الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و"لو لم تكن التوبةُ أحبَّ الأشياء إليه، لما ابتلى بالذنب أكرمَ الخلق عليه"
(1)
.
وهذا هو
الحكمة في ابتلاء الكُبراء بالذنوب
؛ ليُنْقَلوا منها إلى درجة المحبوب المفروح به؛ فإن الله يحبُّ التوابين، ويحبُّ المتطهِّرين، والله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده من فاقد الضالَّة التي عليها طعامُه وشرابُه إذا وجدها بعد الفِقدان
(2)
.
وهكذا ما قد يقعُ بين الناس عمومًا، وأهل الطريق خصوصًا، من المُحَاقَّات والمنافرات؛ فإن ذلك قد ينتفعون به، كما يروون عن الجنيد قال:"الصُّوفية بخيرٍ ما تَنافَروا"
(3)
.
وكثيرًا ما يقعُ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لنوع هوًى في النفوس، فلا تَخْلُص فيه النيَّة. وكثيرًا ما يقعُ ركوبُ المنكرات، ومدحُ ذي الضلالات، لعدم العلم بحقيقة أمرهم.
وهذه الأمور ــ وهي:
الجهل، والظلم ــ مبدأ الفتن والشرور
، إذا لم يتداركها الله تعالى بالعلم والهداية، قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ
(1)
أخرجه الخطيب في "الزهد"(114) عن يحيى بن معاذ، بلفظ: "لولا أن العفو من أحب الأشياء إليه
…
". وانظر: "صفة الصفوة" (4/ 92). وفي "الطيوريات" (965) بلفظ: "لولا أن الافتقار إليك من أحب الأشياء إليك
…
".
(2)
كما في البخاري (6308)، ومسلم (2744).
(3)
هو في "طبقات الصوفية" للسُّلمي (183)، و"الرسالة القشيرية"(2/ 443)، و"سير السلف الصالحين" لأبي القاسم التيمي (1113) وغيرها عن رُوَيْم، وتتمته:"فإن اصطلحوا هلكوا".
ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
وبهذين السببين يدخل أكثرُ الناس النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"القضاة ثلاثة، قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة، رجلٌ عَلِم الحقَّ فقضى به فهو في الجنة، ورجلٌ قضى للناس على جهلٍ فهو في النار، ورجلٌ عَلِم الحقَّ وقضى بخلافه فهو في النار"
(1)
.
فهذا الحديثُ في القضاة، وكلُّ من حكم بين اثنين أو طائفتين، في دينٍ أو دنيا، فهو قاضٍ. وغيرُ القاضي في معناه. بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي في الجنة من عَلِم وعدَل، دون من جَهِل أو ظلَم.
ولمَّا حضر المشايخُ السادة: الشيخ قاسم
(2)
، والشيخ هارون
(3)
، والشيخ محمد
(4)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2315)، وأبو داود (3573)، والترمذي (1322) وغيرهم من حديث بريدة رضي الله عنه، وهو حديثٌ حسنٌ أو صحيح، كما قال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق"(5/ 62). وصححه ابن حبان (3616)، وابن الملقن في "البدر المنير"(9/ 552)، والعراقي في "المغني عن حمل الأسفار"(78، 1237).
(2)
كذا في الأصل. وفي "جامع المسائل"(7/ 246، 256، 257): أبو القاسم بن عبد الله بن محمد اليونيني. ولابنه ترجمة في "الدرر الكامنة"(5/ 411).
(3)
هارون بن إبراهيم المقدسي. ولعله كان يحسن الظن بابن عربي وطائفته، ثم وافق الجماعة بعد ذلك، كما في "جامع المسائل"(7/ 256، 257).
(4)
وهو أخو أبي القاسم. وهؤلاء الثلاثة هم الذين قدموا من بعلبك، كما في "جامع المسائل"(7/ 246، 256، 258).
وكان بحضور الشيخ السيد عماد الدين الحَزَّامِي
(1)
، والشيخ القُدوة محمد بن قِوَام
(2)
، والشيخ عبد الله الجَزَري
(3)
، والشيخ تاج الدين الفارِقي
(4)
، وغيرهم
(5)
من المشايخ الذين تُحْمَدُ مقاصدُهم، وتصفو عقائدُهم، وتتطهَّر سرائرُهم.
