الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
في مذهب الشافعي في القرآن وكلام الله
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، وصلى الله على سيد المرسلين
* ما تقول السادة العلماء أئمَّة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجلٍ قال له شخصٌ: يا فلان، ما مذهبك؟ قال: شافعيُّ المذهب. فقال له ذلك الشخص: بل أنت حنبلي. قال: ولِمَ؟ قال: لأنك تعتقد اعتقاد الحنابلة، تزعم أن القرآن كلام الله. فقال له: فكلامُ من هذا القرآن؟ فقال: يصلحُ أن يكون كلام جبريل. وقيل له: أنت تقول: القرآن كلام جبريل؟ فقال: أيُّ قرآن؟ فقيل له: وللناس قرآنان؟! فقال: نعم. وقال: من زعم أن هذا القرآن الذي يقرؤه الناسُ كلام الله فهو حلوليٌّ يقول بقول النصارى الذين يقولون بحلول القديم بالمُحْدَث! فهل أصاب في هذه الإطلاقات أم أخطأ؟ وهل يستتابُ منها أم لا؟ وهل يكفر إن دعا إليها وأصرَّ عليها بعد بيان الأدلة من الكتاب والسُّنَّة وإجماع السَّلف أم لا؟ أفتونا مأجورين، وابسطوا لنا القول.
فأجاب الشيخ أبو العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله، فقال:
الحمد لله ربِّ العالمين.
كلام هذا السائل فيه افتراءٌ على الشافعيِّ رضي الله عنه ومذهبه، يستحقُّ به التعزير البليغ بافترائه على أئمَّة المسلمين ومذاهبهم.
وفيه افتراءٌ على الله عز وجل وكتابه، يستحقُّ به أن يستتاب، فإن تاب وأقرَّ أن القرآن كلام الله وإلا ضُرِبت عنقُه.
* أما الأول، فإنه يقتضي أن مذهب الشافعيِّ رضي الله عنه أن القرآن ليس كلام الله. وهذا افتراءٌ على الشافعي ومذهبه، وكلُّ من عرف مذهب الشافعيِّ
علم بالاضطرار أن مذهبه أن القرآن كلام الله ليس شيءٌ منه كلامًا لغيره.
وإن كان بعض المنتسبين إليه قال قولًا يخالفُ ذلك فالشافعيُّ رحمه الله بريءٌ منه، كبراءة عليٍّ رضي الله عنه من الرافضة، وبراءة سائر الأئمَّة مالك وأبي حنيفة وأحمد من الرافضة والمعتزلة والحلولية ومِن هذا القول المذكور، وإن كان من المنتسبين إلى الأئمَّة من يقول ببعض أقوال هؤلاء.
وهذا القول إنما يضافُ إلى بعض المنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري، والشافعيُّ رضي الله عنه كان قبل الأشعري، ومات رحمة الله عليه قبله بأكثر من مئة سنة
(1)
.
وأصحابه العارفون بمذهبه، كالشيخ أبي حامد الإسفراييني إمام الطريقة العراقية، والشيخ أبي محمد الجويني شيخ الخراسانيين، وغيرهما، يذكرون أن مذهب الشافعي في مسألة كلام الله تبارك وتعالى هو مذهب أحمد بن حنبل وسائر أئمَّة المسلمين، وأنه ليس هو القول المضاف إلى الأشعري
(2)
.
مع أن الأشعريَّ لا يُطْلِقُ القول بأن القرآن كلام جبريل، بل يقول: إن القرآن كلام الله عز وجل، لكن هو صنَّف في الردِّ على الفلاسفة والمعتزلة والرافضة وغيرهم، وانتصر لمذهب أهل الحديث والسُّنَّة، وانتسب إلى الإمام أحمد وسائر أئمَّة السُّنَّة، وأثبت الصفات الواردة في القرآن، وأبطل
(1)
توفي الشافعي سنة 204، وتوفي الأشعري سنة 324.
(2)
انظر: "درء التعارض"(2/ 95 - 100، 105 - 110)، و"جامع المسائل"(5/ 127، 128)، و"مجموع الفتاوى"(12/ 160، 306، 557).
تأويل النُّفاة لها، ولم يختلف كلامه في ذلك، بل جميع كتبه المصنَّفة بعد رجوعه عن قول المعتزلة ليس فيها إلا هذا القول.
وكذلك أئمَّة أصحابه، كالقاضي أبي بكرٍ
(1)
وأمثاله.
