الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
في الأولياء والصالحين والأقطاب والأبدال
ورجال الغيب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين.
وسئل شيخ الإسلام ومفتي الأنام أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه:
عن الحديث المرويِّ على ألسنة الناس: "ما من جماعةٍ اجتمعوا إلا وفيهم وليٌّ لله تعالى، لا هم يدرون به، ولا هو يدري بنفسه"، هل هو صحيحٌ أم لا؟
ومن أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون؟
ومن الصَّالح؟
وهل لرجال الغيب حقيقة؟ وهل ينبتُ الشَّعرُ على أبدانهم، فيستغنوا به في جميع أوقاتهم عن لبس الثياب، ويقيهم من الحرِّ والبرد، ويستُر عوراتهم، أم لا؟
وما معنى الأبدال والقُطْب؟ وهل يكونون في البراري والجبال، أم في المدن بين أظهر الناس؟ وهل لهم علامةٌ يُعْرَفون بها أم لا يعلمهم إلا الله عز وجل؟
أجاب شيخ الإسلام رضي الله عنه:
الحمد لله ربِّ العالمين.
* أما الحديث المذكور أنه "ما من جماعةٍ اجتمعوا إلا وفيهم وليٌّ لله"، فلا أصل له
(1)
، وهو كلامٌ باطل؛ فإن الجماعة قد يكونون كفارًا مشركين
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(11/ 60)، و"المصنوع" للقاري (163).
وكتابيِّين، وقد يكونون فسَّاقًا يموتون على الفسق.
* وأما أولياء الله عز وجل، فهم الموصوفون في قوله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63]، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون.
والتقوى هي المذكورة في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وهم قسمان: مقتصِدون، ومقرَّبون
(1)
.
فالمقتصِدون: الذين يتقرَّبون إلى الله بالفرائض من أعمال القلوب والجوارح.
والسَّابقون: الذين يتقرَّبون إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، كما روى البخاري في صحيحه
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى
(1)
انظر: "الجواب الصحيح"(5/ 59)، و"الفتاوى"(2/ 224، 417، 11/ 23، 61، 176، 549)، و"جامع المسائل"(1/ 68، 86). والمقربون هم السابقون.
(2)
صحيح البخاري (6502).
أحِبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يبصرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يسعى، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذ بي
(1)
لأعيذنَّه، وما تردَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعلُه تردُّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموتَ وأكره مساءته، ولا بدَّ له منه"
(2)
.
والوليُّ: خلاف العدوِّ. وهو مشتقٌّ من الوَلاء، وهو الدنوُّ والتقرُّب
(3)
. والتقرُّب
(1)
هذه إحدى الروايتين، والأخرى بالنون "استعاذني"، وكلاهما محفوظ.
(2)
كذا ساق شيخ الإسلام الحديثَ في مواضع كثيرة من كتبه معزوًّا إلى البخاري، وفي سياقه زياداتٌ وألفاظ لم أجدها في الصحيح:
- كقوله: "فقد بارزني بالمحاربة"، وإنما يروى هذا من حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما ولفظ البخاري:"فقد آذنته بالحرب".
- وكزيادة: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يسعى"، فليست في الصحيح، ونصَّ الشيخ على أنها روايةٌ في غير الصحيح، في "مجموع الفتاوى"(2/ 390)، ولم أقف عليها مسندة، وهي في "نوادر الأصول"(2/ 112، 408، 4/ 69)، و"الرسالة القشيرية"(1/ 192)، وغيرهما دون إسناد.
وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام"(15/ 629): "لم أجد هذه اللفظة". وانظر: "كلمة الإخلاص" لابن رجب (34)، و"فتح الباري"(11/ 344)، و"السلسلة الصحيحة"(4/ 191).
- وكذلك زيادة: "ولا بدَّ له منه" في آخره ليست من رواية البخاري، وإنما رواها محمد بن مخلد العطار عن ابن كرامة. انظر:"فتح الباري"(11/ 346).
- وكذلك فلفظ البخاري هو: "بشيء أحب إلي مما افترضت عليه"، "ترددي عن نفس المؤمن".