وكان ذلك رحمةً رُحِمَ بها الحاضرُ والسامع، وانتفع به القريبُ
(6)
والشاسِع، وقام عذرُ المعذور، وعفا الله عن الذنب المغفور، وأزال الله تعالى ما كان في النفوس من الأهواء والجهل الذي يجعل المؤمنين أحزابًا وألوانًا،
(1)
أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، ابن شيخ الحَزَّامين، الإمام الزاهد القدوة العارف، توفي سنة 711، وكان شيخ الإسلام يعظِّمه ويجلُّه ويقول عنه:"هو جُنَيد وقته". انظر: "ذيل طبقات الحنابلة"(3/ 380 - 384).
(2)
محمد بن عمر بن أبي بكر بن قوام البالسي، الشيخ الصالح الناسك الوَرِع، توفي سنة 718، وكان شيخ الإسلام "يحبُّه كثيرًا"، كما يقول ابن كثير في "البداية والنهاية"(18/ 183). وكان هو معظمًا لشيخ الإسلام، ويحكى أنه كان يقول:"ما أسلمَت معارفُنا إلا على يد ابن تيمية". انظر: "ذيل طبقات الحنابلة"(4/ 504).
(3)
مهملة في الأصل. وهو عبد الله بن موسى بن أحمد الجزري، الشيخ الصالح العابد، توفي سنة 725، وكان من الملازمين لمجالس شيخ الإسلام. انظر:"أعيان العصر"(2/ 734)، و"البداية والنهاية"(18/ 258).
(4)
محمود بن عبد الكريم بن محمود، الإمام الصالح العارف، توفي سنة 733، وكان "كثير الفكر، بصيرًا بآفات القلوب، مخلصًا قانتًا لله"، كما يقول الذهبي في "معجم الشيوخ الكبير"(2/ 330).
(5)
كالشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن جبارة، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن سُونج. انظر:"جامع المسائل"(7/ 246، 257، 258).
(6)
سها ناسخ الأصل فأعاد الكلمة مرة أخرى.
وألَّف الله بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا، ومن أسرَّ خلافَ ما أعلَن فالله يجعلُ السَّريرة إعلانًا.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه"
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: "مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفهم كمَثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر"
(2)
.
وقال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدُّ بعضه بعضًا"، وشبَّك بين أصابعه
(3)
.
وقال: "ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(4)
؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "صلاحُ ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلقُ الشَّعر، ولكن تحلقُ الدِّين"
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(4)
لم أر جملة "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في شيء من المصادر. وقد وقعت هذه الزيادة كذلك في "الاستقامة"(1/ 330)، و"الفتاوى"(11/ 93، 15/ 346، 22/ 359، 24/ 174، 28/ 14، 208).
(5)
أخرجه أحمد (27508)، والبخاري في الأدب المفرد (391)، وأبو داود (4919)، والترمذي (2509) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الترمذي:"هذا حديثٌ حسنٌ صحيح". وصححه ابن حبان (5092).
وقوله: "لا أقول تحلق
…
" إلى آخره ليس من حديث أبي الدرداء، وإنما علَّقه الترمذي عقب حديثه. وهو عند أحمد (1430)، والترمذي (2510)، وغيرهما من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه، وفي إسناده اضطرابٌ نبَّه عليه الترمذي. وانظر: "العلل" لابن أبي حاتم (6/ 253)، وللدارقطني (4/ 247). وأخرجه بإسنادٍ ليس بالقوي البخاري في "الأدب المفرد" (260) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وكان الأمرُ أخفَّ مما شُنِّع به وقيل، ولم يكن صدر قبل ذلك ما كَثُرت به الأقاويل.
وإنما سالكو طريق الله، العارفون بحقيقة السَّير إلى الله، لا بدَّ عند سلوكهم الطريق، وملاحظتهم غاية التحقيق، أن يتأملوا دعاة الطريق وهُداتَه، وحفَّاظ سبيل الله وحُماتَه، ويتأملوا مصنفاتهم ومسطوراتهم ومنثوراتهم.
وكان سيدُنا العارفُ المحقِّقُ عمادُ الدين
(1)
، وغيرُه من السالكين، كالشيخ العارف المرحوم إبراهيم الرَّقِّي
(2)
، والشيخ الإمام قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد
(3)
، وغيرهما ممن في عصرنا وقبل عصرنا، مشايخُ
(1)
الواسطي الحزَّامي، المتقدم.
