا ــ يُعْقِبُ صاحبَه في الحال ظلمةً
(2)
في القلب، وقسوةً، وضيقًا في صدره، ونفاقًا، واضطرابًا، ونسيانَ علمٍ كان يَعْلَمُه
(3)
، وانسدادَ باب علمٍ كان يطلبُه، ونقصًا في يقينه
(4)
وعقله، واسودادَ وجهه، وبغضةً في قلوب الخلق، واجتراءً على ذنبٍ آخر من جنسه أو غير جنسه، وهلمَّ جرًّا، إلا أن يتداركه الله بلطفه
(5)
.
فهذه الآثار التي
(6)
تُورِثها الأعمالُ هي الثوابُ والعقاب، وإفضاءُ العمل إليها واقتضاؤه إياها كإفضاء جميع الأسباب التي جعلها الله أسبابًا إلى مسبَّباتها
(7)
.
فالإنسان إذا أكل أو شربَ حصل له الرِّيُّ والشِّبع، وقد ربط الله تعالى
(1)
أخرجه أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقات الصوفية"(382)، ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان"(6829)، والقشيري في "الرسالة" (1/ 125) عن علي بن محمد أبي الحسن المزيِّن (ت: 328).
(2)
(ف): "يعاقب صاحبه في الحال بظلمة". وهو تحريف.
(3)
(ف): "ونسيان ما تعلمه".
(4)
الأصل: "نفسه". والأشبه ما أثبت من (ف).
(5)
(ف): "برحمته".
(6)
(ف): "هي التي".
(7)
الأصل: "كاقتضاء جميع الأسباب التي جعلها مسبباتها التي جعلها الله". وهو تخليط صححته من (ف).
الشِّبَع والرِّيَّ بالأكل والشرب ربطًا محكمًا. ولو شاء أن لا يُشْبِعه [ويُرْوِيه] مع وجود الأكل والشرب فَعَل، إما بأن لا يجعل في الطعام قوَّةً مغذِّية
(1)
، أو يجعل في المحلِّ قوةً مانعة، أو بما شاء سبحانه وتعالى، ولو شاء أن يُشْبِعه ويُرْوِيه بلا أكلٍ وشربٍ لفَعَل، أو بأكل شيءٍ غير معتاد.
كذلك في اقتضاء
(2)
الأعمال المثوباتِ والعقوبات حذو القذَّة بالقذَّة؛ فإنه إنما سُمِّي "الثوابُ" لأنه يثوبُ إلى العامل من عمله، أي يرجع، و"العقابُ" لأنه يَعْقُب العملَ، أي يكون بعده. ولو شاء أن لا يُثِيبه على ذلك العمل، إما بأن لا يجعل في العمل خاصَّةً تفضي إلى الثواب، أو بوجود أسبابٍ تنفي ذلك الثواب، أو غير ذلك = لفعَل سبحانه
(3)
. وكذلك في العقوبات.
وبيان ذلك: أن نفس الأكل والشرب باختيار العبد ومشيئته التي هي مِن فِعل الله أيضًا، وحصول الشِّبَع في عقبَ الأكل ليس للعبد فيه صنعٌ البتة، حتى لو أراد دفعَ الشِّبع بعد تعاطي الأسباب الموجبة له لم يُطِق.
وكذلك نفس العمل، هو بإرادته واختياره، فلو شاء أن يدفعَ أثر ذلك العمل وثوابَه بعد [وجود] موجِبه لم يَقْدِر.
وهذه حكمة الله وسنَّته
(4)
في جميع الأسباب في الدنيا والآخرة، لكن
(1)
ساقطة من (ف).
(2)
ساقطة كذلك من (ف).
(3)
الأصل: "تنفي ذلك الثواب لفعل يفعل سبحانه". والمثبت من (ف).
(4)
(ف): "ومشيئته".