(3)
كذا رسمت في الأصل إلا أن التاء غير معجمة، والأحق بالصواب أن تكون "والقُرْب" كما في "الفتاوى"(11/ 62)، و"بدائع الفوائد"(1014)، ومعاجم اللغة. واختلفت فيها نسخ "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"(11). ولا يبعد أن يكون نظر الناسخ انتقل إلى كلمة "التقرب" في السطر الثاني فكتبها هنا على التوهُّم. ولم أجسر على تغييرها؛ لأنها وقعت كذلك في "شرح الطحاوية" لابن أبي العز، وقد نقل النصَّ بألفاظه.
فوليُّ الله: هو من والى الله بموافقته في محبوباته، إليه بمرضاته.
وهؤلاء كما قال الله تعالى فيهم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، قال أبو ذرٍّ رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، لو عمل الناسُ كلُّهم بهذه الآية لكفتهم"
(1)
.
فالمتقون يجعلُ الله لهم مخرجًا مما ضاق على الناس، ويرزقُهم من حيث لا يحتسبون، فيدفعُ الله عنهم المضارَّ، ويجلبُ لهم المنافع، ويعطيهم الله أشياء يطول شرحُها من المكاشفات والتأثيرات
(2)
.
فصل
* وأما الصَّالح، فهو: المطيعُ لله ورسوله.
وهو أيضًا: القائمُ بما وجب عليه لله ولخلقه.
وهو أيضًا: المؤدِّي للواجبات، المجتنب للمحرَّمات.
وهو أيضًا: البَرُّ.
(1)
أخرجه أحمد (21551)، وابن ماجه (4220)، والدارمي (2767)، وغيرهم بإسنادٍ فيه إرسال، وصححه ابن حبان (6669)، والحاكم (2/ 534).
(2)
انظر: "شرح الطحاوية"(2/ 508 - 509).
وهو أيضًا: العَدْل.
وهو أيضًا: وليُّ الله.
كلُّ هذه أسماءٌ متكافئةٌ
(1)
في الكتاب والسُّنَّة، أو متقاربة، وإن كان بعض الناس قد يفرِّق بينهم في عُرْفِه.
وهم قسمان، كما تقدَّم: المقتصِدون أصحابُ يمين، والسابقون المقرَّبون، كما ذكر الله تعالى هذين القسمين مع القسم الثالث في سورة فاطر، والواقعة، وسورة الإنسان، وسورة المطففين
(2)
، وأخبر أن الأبرار
ــ وهم عموم المؤمنين والأولياء ــ يشربون من كأسٍ ممزوجةٍ بالشراب الذي يشربُ به المقرَّبون عبادُ الله، وهم خصوصُ الصالحين، وخصوصُ أولياء الله تعالى.
فصل
* وأما رجالُ الغيب الذين يَغِيبون عن الناس، فلا يراهم إلا بعض الناس في البراري والجبال والمغارات المنقطعة عن الناس، فهم من الجنِّ لا من الإنس، قال الله تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].
(1)
الأسماء المترادفة في الذات المتباينة في الصفات يسميها بعض الناس: "المتكافئة"، وهي مرتبة بين المترادفة المحضة والمتباينة المحضة. انظر:"الرد على الشاذلي"(123)، و"مجموع الفتاوى"(6/ 63، 13/ 333، 20/ 424)، و"جامع الرسائل"(2/ 203)، و"جامع المسائل"(4/ 414).
(2)
فاطر: 32. الواقعة: 7 - 11، 88 - 91. الإنسان: 5 - 6. المطففين: 18 - 28.
وقد يقول أحدهم لمن يراه: "أنا الخَضِر"، أو "أنا من الأبدال"، أو "أنا من الأربعين التي في جبال لبنان"، وليس في جبل لبنان أحدٌ من الإنس يغيبُ عن الناس، والخَضِر عليه السلام مات، وإنما ذلك شيطانٌ من الجنِّ يقترنُ بمن خالف الكتابَ والسُّنَّة
(1)
.
ومن الناس من يكونُ صالحًا وليًّا لله، ويكونُ حالُه غائبًا عن عامة الناس.
نعم، يكونُ نورُ قلبه وهدى فؤاده وما فيه من أسرار الله وأمانته وأنواره ومعرفته غيبًا عن الناس، ويكونُ صلاحُه وولايتُه غيبًا عن أكثر الناس، وأسرار الله بينه وبين أوليائه، وأكثر الناس لا يعلمون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"رُبَّ أشعث، أغبر، ذي طِمْرَين، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسَم على الله لأبرَّه"
(2)
.