وقال في آخر مصنَّفاته
(2)
: "فإن قال قائل: قد أنكرتم قول الجهميَّة والقدريَّة والرافضة والحرورية والمرجئة، فعرِّفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تَدِينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي نَدِينُ بها: التمسُّك بكتاب ربنا، وبسنَّة نبينا، وبما روي عن الصَّحابة والتابعين وما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون، ولما خالف قولهم مجانبون؛ فإنه الإمام الكامل، والرئيس الفاضل، الذي أبان الله به الحقَّ، وأوضح به المنهاج، وقمع به بِدَع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشكَّ الشاكِّين، فرحمة الله عليه من إمامٍ مقدَّم، وكبيرٍ مفهَّم، وعلى جميع أئمَّة المسلمين"، وذكر جملة اعتقاده الذي حكاه عنه الحافظ أبو القاسم علي بن عساكر في كتاب الذَّبِّ عنه
(3)
.
وكان القاضي أبو بكر بن الطيِّب ــ من أجلِّ أتباعه ــ يكتبُ أحيانًا في أجوبته: "محمد بن الطيِّب الحنبلي"
(4)
.
(1)
محمد بن الطيب الباقلاني.
(2)
"الإبانة عن أصول الديانة"(20).
(3)
"تبيين كذب المفتري"(157 - 158). وفي بعض حروفه اختلاف، وكأن الشيخ
…
ينقل هنا من حفظه. والنص في "الفتوى الحموية"(499)، و"بيان تلبيس الجهمية"(3/ 310، 4/ 285) وغيرهما موافق للفظ "الإبانة" و"التبيين".
(4)
انظر: "درء التعارض"(1/ 270، 2/ 17، 100)، و"الصفدية" (2/ 162). وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (15/ 549):"وهذا غريبٌ جدًّا".
ومع هذا، فاعتقاد أهل السُّنَّة ليس لأحدٍ من الأئمَّة به اختصاص، لا لأحمد ولا للشافعي ولا غيرهما، بل هو التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى.
فأهل السُّنَّة يؤمنون بما أخبر الله به ورسولُه، وهذا هو أصلُ اعتقادهم، وإنما الأئمَّة مبلِّغون لذلك، ومثبتون له، و [منكرون]
(1)
لقول من خالفه.
فأبو الحسن الأشعريِّ صنَّف في الردِّ على أهل البدع الكبار مصنفاتٍ، وسلك في مسألة الكلام والصفات مسلك أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب.
وكان ابن كُلَّاب قد صنَّف في إثبات الصفات والردِّ على المعتزلة مصنفاتٍ، لكنه سلك في إثبات حدوث العالم طريقة المعتزلة المعروفة بطريقة الأعراض، المبنية على امتناع دوام الحوادث.
وهذه الطريقة أنكرها أئمَّة السُّنَّة، وهي أصلُ الكلام الذي أنكره مالكٌ والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم، وهو المنقول إنكارُه عن أبي حنيفة وأئمَّة أصحابه
(2)
.
وهي الطريقة التي استطالت بها عليهم الفلاسفة في مسألة حدوث العالم
(3)
؛ فإنهم ظنُّوا أنهم يثبتون بها حدوث العالم، فعُورِضوا بأنها توجبُ
(1)
زيادة ضرورية لاستقامة الكلام. وكذلك سائر الزيادات الآتية.
(2)
انظر: "بيان تلبيس الجهمية"(2/ 161)، و"درء التعارض"(7/ 294).
(3)
انظر: "درء التعارض"(8/ 279)، و"التسعينية"(771)، و"منهاج السنة"(1/ 299، 425، 445)، و"النبوات"(279)، و"مجموع الفتاوى"(13/ 157)، و"جامع المسائل"(2/ 279).
قِدَم العالم، وبين أن القول بها نشأ من القول بحدوث العالم، بل وبإثبات الصانع
(1)
.
فلما سلك أبو محمد ابن كُلَّاب هذا المسلك، اضطرَّه التقسيمُ إلى أن جعل كلام الله معنًى واحدًا قائمًا بذات الله، هو الأمرُ بكلِّ ما أمَر به، والخبرُ عن كلِّ ما أخبَر به، إن عُبِّر عنه بالعِبرانية كان توراةً، وإن عُبِّر عنه بالسريانية كان إنجيلًا، وإن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنًا.
واتفق جمهور العقلاء من أهل السُّنَّة والبدعة على أن هذا القول معلومُ الفساد بالضرورة.