(2)
إبراهيم بن أحمد بن محمد، الشيخ الإمام الصالح، توفي سنة 703. انظر:"معجم الشيوخ الكبير" للذهبي (1/ 127)، و"البداية والنهاية"(18/ 36)، و"ذيل طبقات الحنابلة"(4/ 345). وله ثناءٌ عظيم على ابن تيمية، نقله ابن فضل الله والمقريزي. انظر:"الجامع لسيرة شيخ الإسلام"(319، 513).
ومن أقواله في كلام ابن عربي: "مثَله مثَل عسلٍ أُدِيفَ فيه سمٌّ، فيستعمله الشخصُ ويستلذُّ بالعسل وحلاوته، ولا يشعر بالسُّمِّ، فيسري فيه وهو لا يشعر، فلا يزال حتى يهلكه". انظر: "تاريخ الإسلام"(15/ 297).
(3)
ونقل ذلك عن العز بن عبد السلام في قول مشهور. انظر أسانيد الخبر والكلام عليه في "القول المنبي عن ترجمة ابن العربي" للسخاوي (1/ 151 - 154).
كثيرون
(1)
= تجري بينهم المفاوضةُ في كلام ابن العربي وذويه، فيرون فيه ما يُقْبَلُ وهو مِن أحسن الكلام، وفيه ما يَعْزُب فهمُه عن أكبر المميِّزين فضلًا عن العوامّ.
ثم إنهم تأملوا حقيقة ما يقصدُه في "فصوص الحكم" ونحوها مما هو خلاصة معارفه وحقائقه، وما يقصدُه من جرى على طرائقه، كابن سبعين المغربي في كتاب "البُدِّ" و"الإحاطة"، والعفيف التِّلِمْساني في شروحه
(2)
وقصائده، ومثل أواخر قصيدة ابن الفارض المسماة "نظم السُّلوك"، ومثل كلام الصَّدر القُونَوي في كتاب "مفتتَح غيب الجمع والوجود" ونحوه، ومثل كلام عبد الله
(3)
الشيرازي البِلْياني، ونحو هذه الطائفة الحادثة في دولة التتار = فوجدوا حقيقة أمرهم هو تعطيلُ الصانع، وجحدُ الخالق، وهو باطنُ مذهب الفرعونية والقرامطة الباطنية.
وهم معترفون بأن قولهم هو حقيقة قول فرعون؛ إذ ليس عندهم للخلق ربٌّ خالقٌ متميزٌ عن المخلوق، بل المخلوق عينُ الخالق، والمصنوع عينُ
(1)
ذكر السخاوي طوائف منهم في "القول المنبي". وانظر: "العقد الثمين" لتقي الدين الفاسي (2/ 161 - 199)، و"القلائد الجوهرية" لابن طولون (538).
(2)
كشرح الأسماء الحسنى، وشرح مواقف النفري.
(3)
الأصل: "أبي عبد الله"، لعله من سهو الناسخ، وعلى الصواب في "الجواب الصحيح"(4/ 498)، و"مجموع الفتاوى"(2/ 80، 115، 294، 297).
وهو عبد الله بن مسعود بن محمد بن علي البلياني الشيرازي الصوفي، توفي سنة 686. له رسالة في الوحدة المطلقة وحديث "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، نسخها الخطية كثيرة. وانظر: "معجم المؤلفين"(6/ 150).
الصانع، والناكح عينُ المنكوح، والشاتم عينُ المشتوم؛ فما نكَح سوى نفسه، وما شتَم سوى نفسه.
والذين عبدوا اللاتَ والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى ما عبدوا إلا الله، ولا يُتَصَوَّر عندهم أن يعبدوا إلا الله، وهو العابد والمعبود، والحامد والمحمود، وفرعونُ كان صادقًا في قوله:"أنا ربكم الأعلى"، والله - سبحانه - عينُ المُحْدَثات، حتى الخبائث والنجاسات.
وليس عندهم على العارف منهم واجباتٌ ولا محرَّمات، ولا أهل النار يذوقون فيها أليمَ العقوبات، ويفضِّلون أنفسهم من كثيرٍ من الوجوه على الأنبياء والرسل، حتى على خاتم الرسالات.