فأما أن يكون رجلٌ يغيبُ جسدُه عن أبصار الناس دائمًا، فهذا لا حقيقة له، وإن كان قد يغيبُ عن أبصار الناس بعض الأحيان، إما لدفع عدوٍّ عنه، وإما لغير ذلك، وذلك قد يكونُ لأولياء الله، وقد يكونُ للسَّحرة، لكن لا تدومُ الغَيبة
(3)
.
(1)
انظر: "الإخنائية"(287، 423)، و"منهاج السنة"(3/ 379)، و"مجموع الفتاوى"(1/ 362، 11/ 294، 13/ 71، 78، 217، 17/ 465، 27/ 17، 50)، و"جامع المسائل"(1/ 81).
(2)
أخرجه مسلم (2622، 2854) بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى"(11/ 443، 27/ 58).
[فصل]
* وأما القُطْب، فهو مدارُ الأمر، كلُّ من دار عليه تدبيرُ أمرٍ من أمور الدين والدنيا فهو قطبُه، قد يكونُ الرجلُ قُطبَ داره ودربه وبلده، إما في أمرٍ معيَّنٍ من أمر الدين والدنيا، وإما في أمورٍ كثيرة، كما يكونُ رئيسُ القرية ووالي البقعة قطبًا في الأمور التي يدبِّرها
(1)
؛ فإن للقلوب من التأثير أكثر مما للأجساد
(2)
.
فصل
* وأما الأبدال، فقد جاء فيهم ما رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق الشاميين، وإسناده منقطع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لا تسبُّوا أهل الشام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن فيهم الأبدال، أربعون رجلًا، كلما مات منهم رجلٌ أبدل الله تعالى مكانه رجلًا"
(3)
.
وهذا ليس بصحيح.
وفي غير هذا الحديث عن طائفةٍ أنهم يجعلون من الأبدال من هو في غير الشام.
وقد فسَّر الناطقون بهذا الاسم معنى "الأبدال" بمعانٍ
(4)
:
- فمن الناس من يقول: سُمُّوا أبدالًا لأنهم أبدال الأنبياء.
- وقيل: كلما مات رجلٌ أبدل الله مكانه رجلًا.
(1)
الأصل: "تدبرها".
(2)
فصَّل الشيخ رحمه الله القول في "القطب" في مواضع أخرى من كتبه وفتاويه. انظر: "منهاج السنة"(1/ 91 - 96)، و"جامع المسائل"(1/ 77 - 79، 2/ 70 - 90)، و"مجموع الفتاوى"(11/ 167، 433، 440، 27/ 96 - 105)، و"مختصر الفتاوى المصرية"(197، 199).
(3)
أخرجه أحمد (896)، وإسناده منقطع كما قال ابن عساكر وشيخ الإسلام، شريح بن عبيد لم يدرك عليًّا رضي الله عنه. انظر:"تاريخ دمشق"(1/ 289)، و"مجموع الفتاوى"(11/ 434)، و"جامع المسائل"(2/ 102).
وروي موقوفًا، وهو أشبه. انظر:"الأحاديث المختارة" للضياء (2/ 111).
ويروى مرفوعًا من وجوه كثيرة لا يصحُّ منها شيء. انظر: "المنار المنيف"(132)، و"المقاصد الحسنة"(43)، و"السلسلة الضعيفة"(936، 2498، 2993، 4779).
(4)
انظر: "مجموع الفتاوى"(11/ 441)، و"جامع المسائل"(2/ 67).
فكيف يُعْتَقَدُ أن الأبدال جميعهم في أهل الشام؟! هذا باطلٌ قطعًا.
- وقيل: لأنهم بدَّلوا سيئاتهم حسنات.
وفي الجملة فليس هذا الاسمُ من الدين الذي يجبُ الاعتناء به، ولا أصل له معتمدًا في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي تعلُّق القلب به وبأمثاله من الأمور المجهولة التي ليس لها أصلٌ ثابتٌ في العلم الثابت المرويِّ عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
فإن الله تعالى يقول: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4]، فمن لم يأت على ما يقوله في الدين بكتابٍ من عند الله أو أثارةٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فهو مُبْطِل.
وقد قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} [الشورى: 21].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]؛ فكلُّ شيءٍ تنازع فيه المسلمون من أمر دينهم الباطن والظاهر، فعليهم ردُّه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فإذا كان الله قد أكمل لهذه الأمة دينها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه يجبُ أن يؤخذ جميعُ الدين من الرسول.
