الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كَبُر الطلبُ
(1)
عَظُمَ المبذولُ وكَثُر؛ فإن كثيرًا منه لم تعرفه النفوسُ فتشتاق إليه؛ فإن
الشوق فرعُ الشعور، ومن لم يشعُر بالشيء لم يشتق إليه
(2)
.
والحديثُ الذي ذكرتَه في مسلمٍ هو كما وجدتَ، وهو في جميع النسخ، لا يختصُّ بنسخة، لكن مسلمًا ذكر هذا اللفظ
(3)
في أول المناسك عند ذكره قوله: "لا تسافر امرأةٌ إلا مع زوجٍ أو ذي محرم"
(4)
.
فحديثُ أبي سعيدٍ تضمَّن هذا وتضمَّن قوله: "لا تسافروا إلا إلى ثلاثة مساجد"، فذكره مسلمٌ هناك لأجل ذاك، وشارحو مسلمٍ يذكرونه هناك لأجل ذاك القصد
(5)
.
ولما ذكر مسلمٌ فضائل المدينة لم يذكر إلا حديث أبي هريرة: "لا تُشَدُّ الرحال"
(6)
، فشرحه من شرحه هناك، وإلا فلو تفطَّن من غلط في فهم معناه للفظ أبي سعيدٍ عرفوا غلطهم
(7)
.
(1)
الأصل: "الطالب". والمثبت أشبه بالصواب.
(2)
انظر: "منهاج السنة"(3/ 64، 4/ 294).
(3)
يعني قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد: "لا تشدُّوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد".
(4)
"صحيح مسلم"(2/ 975 برقم 827).
(5)
انظر: "إكمال المعلم"(4/ 448)، وشرح النووي (9/ 105).
(6)
"صحيح مسلم"(2/ 1014 برقم 1397).
(7)
وذلك أن لفظ حديث أبي سعيد صريحٌ في النهي. انظر: "الإخنائية"(114، 168، 393، 422)، و"قاعدة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق"(98).
ولفظُ أبي سعيدٍ هو في "الجمع بين الصَّحيحين"
(1)
، وغالبُ ظني أنه في البخاري أيضًا، فاكشِفُوه
(2)
.
ولم يخالف هذا الحديثَ أحدٌ من السَّلف، بل الصَّحابة، كأبي سعيد، وابن عمر، وبصرة بن أبي بصرة
(3)
،
وغيرهم، متفقون على أن هذا نهيٌ يوجبُ التحريم، وأنه يتناول ما سوى المساجد الثلاثة
(4)
.
والذين خالفوا هذا من المتأخرين حزبان:
* حزبٌ ظنُّوا أن النهي لم يتناول إلا المساجد، لم يتناول آثار الأنبياء.
وهذا قول ابن حزم الظاهري، استحبَّ السَّفر إلى آثار الأنبياء، ولم يذكر المقابر؛ لكونه لا يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه
(5)
.
(1)
للحميدي (2/ 433)، ولعبد الحق الإشبيلي (2/ 329). ولشيخ الإسلام عناية بالغة بهما، وذكر البزار في "الأعلام العلية"(743) عنه أن أول كتابٍ حفظه في الحديث هو "الجمع بين الصحيحين" للحميدي.
(2)
لم أجده في البخاري، ولا رأيت من عزاه إليه. ولفظه فيه (1197، 1864، 1995): "لا تُشَدُّ الرحال". وانظر: "فتح الباري"(3/ 64).
(3)
أثر أبي سعيد أخرجه أحمد في "المسند"(11883)، وابن شبة في "تاريخ المدينة" كما في "الإخنائية"(115، 424)، وليس بالقوي.
وأثر ابن عمر أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 204)، والأزرقي في "تاريخ مكة"(304)، والفاكهي في "أخبار مكة"(2/ 87) بسند صحيح.
وأثر بصرة أخرجه مالك (364)، وأحمد (23848)، والنسائي (1430) وغيرهم بسند صحيح، وصححه ابن حبان (2772).
(4)
انظر: "الإخنائية"(114، 393، 421، 424)، و"جامع المسائل"(4/ 168).
(5)
انظر: "المحلى"(7/ 353). وأوجب كذلك (8/ 18) الوفاء على من نذر أن يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء. وانظر: "الإخنائية"(118، 420).
* وحزبٌ قالوا: إنه ليس بنهي، بل هو نفيٌ للوجوب بالنذر، أو نفيٌ للاستحباب
(1)
.
وهذا قول طائفةٍ من أصحاب الشافعي، كالشيخ أبي حامد، وأبي المعالي، ومن تبعهم
(2)
. وهو قول أبي محمد المقدسي ونحوه من أصحاب الإمام أحمد
(3)
، وقول ابن عبد البر وبعض متأخري المالكية
(4)
.
وأما مالكٌ وجمهور أصحابه، وقدماء أصحاب الإمام أحمد وجمهورهم، وطائفةٌ من أصحاب الشافعي، فيقولون: إنه نهيٌ
(5)
. وحديث أبي سعيد صريحٌ في حجة هؤلاء.
وأنا في جواب الفتيا التي لم يتَّسع فيها الكلام ذكرتُ القولين جميعًا، ولم أستقص الكلام فيها، بل بحسب حال السائل، وقد رجَّحتُ النهي، ولم أستوعب حججَ ترجيحه
(6)
.
(1)
انظر: مختصر اختلاف العلماء للطحاوي (3/ 253)، و"معالم السنن"(2/ 222).
(2)
انظر: "المهذب"(2/ 863)، و"نهاية المطلب"(18/ 431).