ويزعمون أن الله يعبدُهم كما يعبدونه، ويفتقرُ إليهم كما يفتقرون إليه، وهو غذاؤهم بالوجود، وهم غذاؤه بالأحكام، وأنه لولاهم لما كان الله تعالى.
إلى أمثال هذه العقائد التي تكاد السَّماواتُ يتفطَّرن منها، وتنشقُّ الأرض، وتخرُّ الجبال هدًّا.
ولا يرتضون لأنفسهم أن يقولوا بأنه حالٌّ في جميع المخلوقات، كما تقوله مُثْبِتَةُ الجهميَّة
(1)
الذين كفَّرهم سلفُ الأمة وأئمَّة الإسلام؛ لأن هذا
(1)
وهم متصوفة الجهمية ومتعبدتهم. انظر: "التسعينية"(194)، و"بيان تلبيس الجهمية"(3/ 290، 783، 4/ 558، 5/ 24، 70)، و"الرد على الشاذلي"(169)، و"بغية المرتاد"(350، 411)، و"درء التعارض"(10/ 288)، و"الانتصار لأهل الأثر"(86)، و"مجموع الفتاوى"(2/ 140، 172، 298، 477، 5/ 123، 228، 272)، و"جامع المسائل"(3/ 204، 4/ 417).
عندهم تثنيةٌ وقولٌ باثنينٍ أحدهما حالٌّ والآخر مَحَلّ، كما قال شاعرهم
(1)
يدعو على نفسه بالعبادات:
متى حِلْتُ عن قولي: أنا هي، أو أقُل
…
ــ وحاشى لمثلي ــ: إنها فيَّ حَلَّت
ولا يرتضون أيضًا بالاتحاد في معيَّنٍ، أو الحلول فيه، كما تقوله النصارى في المسيح، وغالية الرافضة في أمير المؤمنين عليٍّ وبعض أهل بيته، وكما يقوله قومٌ من الضُّلَّال في الحاكم بمصر، أو الحلَّاج، أو يونس القُنَيِّي
(2)
، وكما يقوله قومٌ في جميع المشايخ والأنبياء.
لا يرتضون قول من يقول بالاتحاد، أو الحلول في معيَّن، بل النصارى عندهم إنما كفروا للتخصيص، وإلا فلو أطلقوا وقالوا بالاتحاد في كلِّ شيءٍ لكانوا عارفين محقِّقين.
وكذلك عُبَّاد العجل والأصنام ما عبدوا إلا الله، لكن اقتصروا على بعض المَجَالِي
(3)
، والعارفُ عندهم من يعبد جميع الأشياء ويسجدُ لها.
وليس للربِّ عندهم حقيقةٌ سوى حقيقة العبد، قال شاعرهم:
(1)
ابن الفارض في قصيدته "نظم السلوك"، ديوانه (49).
(2)
الأصل: "القنيني". تحريف. وهو يونس بن يوسف الشيباني المخارقي، شيخ الطائفة اليونسية، توفي سنة 619. ونسبته إلى القُنَيَّة، تصغير قناة، قرية من نواحي ماردين. انظر: "وفيات الأعيان"(7/ 257)، و"تاريخ الإسلام" (13/ 591). وتتحرف إلى: القنيني، العنيني، القتي. انظر:"مجموع الفتاوى"(2/ 296، 448، 3/ 395).
(3)
المظاهر، جمع مَجْلَى. وهي من ألفاظ متصوفة الاتحادية، ثم شاعت.
ما بالُ عِيسِكَ لا يَقِرُّ قرارُها
…
وإلام ظلُّك لا يني متنقِّلا
فلسوف تعلمُ أن سيرَك لم يكن
…
إلا إليك إذا بلغتَ المنزلا
(1)
وقال أيضًا
(2)
:
وتلتذُّ
(3)
إن مرَّت على جسدي يدي
…
لأنِّيَ في التحقيق لستُ سواكمُ
وقال أيضًا
(4)
:
وما أنت غيرَ الكون بل أنت عينُه
…
ويفهمُ هذا السِّرَّ من هو ذائقُ
ووصفُ هؤلاء يطول ذكرُه هنا، وكان الشيخ عمادُ الدين ــ نفع الله ببركاته ــ قد كتب في بيان حال هؤلاء ما نفع الله به
(5)
، وكتب الخادمُ في ذلك
(1)
البيتان منسوبان لابن إسرائيل نجم الدين بن سوار الدمشقي في "مجموع الفتاوى"(2/ 81)، وليسا فيما طبع من ديوانه، والثاني للعفيف التلمساني في "تاريخ الإسلام"(14/ 522).