والدين يتناول الأمور الباطنة في القلب، والظاهرة على الأجسام، فكلُّ ما يُتَقَرَّبُ به إلى الله من الأمور الباطنة والظاهرة إن لم يكن مأخوذًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا كان من البدع المُضِلَّة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالك"
(1)
.
وكان يقول في خطبته: "إن أصدق الكلام كلامُ الله، وخير الهُدى هُدى محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة"
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (17142)، وابن ماجه (43) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه في سياق طويل، وصححه طائفة من أهل العلم. وانظر تخريجًا مبسوطًا له في التعليق على "ذم الكلام" لأبي إسماعيل الأنصاري (3/ 122 - 148 طبعة الغرباء).
(2)
أخرجه مسلم (867) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ: "فإن خير الحديث كتاب الله". ولفظ أحمد (14334): "فإن أصدق الحديث كتاب الله". وباللفظ الذي معنا يورده الشيخ رحمه الله في عامة كتبه منسوبًا إلى الصحيح، ولم أجده فيه. انظر:"درء التعارض"(1/ 272)، و"الفتاوى"(11/ 471، 20/ 164، 31/ 36)، و"جامع المسائل"(8/ 212)، وغيرها. وهو على الصواب في "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 82).
فكلُّ من أخذ دينه عن المجهولات صار في جاهليةٍ وبدعةٍ وضلالة.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "من عبد الله بغير علمٍ كان ما يُفْسِدُ أكثر مما يُصْلِح"
(1)
.
وقد قال الله في كتابه تعليمًا لنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7].
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليهود مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضالُّون"
(2)
.
قال سفيان بن عيينة: "كانوا يقولون: من فسَد من العلماء ففيه شَبَهٌ من اليهود، ومن فسَد من العبَّاد ففيه شَبَهٌ من النصارى"
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد في "الزهد"(1760)، وابن سعد في "الطبقات"(7/ 362)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(36246)، والدارمي (313)، وغيرهم.
(2)
أخرجه أحمد (19381)، والترمذي (2954) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وقال:"هذا حديثٌ حسنٌ غريب". وصححه ابن حبان (6246، 7206).
وفي إسناده مقال. وله شواهد يتقوى بها. انظر: "فتح الباري"(8/ 159)، و"الروض البسام"(4/ 126).
(3)
لم أقف عليه مسندًا، ولا رأيته عند أحدٍ قبل شيخ الإسلام، وعنه انتشر في التصانيف، فذكره بعده ابن القيم وابن كثير وابن رجب وغيرهم، ولعله في بعض ما لم يصلنا من كتب "السنة" المتقدمة، وهو من دلائل سعة اطلاعه وغزارة حفظه رحمه الله.
وذلك أن اليهود كانوا يعرفون الحقَّ كما يعرفون أبناءهم، ولا يتبعونه. والنصارى عبدوا الله بغير علمٍ ولا شرع، بل كما قال الله تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27].
فمن فعل ما ذمَّه الله من اليهود، مثل الكِبْر، والحسد، وكتمان العلم، واتباع سبيل الغيِّ، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وجَحْد الحقِّ الذي يجيء به غيرُ أصحابهم، ونحو ذلك = ففيه من الشَّبه بهم بقدر ذلك.
ومن فعل ما ذمَّه الله من النصارى، مثل الغلوِّ في الأنبياء والصالحين، وابتداع العبادات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وتَرْك دين الحقِّ الذي شرعه الله لعباده، وتَرْك تحريم ما حرَّمه الله ورسوله، واتباع الأهواء بغير علمٍ ولا هدى، ووَضْع الشرائع بحكايةٍ أو منام، ونحو ذلك من أمور الضلال = ففيه من شَبَه النصارى بقدر ذلك.
وهذا بابٌ يطول شرحُه
(1)
، وإنما ذكرنا ما تحتمل هذه الفتوى
(2)
.
(1)
كتب الناسخ فوق كلمة "شرحه" بخط دقيق: "وصفه" ولم يضرب عليها، فلعله أراد التصحيح، أو الجمع بين اللفظين، وكلاهما مألوف في كلام ابن تيمية.