واضطرَّه ذلك إلى أن جَعَل الكلام العربيَّ مخلوقًا، وأنه ليس هو كلام الله، وأن القرآن العربيَّ الذي نزل به جبريلُ على محمدٍ ليس هو كلام الله، ولم يتكلَّم به، وإنما كلامه ذلك المعنى الذي هو الأمر والنهي.
فوافق المعتزلةَ على القول بخلق القرآن الذي قالوا: إنه مخلوق، وأثبت كلامًا قديمًا.
فبيَّن جمهورُ العقلاء أنه لا حقيقة له.
فصار بعض المنتسبين إليه يقول: إن القرآن العربيَّ خلقه الله في بعض الأجسام، كما قالته المعتزلة.
(1)
كذا في الأصل. والعبارة مضطربة.
وبعضهم يقول: بل هو تأليفُ جبريل ونظمُه، فَهِمَ عن الله معانيَ
(1)
مجرَّدة، ثم عبَّر عنها.
فقال له من أراد بيان فساد هذا: [هذا] تشبيهٌ
(2)
للربِّ سبحانه بالأخرس الذي في نفسه معنًى [لا] يمكنه التعبيرُ [عنه]، فيجيء من فَهِم مراده فيُعَبِّرُ عنه
(3)
.
لكن الأخرس يُفْهَمُ ما في نفسه بإشارته وإيمائه، وهذا عنده ممتنعٌ على الربِّ سبحانه، بل طريقُ ذلك أن يَخْلُقَ في نفس جبريل علمًا بمراده، من جنس الإلهام.
وحينئذٍ فيكون جبريلُ أُلْهِمَ شيئًا عبَّر عنه وجاء به إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فيكون من أُلْهِمَ مرادَه أن يُرى
(4)
بمنزلة جبريل الذي أخذ عنه محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يقول من بنى على هذا الأصل، كابن عربي: أنا آخذُ من المعدن الذي يأخذُ منه الملَكُ الذي يوحي به إلى الرسول
(5)
.
وقد فرَّق الله بين الوحي وبين التكليم الخاصِّ في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
(1)
ضبطت في الأصل: "معانٍ"، وهو خلاف العربية وأسلوب المصنف في عامة كلامه، ولعله من تصرف الناسخ. وانظر:"جامع المسائل"(6/ 16).
(2)
الأصل: "فنسبه". تحريف.
(3)
انظر: "التسعينية"(98، 434)، و"مجموع الفتاوى"(6/ 537، 12/ 552).
(4)
كذا في الأصل. والضبط مني.
(5)
"فصوص الحكم"(63).
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} إلى قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163 - 164] ، ففرَّق بين إيحائه إلى سائر الأنبياء وتكليمه لموسى
(1)
.
وكذلك قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] ، فجعل تكليمَه للبشر ثلاثة أصناف
(2)
:
أحدها: الإيحاء إليهم.
والثاني: التكليم من وراء حجاب، كما كلَّم موسى.
والثالث: أن يرسل رسولًا، فيوحيَ بإذنه ما يشاء.
فإن كان جبريلُ لم يأخذ القرآن عن الله إلا وحيًا كان إيحاءُ الله بلا واسطة جبريلَ أعظم، فتكون إلهاماتُ عمر بن الخطاب أفضل من القرآن وأعلى بدرجتين؛ لأن القرآن أخذه محمدٌ عن جبريل، وجبريلُ عن إلهام الله، وعمرُ [أخذ] الإلهام عن الله!
وقال بعضهم: إن جبريل أخذ القرآن عن اللوح المحفوظ.
(1)
انظر: "الصفدية"(1/ 204)، و"التسعينية"(969)، و"درء التعارض"(10/ 200، 213)، و"بغية المرتاد"(385)، و"بيان تلبيس الجهمية"(8/ 129)، و"مجموع الفتاوى"(6/ 477، 532، 12/ 128، 137، 396، 402، 532، 542، 558، 588، 15/ 224).
(2)
انظر: "بيان تلبيس الجهمية"(7/ 265)، و"مجموع الفتاوى"(2/ 228، 6/ 477، 12/ 279، 300، 397)، و"جامع المسائل"(5/ 284).