(2)
ابن إسرائيل، كما في "الفتاوى"(2/ 80)، و"جامع المسائل"(4/ 392، 8/ 138)، وليس في المطبوع من ديوانه. ودون نسبة في "درء التعارض"(6/ 171) وغيره.
(3)
الأصل: "ويلتذ". وفي الطرة: "لعله: وألتذ". والصواب ما أثبت. وتحرفت في "جامع المسائل"(4/ 393) إلى: وقلقل.
(4)
ابن إسرائيل، والبيت في ديوانه (269)، و"الجواب الصحيح"(4/ 500)، و"مجموع الفتاوى"(2/ 80)، و"جامع المسائل"(4/ 392، 8/ 138)، و"تاريخ الإسلام"(15/ 347)، و"لسان الميزان"(7/ 190).
(5)
وكان رحمه الله ذا "ورع وإخلاص ومنابذة للاتحادية" كما يقول الذهبي، وذكر أن له "أجزاء عديدة في السلوك، والسير إلى الله تعالى، وفي الرد على الاتحادية والمبتدعة"، وأشار إليها شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى"(2/ 464).
ومن تلك الأجزاء والرسائل: "أشعة النصوص في هتك أستار الفصوص"، و"لوامع الاسترشاد في الفرق بين التوحيد والإلحاد"، و"البيان المفيد في الفرق بين الإلحاد والتوحيد". والأوليان منشورتان في "العماديات"(53 - 85، 87 - 97)، والأخيرة أشار إليها في رسالته إلى الشيخ المغربي، وهي من جملة ما كتبه في هذا الباب. انظر:"العماديات"(114)، و"القول المنبي" للسخاوي (1/ 177 - 181).
لمن استدعى ذلك منه ما يسَّره الله تعالى
(1)
، ولولا مسيسُ الحاجة إلى ذلك، والضرورة التي هي أهمُّ عند من سلك الطريق وابتُلي بهؤلاء من قتال التتار، لم يكن بالمسلم حاجةٌ إلى كشف الأسرار وهتك الأستار
(2)
، ولكن قد ابتُلي المسلمون بالتتار من جميع الأصناف.
وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
وكان الخادمُ لما ذهب إلى مصر ــ مع ضيق الوقت ــ تحدَّث معه في مذهب هؤلاء جماعاتٌ من أعيان العلماء والمشايخ والكتَّاب، وكذلك قدم علينا من الشرق مشايخُ يقتدي بهم ألوفٌ مؤلَّفة، سألوا عن حال هؤلاء.
فهذا ونحوه ما كان عندنا في هذا، وأما قصدُ أحدٍ بعينه، لا سيَّما من
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(2/ 111 - 479)، و"جامع الرسائل"(1/ 201 - 216)، و"جامع المسائل"(4/ 387 - 425، 7/ 243 - 259)، و"المسائل الإسكندرية في الرد على الملاحدة والاتحادية" المطبوع بعنوان "بغية المرتاد"، و"الجامع لسيرة شيخ الإسلام"(257، 303، 378).
(2)
ذكر شيخ الإسلام هذا المعنى في رسالته إلى نصر المنبجي. انظر: "مجموع الفتاوى"(2/ 464).
يَكْرُم
(1)
على إخوانه، فلا نقصدُ له إلا ما يقصدُه المؤمنُ لنفسه؛ إذ هذا حقيقة الإيمان.
والشيخُ العارفُ الجليلُ الشيخُ هارون قد عَلِم من جُمَل هذه الأمور وتفاصيلها، ومعرفتنا بما للشيطان في النفوس من الأغراض، ما يُخْبِرُ به الشيخَ
(2)
أيَّده الله تعالى.