(2)
انظر لهذا الباب: "اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 79)، و"الإخنائية"(385، 491)، و"الجواب الصحيح"(2/ 140، 402، 3/ 185)، و"النبوات"(337)، و"منهاج السنة"(1/ 22، 473، 2/ 453، 5/ 169، 329، 7/ 210)، و"الرد على الشاذلي"(31)، و"الاستقامة"(1/ 100)، و"الفتاوى"(1/ 65، 197، 3/ 360، 5/ 100، 7/ 633، 8/ 260، 11/ 26، 453، 16/ 567، 19/ 277، 22/ 307، 27/ 127، 176، 464، 28/ 480)، و"جامع الرسائل"(1/ 259، 2/ 245)، و"جامع المسائل"(2/ 73، 5/ 217، 7/ 195).
فصل
* وأما سكَّان البادية والجبال، فليس ذلك مشروعًا لأهل الإسلام إلا عند حصول الفتنة في المِصْر، مثل أن يقتتل المسلمون، فيهاجر المرءُ إلى حيث يأمن على دينه حتى تَسْكُن الفتنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"
(1)
.
فأما أن يكون سُكنى البادية والغِيران مستحبًّا على الدوام، فليس ذلك من دين الإسلام، فضلًا عن أن يكون شعارًا لأهل ولاية الله والصَّلاح
(2)
.
وإن كان طائفةٌ من الزهَّاد فعلوا ذلك:
- ففيهم من كان معذورًا، لأجل السبب الذي أباح له ذلك.
- ومنهم من كان مجتهدًا مخطئًا، يثيبُه الله على قصده الحسن وعمله الصالح، ويغفر له خطأه.
- ومنهم من كان مذنبًا ذنبًا صغيرًا، يغفر الله له باجتناب الكبائر.
- ومنهم من كان مذنبًا ذنبًا كبيرًا، أمره إلى الله تعالى، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له.
(1)
أخرجه البخاري (10) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2)
انظر: "الاستقامة"(2/ 61)، و"مجموع الفتاوى"(18/ 11، 27/ 55)، و"جامع المسائل"(2/ 89).
- وفيهم من كان مارقًا من الدين، خارجًا عن شريعة سيد المرسلين.
- وفيهم من كان كافرًا بالكلِّية، وإن كان له عبادةٌ وزهدٌ فعبادته كعبادة النصارى والمشركين.
[فصل]
* وأما نبات الشعر على أجسادهم، فهذا كذبٌ ومحال
(1)
.
وليس لأولياء الله وعباده الصالحين زيٌّ مخصوصٌ يتميَّزون به على غيرهم في الظاهر، لا حلقُ رأس، ولا لبسُ صوفٍ أو شَعر، ولا اعتزالٌ في المنزل دائمًا، ولا تركُ مخالطة الناس دائمًا، ولا غير ذلك من الأمور التي هي غير مستحبَّةٍ في الشريعة
(2)
.
بل ولا من خصائصهم أو لوازمهم لزومُ شيءٍ معيَّن مستحبٍّ في الشريعة، ولا الزهدُ في فضول المباح، ولا صوم الاثنين والخميس، ولا صلاة الضحى، ولا التسوُّك، ولا غير ذلك
(3)
.
بل أولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، من جميع أصناف الناس، وتقوى كلِّ شخصٍ بحسب ما أمره الله تعالى به ونهاه.
فولاة الأمور تقواهم في العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(27/ 58).
(2)
انظر: "الاستقامة"(1/ 260)، و"مجموع الفتاوى"(11/ 555).
(3)
أي أن هذه الأمور وإن كانت مستحبة في الشريعة فليست شرطًا لولاية الله، فمن أولياء الله من لا يحافظ عليها. انظر:"مجموع الفتاوى"(10/ 460، 11/ 179).
والحكم بالكتاب والسُّنَّة، بحسب الإمكان.
وتقوى التاجر أن يكون صدوقًا أمينًا، مع ما يلزمه من الواجبات في غير تجارة.
فكلُّ من آمن الإيمانَ الذي أمره الله تعالى به، واتقى الله التقوى التي
(1)
أمره الله تعالى بها، فهو من أولياء الله تعالى، سواء كان من العلماء، أو الأجناد، أو الزهَّاد، أو التجَّار، أو الصُّنَّاع
(2)
.
فإن الله لما ذكر القُرَّاء في القرآن، الذين هم أهلُ الدين والعبادة، قال تعالى:{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
ومعنى قول من قال: "إن لم يكن العلماء العاملون أولياء الله فما لله تعالى وليٌّ"
(3)
، أي: أنهم من أولياء الله، أو من خير أولياء الله، أو من كبار أولياء الله. لا أن يكون أولياء الله مخصوصين بهم، كما ليسوا مخصوصين بغيرهم.