العلمَ بالأعمال النافعة في الدار الآخرة، والأعمال الضارَّة، أكثرُه غيبٌ عن عقول الخلق، وكذلك مصيرُ العباد ومُنقَلبُهم بعد فراق رُوحِهم
(1)
هذه الدار؛ فبعث الله رسله، وأنزل كتبه، مبشِّرين ومنذرين؛ لئلَّا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل.
وحكمتُه في ذلك تضارِع حكمتَه في خلق جميع الأسباب والمسبَّبات، وما ذاك إلا [أن] علمَه الأزليَّ ومشيئتَه النافذة وقدرتَه القاهرة اقتضت ما اقتضته، وأوجبت ما أوجبته، من مصير أقوامٍ إلى جنَّته بالأعمال الموجبة لذلك؛ فخلَقهم وخلَق أعمالهم
(2)
، وساقهم بتلك الأعمال إلى رضوانه. وكذلك أهل النار.
كما قال الصَّادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لما قيل له: "ألا ندَع العمل ونتَّكل على الكتاب؟ " فقال: "لا، اعملوا؛ فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِق له. أما من كان من أهل السَّعادة فسَيُيَسَّر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشَّقاوة فسَيُيَسَّر لعمل أهل الشقاوة"
(3)
.
فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن العبد
(4)
قد يُيسَّر للعمل الذي يسوقُه الله به إلى السعادة، وكذلك الشقيُّ تيسيرُه له هو نفسُ إلهامه ذلك العمل وتهيئةُ أسبابه.
(1)
ساقطة من (ف).
(2)
(ف): "مصير أقوام إلى الجنة بأعمال موجبة لذلك منهم وخلق أعمالهم".
(3)
أخرجه البخاري (4949)، ومسلم (2647) من حديث علي رضي الله عنه.
(4)
(ف): "السعيد".
وهذا هو نفسُ
(1)
خلق أفعال العباد؛ فنفسُ خلق ذلك العمل هو السببُ المفضي إلى السعادة أو الشقاوة، ولو شاء لفعله بلا عمل، بل هو فاعلُه؛ فإنه ينشئ للجنة خلقًا لما يبقى فيها من الفضل
(2)
.
يبقى أن يقال: ما الحكمةُ
(3)
الكليَّة التي اقتضت ما اقتضته من الأسباب الأُوَل، وحقيقةُ ما الأمر صائرٌ إليه في عواقب
(4)
العواقب، والتخصيصات والتمييزات الواقعة في الأشخاص والأعيان، إلى غير ذلك من كليَّات القدَر التي لا تختصُّ بمسألة خلق أفعال العباد؟ وليس هذا الاستفتاء معقودًا لها، وتفسير جُمَل ذلك لا يليق بهذا الموضع، فضلًا عن بعض تفصيله.
ويكفي العاقل أن يعلم أن الله عليمٌ حكيمٌ رحيم، بهرت الألبابَ حكمتُه، ووسعت كلَّ شيءٍ رحمتُه، وأحاط بكلِّ شيءٍ علمُه، وأحصاه لوحُه وقلمُه، وأن لله في قدَره سرًّا مصونًا، وعلمًا مخزونًا، اختزنه
(5)
دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريَّته، وإنما يصلُ أهلُ العلم به
(6)
وأربابُ ولايته إلى جُمَلٍ من ذلك وجوامعَ وكليَّات، قد يؤذنُ لبعضهم في إفشاء شيءٍ من جُمَل ذلك
(7)
وقد
(1)
(ف): "تفسير".
(2)
أخرجه البخاري (4850، 7384)، ومسلم (2846، 2848) من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما.
(3)
(ف): "فالحكمة". وهي مهملة في الأصل. ولعل الصواب ما أثبت.
(4)
ساقطة من (ف).
(5)
(ف): "احترز به". تحريف.
(6)
(ف): "يصل به أهل العلم". وهو خطأ.
(7)
من قوله: "وجوامع وكليات" إلى هنا ساقط من (ف)، ولعله لانتقال النظر.