وعلى هذا تكون اليهودُ أعظم قدرًا عند الله من محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله كتب التوراة لموسى، وأنزلها مكتوبةً، فتلقَّى بنو إسرائيل ما في الألواح عن الله. فإن كان جبريلُ إنما أخذ القرآن عن اللوح، صار جبريلُ كبني إسرائيل، وصار محمدٌ كمن أخذ كلام الله عن بني إسرائيل! وإذا كان هذا باطلًا وكفرًا فما استلزم الباطلَ فهو باطل
(1)
.
وأيضًا، فتفريقُ الله بين "الإيحاء" و"التكليم" دليلٌ على أن الله كلَّم موسى بكلامٍ سمعه موسى، كما قال تعالى:{فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13].
ومن قال: "الكلام مجرَّد معنًى قائمٍ بالنفس" يقول: تكليمُ موسى إنما هو خلقٌ لطبيعةٍ فيه أدرك بها ذلك المعنى.
ثم إنهم يقولون: إن ذلك المعنى لا يتبعَّض، فقال لهم بعض أهل العلم: فموسى أدركَ جميعَ المعنى القائم بالذات أو بعضه؟ إن قلتم: الجميع، فيكون موسى قد أدرك جميع كلام الله، وعَلِمَ جميع ما تكلَّم الله به، وكلامُه متضمنٌ
(2)
لكلِّ خبرٍ أخبر الله به، فيكون موسى قد علم جميعَ ما أخبَر به الأولين والآخرين!
وهذا معلومُ الفساد بالضرورة، ولو لم يكن إلا ما أتاه الخضر، فإن موسى لم يعلم ذلك، بل قال له الخضر لما نقر العصفورُ في البحر نقرة: "ما نقص علمي وعلمُك من علم الله إلا كما نَقَصَ هذا العصفورُ من هذا
(1)
الأصل: "بالباطل".
(2)
الأصل: "يتضمن".
البحر"
(1)
.
وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع
(2)
.
وبالجملة، فنحن نعلمُ بالاضطرار من دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم أن القرآن كلام الله، ليس كلامًا لغير الله، لا لمحمدٍ ولا جبريل ولا غيرهما، ولكن الله يضيفه إلى هذا الرسول تارة، وإلى هذا الرسول تارة؛ لكونه بلَّغه وأدَّاه، لا لأنه أنشأه وابتداه.
ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19 - 20]، فالرسول هنا: جبريل.
وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40 - 41]، فالرسول هنا: محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: لَقَوْلُ ملَكٍ ولا نبيٍّ.
بل كفَّر من قال: إنه قولُ البشر، كما في الوحيد الذي قال:{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} الآية
(3)
[المدثر: 25 - 26].
وقول القائل: "إنه قولُ مَلَكٍ أو نبيٍّ
(4)
" من جنس قوله: "إنه قول
(1)
أخرجه البخاري (122) ومسلم (2380) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
(2)
انظر: "منهاج السنة"(5/ 419)، و"مجموع الفتاوى"(9/ 283، 12/ 49، 130، 17/ 153)، و"جامع الرسائل"(2/ 12).
(3)
كذا في الأصل. وموضع الشاهد هو الآية الأولى، وأخشى أن تكون زيادة الثانية من سهو الناسخ واسترساله مع حفظه. وانظر:"بغية المرتاد"(220)، و"درء التعارض"(1/ 258)، و"التسعينية"(543، 1009)، و"مجموع الفتاوى"(12/ 20).
(4)
الأصل: "اوحي". تحريف.
البشر"، كلُّ ذلك كفر.
وقد قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، فأخبر أن جبريل نزَّله من الله، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114]، وقال تعالى:{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 1 - 2]، {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 - 2]، ونظائره كثيرة.
فصل
وأما قول القائل: "من زعم أن القرآن الذي يقرؤه الناسُ كلام الله فهو حلوليٌّ يقول بقول النصارى الذين يقولون بحلول القديم في الحادث"، فهذا يدلُّ على جهله بدين المسلمين ودين النصارى!
* أما المسلمون، فإنهم إذا قالوا كما قال الله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] لم يريدوا
(1)
بذلك أن الكلام الذي تكلَّم به الربُّ وقام بذاته انتقل إلى القُرَّاء؛ فإن الانتقال ممتنعٌ على صفات المخلوقين، فكيف على صفات الخالق؟!
والمسلمون إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وبلَّغوه عنه، وقالوا: إنه قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى"
(2)
، كانوا مبلِّغين لكلام
(1)
الأصل: "يريدون".
(2)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر رضي الله عنه.