ويكونون في الفقراء والأغنياء، وفي العبيد والملوك، وغيرهم، كما كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين فيهم سادة الأولياء، وعمدة الأصفياء، من المهاجرين والأنصار:
(1)
الأصل: "الذي". تحريف.
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(11/ 22، 28/ 570، 577).
(3)
أخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن"(1/ 174)، و"مناقب الشافعي"(2/ 155)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 150) عن الشافعي.
فيهم تجَّار، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم.
وفيهم من له عقار، مثل سعد بن معاذ، وأسيد بن حُضير، وأبي أيوب الأنصاري، وسعد بن عبادة، وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين.
وكان فيهم فقراء، ليس لهم أهلٌ ولا مال، كأهل الصُّفَّة في شمالي المسجد؛ فإن تلك الصُّفَّة كان يأوي إليها من المسلمين من لم يكن له أهلٌ ولا مال، وكان يجتمعُ بها منهم تارةً قليل، وتارةً كثيرٌ نحو سبعين، ويقيم الرجلُ مدَّةً ثم ينتقلُ عنها، لم يكونوا ملازمين لها إلا بقدر حاجاتهم
(1)
. وقد قيل: إن جملة من أوى إليها نحو أربع مئة
(2)
.
وأجلُّ من ذُكِر فيها: سعدُ بن أبي وقاصٍ أحدُ أهل الشورى والعشرة
(3)
.
ولم يكن في أهل الصُّفَّة ولا غيرهم من يتخذ مسألة الناس والإلحافَ
(1)
انظر: "الاعتصام" للشاطبي (1/ 345 - 348).
(2)
انظر: "حلية الأولياء"(1/ 340)، و"رجحان الكفة" للسخاوي (143).
(3)
انظر: "منهاج السنة"(7/ 438)، و"مجموع الفتاوى"(11/ 38، 41، 57، 81، 166). وإنما أورد بعض من صنف في تاريخ أهل الصفَّة سعدًا رضي الله عنه فيهم، لقوله:"فينا نزلت: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ، كما أشار إلى ذلك أبو نعيم في "الحلية" (1/ 368)، والسخاوي في "رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة" (209)، وهو من جملة أوهامهم، فإن الآية نزلت بمكة قبل الهجرة، قبل أن يكون في الصَّحابة "أهل الصفَّة"، وإنما كان ذلك في المدينة. انظر: "منهاج السنة" (7/ 431)، و"مجموع الفتاوى" (7/ 192، 11/ 60).
بالكُدْية
(1)
والشِّحاذة ــ لا بالزَّنبيل ولا غيره ــ صناعتَه وحِرْفتَه، بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك
(2)
.
وكانوا
(3)
أهل الصُّفَّة يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدُّهم عما هو أحبُّ إلى الله من الاكتساب
(4)
.
ولم يكن أهلُ الصُّفَّة كلُّهم من فضلاء الصَّحابة، بل أكثر فضلاء الصَّحابة رضي الله عنهم من غيرهم.
وقد أثنى الله على أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان.
وأهل بدرٍ كانوا ثلاث مئةٍ وبضعة عشر، وهم الذين قال الله فيهم:"اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم"
(5)
.
وأهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة بالحديبية كانوا أكثر من ألف وأربع مئة، وأقلَّ من ألفٍ وخمس مئة، وهم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:
(1)
الكُدْية هي الشحاذة وسؤال الناس، من قولهم: حَفَرَ فأكْدَى، إذا بلغ الكُدْية (وهي الأرض الصلبة) وأيس من الماء. وقيل فيها غير ذلك. انظر:"الزاهر" لابن الأنباري (1/ 385)، و"درة الغواص"(152)، و"شفاء الغليل"(259)، و"تاج العروس"(39/ 381).
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(11/ 44 - 46).
(3)
كذا في الأصل، فإن لم يكن خطأ من الناسخ فهو على لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة".
(4)
من قوله: "ولم يكن في أهل الصفة" إلى هنا وقع في الأصل بعد قوله فيما بعد: "وأقل من ألف وخمس مئة". ويشبه أن يكون لحقًا في الطرة لم يهتد الناسخ إلى موضعه.
(5)
أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494) من حديث علي رضي الله عنه.
"لا يدخل النار أحدٌ بايع تحت الشجرة"
(1)
.