فإن الله سبحانه قد أنعمَ عليكم وبكم، وأجرى على أيديكم من منافع أهل البلد ما تجبُ معاونتكم عليه، وجعل فيكم من الحِلم، والكرم، والسيادة، وصحَّة الاعتقاد، وتعظيم الدين وأهله، والقيام بمصالح الإخوان وحقوق ذوي الحقوق، وقضاء حوائج ذوي الحاجات = ما نرجو من الله تعالى أن يتمَّ نعمته عليكم، ويجعل ما أنعم به نعمةً تامةً في الدين والدنيا.
وقد تحدَّثتُ مع الشيخ هارون غير مرَّةٍ فيما يتعلَّق بهذا، والخادمُ حريصٌ على خدمتكم وإعانتكم، وجلب المنفعة في الدين والدنيا لأهل البلد بسببكم.
ولا ريب أن الله إذا أقام بكم منار الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالصَّلوات والزَّكوات، والنهي عن الربا في المعاملات، والعدل في القضايا، ودفع الظلم عن الرَّعايا = كان هذا من أكبر نعم الله عليكم وعلى المسلمين، فأنتم الرأسُ وغيركم جسدٌ من الأجساد، وأنتم إنسانُ العَين وغيركم السَّواد.
(1)
أي: يعزُّ عليهم. والكلمة مشتبهة مهملة في الأصل.
(2)
الشيخ قطب الدين ناظر الجيش.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعَم"
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من سنَّ سنَّةً حسنةً كان له أجرُها وأجرُ من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنَّةً سيئةً كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ من عمل بها إلى يوم القيامة"
(2)
.
وإذا ألَّف الله بكم بين ذوي الأرحام والأصهار، كان هذا من نعم الله الكبار.
والخادمُ خادمٌ لخدمتكم، مسارعٌ إلى قضاء ما يُطْلَبُ من المصالح من جهتكم، ذابٌّ عن حماكم، وهو يرى ذلك من الواجبات في دين الإسلام، أعني به الإسلام الحقيقيَّ الذي بعث الله به رسوله، فإني دائمًا أجدِّدُ إسلامي
(3)
، وأعوذ بالله من الخروج عنه في نقضي وإبرامي.
واتفق أنه لما أراد الخادمُ أن يكتب جوابكم، وهو والشيخ هارون في هذه الهمَّة، قدم علاء الدين علي بن سَبُع من الديار المصرية، ومعه مراسيمُ سلطانيةٌ ببعض الجهات المتعلِّقة بالبلد مِن نظر الحِسبة وغيرها، واجتمع بالخادم، فقلت له: هذا أمرٌ لا يُتَكلَّم فيه إلا بمرسوم الشيخ قطب الدين
(1)
أخرجه البخاري (2942)، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
(3)
قال ابن القيم في "مدارج السالكين"(1330) عن شيخ الإسلام: "وكان إذا أُثنِي عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدِّد إسلامي كلَّ وقت، وما أسلمتُ بعد إسلامًا جيدًا".
وبأمره؛ فإني أحبُّ أن يكون أمر البلد منتظمًا فيما يراه من المصلحة.
وحضر الشيخُ هارون وعلاء الدين، فرأيتُ علاء الدين كثير الخدمة والخضوع للشيخ
(1)
، وقال لي وللشيخ هارون ما أشهدنا به عليه أنه مملوكُ الشيخ وعبدُه وتحت أمره، ومنفِّذٌ ما يَرْسُمُ به، مطيعٌ لما يتقدَّم به، وأشياء كثيرة من هذا النمط، والكلام فيه موقوفٌ على ما يَرْسُمُ به الشيخُ ويتقدَّم به؛ فإنه قد ظهر الخللُ في أحواله، لفقره وكثرة عياله، وقد اعتنى به من المصريين مثل الوزير والصاحب شمس الدين وغيرهما من أمرائهم.
والله يَخِيرُ لكم وله ولأهل البلد ولسائر المسلمين ما هو الخِيَرة من الدنيا والآخرة، ويصلح الأحوال الباطنة والظاهرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.
آخر ما كتب قدَّس الله روحه، ونقلته من خطِّ الإمام شمس الدين محمد ابن المحب، وقال: نقلته من خط عمي أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن المحب. كتبه محمد بن الحبال الحراني سبط سبط الشيخ محمد بن قوام عفا الله عنهم.
(1)
الشيخ قطب الدين ناظر الجيش.