النبي صلى الله عليه وسلم بحركاتهم وأصواتهم، لا بصوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ما قام به من كلامه ــ حروفه ومعانيه ــ منتقلةً عنه ولا حالَّةً فيهم.
فكيف يقال: إن جبريل سمع كلام الله من الله، وبلَّغه إلى رسوله محمد، فيكون شيءٌ
(1)
من كلام الله منتقلًا عن ذات الله وحالًّا بجبريل، فضلًا عن أن ينتقل إلى البشر ويحلَّ بهم؟!
بل الكلامُ كلامُ من قاله مبتدِئًا، لا كلامُ من قاله مبلِّغًا مؤدِّيًا
(2)
.
وموسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، وأما المسلمون فإنما سمعوه من المبلِّغين عنه، لم يسمعوه من الله عز وجل.
والفرق بين السَّماعَيْن ظاهر، هذا سماعٌ بواسطةٍ وهذا سماعٌ بلا واسطة، كما أن الشمس والقمر والكواكب قد يراها بطريق المباشرة، وقد يراها بواسطة ماءٍ أو مرآةٍ أو جسمٍ صقيل؛ فهذه رؤيةٌ مقيَّدةٌ بواسطة، لم يباشِرْها بالرؤية. وكذلك السامع لكلام المتكلِّم من المبلِّغ عنه، هو سمعٌ مقيَّدٌ بواسطة، لم يباشره بالسَّمع
(3)
.
وإذا قيل: "رسول الله بلَّغ عن ربه"، و"حكى عن ربه"، و"حدَّث عن ربِّه"، و"روى عن ربِّه"، كان صحيحًا.
وإذا قيل: "هذا حكاية القرآن"، بمعنى أن أحدًا يحاكي كلام الله، فيأتي
(1)
الأصل: "يكون شيئا". والمثبت أظهر.
(2)
انظر: "درء التعارض"(1/ 256)، و"التسعينية"(538، 550، 963).
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى"(12/ 137).
بمثله
(1)
، فهذا باطل، قال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
ومن قال: "إن المداد الذي في المصاحف، والأصوات المسموعة من القُرَّاء، قديمةٌ أزليَّة"، فهو ضالٌّ ضلالًا مبينًا، مخالفٌ لصريح المعقول والمنقول، ولم يقل هذا أحدٌ من أئمَّة المسلمين، لا أبو حنيفة، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا أحمد، ولا جماهير أصحابهم
(2)
. كما أن القول بأنه معنًى واحدٌ قائمٌ بالذات قولٌ مخالفٌ لصريح المعقول والمنقول، لم يقله أحدٌ من أئمَّة المسلمين ولا جماهير أصحابهم.
* وأما مذهب النصارى، فإن عندهم أن أُقْنُومَ الكلمة هو جوهرٌ قائمٌ بنفسه، يخلقُ ويرزق، ويغفرُ ويرحم، وهو الإله المعبود، وهو المتَّحدُ بالمسيح.
فالكلمة عندهم ليست مجرَّد
(3)
صفةٍ قائمة بالمتكلِّم، ولا الحلولُ عندهم حلول صفة الله في غيره، بل نفس المسيح عندهم إلهٌ يغفرُ ويرحم، ويقيمُ القيامة.
فالحلول الذي تقوله النصارى يشبه قول من يقول في بعض البشر: إنه إله، كما تقوله الغاليةُ في الأئمَّة والشُّيوخ.
(1)
الأصل: "مثله".
(2)
انظر: "التسعينية"(437، 533، 535).
(3)
الأصل: "مجردة".
فإن كان في المسلمين من يقول: إنه
(1)
من القرآن، فقد صار إلهًا، فهذا يقول بقول النصارى. وإن لم يكن في المسلمين من يقول ذلك فهذا كذبٌ
(2)
على المسلمين
(3)
.
وهذه نكتةٌ مختصرة؛ إذ كان جوابُ هذه الورقة مبسوطًا في غير هذا الموضع.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمدٍ وآله.
وكان الفراغ على يد العبد الفقير الحقير المقر بالذنب والتقصير راجي عفو ربه السميع البصير محمد بن حمد بن نصر الله، غفر الله له ولوالديه.
(1)
أي: بعض البشر.
(2)
الأصل: "تحدث". ويحتمل أن تكون: "تحريف".
(3)
انظر: "الجواب الصحيح"(3/ 315، 489، 4/ 332 - 350)، و"التسعينية"(845 - 866)، و"مجموع الفتاوى"(12/ 292 - 295، 389).