(3)
انظر: "المغني"(3/ 117، 118).
(4)
انظر: "الاستذكار"(2/ 41، 331)، و"المعونة" للقاضي عبد الوهاب (1/ 654)، و"المنتقى" للباجي (1/ 202، 3/ 231).
(5)
اختاره القاضي عياض في "إكمال المعلم"(4/ 449)، وحكاه أبو المعالي عن أبيه أبي محمد الجويني في "نهاية المطلب"(18/ 431). وذكر ابن بطه أن من البدع شد الرحال إلى زيارة القبور في "الإبانة الصغرى"(366)، وكذلك ابن عقيل منع من السفر إليها. انظر:"اقتضاء الصراط"(2/ 182)، و"الإخنائية"(438).
(6)
وهي فتيا قديمة مختصرة كتبها الشيخ في هذه المسألة وهو بالقاهرة، ثم أثيرت سنة 726 بعد نحو سبع عشرة سنة من كتابتها، وشنع بها بعض الناس عليه، وحرَّفوا كلامه، وكانت سبب الفتنة التي انتهت بحبسه رحمه الله. وقد نقل نصَّ الفتوى شيخ الإسلام في "الإخنائية"(136 - 150)، وصاحبه ابن عبد الهادي في "العقود الدرية"(400 - 410)، وهي ضمن "مجموع الفتاوى"(27/ 183 - 192).
وأما القول باستحباب السفر إلى زيارة القبور، فما علمتُ به إذ ذاك قائلًا لأحكيه، وإلى الآن لم أعرف أحدًا صرَّح به، لكن قد قيل: إن بعض أصحاب الشافعي قال ذلك، ابن كَجٍّ
(1)
أو غيره
(2)
، فيُكْشَفُ
(3)
في لفظ
(4)
الرافعي في النذور
(5)
.
وقد ذكرتُ في مواضع فسادَ قول من لم يجعله نهيًا ولو لم يُرْوَ حديثُ أبي سعيد، فكيف مع لفظ أبي سعيد؟!
وقد ذكرتُ اتفاق السلف على ذلك، وذكرتُ أيضًا اتفاق الصَّحابة
(1)
يوسف بن أحمد بن كَجّ، أبو القاسم الدينوري، القاضي، من أصحاب الوجوه عند الشافعية، توفي سنة 405. انظر:"تاريخ الإسلام"(9/ 100)، و"طبقات الشافعية" لابن السبكي (5/ 359).
(2)
قال ابن كج: "إذا نذر أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم فعندي أنه يلزمه الوفاء وجهًا واحدًا. ولو نذر أن يزور قبر غيره فوجهان". انظر: "العزيز شرح الوجيز" للرافعي (12/ 395)، و"روضة الطالبين" للنووي (3/ 328).
(3)
رسمت في الأصل: "فيكتب". وأرجو أن الصواب ما أثبت.
(4)
كذا في الأصل.
(5)
إنما طلب الشيخ التوثق من النقل في كتاب الرافعي، لأنه رآه أو نقل إليه من "روضة الطالبين"، وهي اختصار لكتاب الرافعي. وقد عزاه إلى "الروضة" في القاعدة التي كتبها في "الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق"(109)، وهي من جملة ما كتبه في هذه المسألة.
والسلف على تناوله لغير المساجد، وأنه إذا نُهِيَ عن السفر إلى المساجد التي هي أحبُّ البقاع إلى الله، مع أن قصدها للعبادة والدعاء والذكر مشروعٌ باتفاق المسلمين، فالسفرُ إلى المقابر التي نُهِيَ عن اتخاذها مساجد، ولم يُشْرَع قصدُها للصلاة والدعاء والذكر، بطريق الأولى والأحرى
(1)
.
وابن عبد البر والشيخ الموفَّق وغيرهما من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم موافقون على أنه لا يجوز اتخاذ القبور مساجد
(2)
.
وقال الشافعي رضي الله عنه
(3)
: أكره أن يُعَظَّم مخلوقٌ حتى يُتَّخَذ قبرُه مسجدًا؛ مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده
(4)
.
وذكر الشيخ موفَّق الدين في مُغْنيه
(5)
أنه يحرُم بناء المساجد على القبور، وأنه لو نذر أن يذبح بمكانٍ وعنده قبرٌ أو شجرةٌ أو عينٌ أو غير ذلك مما يُعَظَّم لم يجز الوفاء بنذره.
وقد بسطتُ هذه المسائل في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم"
(6)
.
(1)
انظر: "الإخنائية"(114، 175، 181، 242، 477).
(2)
انظر: "التمهيد"(1/ 168، 5/ 45، 6/ 383).
(3)
في "الأم"(2/ 633) بمعناه. وهو باللفظ الذي ذكره شيخ الإسلام في "المهذب"(1/ 456)، و"البيان"(3/ 126)، و"المجموع"(5/ 314).
(4)
الأصل: "يعبده". تحريف.
(5)
"المغني"(3/ 441، 13/ 643).
(6)
(1/ 332 - 339، 2/ 169 - 195، 294 - 304). وقد أشار ابن عبد الهادي في "العقود الدرية"(397) إلى كلام الشيخ عن مسألة شد الرحال في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم"، وذكر أنه أبلغ من تلك الفتيا التي شنع بها عليه مخالفوه وأقدم منها بكثير.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى سائر من تختارون تبليغَه السلام.
نقله شمس الدين ابن المحب من خط عمه الإمام برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن المحب، وهو نقله عن خط المؤلف، رحمهم الله تعالى.