وفيهم من أهل الصُّفَّة، وغالبُهم لم يكونوا من أهل الصُّفَّة؛ إذ الفضلُ عند الله ورسوله بالإيمان والتقوى، لا بصنفٍ معيَّنٍ من الأصناف المباحة، ولا بزيٍّ مخصوص.
لكن غالب الخلق إنما يَسْلَمُون من فتنة الفسوق والعصيان إذا لم يُبْتَلوا بكثرة المال وعزَّة السُّلطان، كما يقال:"مِن العصمة أن لا تَقْدِر"
(2)
.
والسلامةُ من الذنوب في الذين لم يُبْتَلوا أكثر، مع أن الابتلاء بالمال والسُّلطان إن سَلِم صاحبُها فهو أفضل من هذا الوجه ممن ليس له مثله، وإن ابتُلِيَ ببعض الذنوب وله حسناتٌ لا يقدرُ عليها أولئك فالله تبارك وتعالى يزنُ حسناتهم وسيئاتهم، فإن فَضَل له من الحسنات ما يزيدُ على حسنات
(1)
أخرجه مسلم (2496) من حديث جابر عن أم مبشر رضي الله عنهما. وبلفظ المصنف عند أحمد (14778)، وأبي داود (4653)، والترمذي (3860)، والنسائي في "الكبرى"(11444) عن جابر رضي الله عنه، وقال الترمذي:"حديثٌ حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4802).
(2)
عبارة مشهورة تروى عن المعتمر بن سليمان في "شعب الإيمان"(9/ 428).
وفي "مناقب الشافعي"(2/ 208)، و"تلبيس إبليس" (301) عن الشافعي أنه قال:"صحبتُ الصوفية عشر سنين، ما استفدتُ منهم إلا هذين الحرفين: الوقت سيفٌ، وأفضل العصمة أن لا تَقْدِر".
وتفسيرها في "الحلية"(4/ 243)، عن عون بن عبد الله قال:"إن من العصمة أن تطلب الشيء من الدنيا ولا تجده".
…
وانظر: "الجواب الصحيح"(6/ 444)، و"مجموع الفتاوى"(11/ 28).
غيره كان أفضل
(1)
، والله تعالى حَكَمٌ مُقْسِطٌ {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].
فنسأل الله العظيم أن يوفِّقنا لطاعته من الأقوال والأفعال، والله أعلم.
(1)
انظر: "الاستقامة"(1/ 349).
والأصل في هذا ما قرره شيخ الإسلام في المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر، وأن أفضلهما أتقاهما لله، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة. "مجموع الفتاوى"(11/ 21، 22، 123، 196).
مسألة
في الخَضِر وحياته وادعاء لقائه
مسألة في الخَضِر، هل هو حيٌّ الآن أم لا؟ ومن ادَّعى أنه لقيه واجتمع به في غير النوم، إذا كذَّبه إنسانٌ هل يأثم أم لا؟
الجواب: الحمد لله. ليس في دعوى المدَّعي اجتماعَه بالخَضِر فائدةٌ في دين المسلمين، سواءٌ كان صادقًا أو كاذبًا.
بل اتفق المسلمون على أنه لا يُرْجَعُ إلى الخَضِر ولا إلى من يَنْقُل عن الخَضِر من غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم في شيءٍ من دينهم.
بل لو نقل ناقلٌ عن نبيٍّ من الأنبياء، كموسى وعيسى، من غير أن يكون نبيُّنا صلى الله عليه وسلم واسطةً في ذلك النقل، لم يَرْجِع إليه المسلمون في دينهم.
بل في السُّنن أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقةً من التوراة، فقال:"أمتهوِّكون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقيَّة، لو كان موسى حيًّا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم"
(1)
، وفي رواية: "لما وَسِعَه
(1)
أخرجه عبد الرزاق (10164)، ومن طريقه الإمام أحمد (15864) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بسندٍ فيه جابر الجعفي، وهو ضعيف.
وتابعه مجالد بن سعيد، وليس بالقوي، عند أحمد (14631)، والدارمي (449)، وهي الرواية الثانية التي ذكرها المصنف، وأغرب الحافظ ابن كثير إذ صحح إسنادها على شرط مسلم في "البداية والنهاية"(1/ 458، 3/ 35).
وللحديث شواهد لا تخلو من ضعف، وحسَّنه بها بعض أهل العلم. انظر: تفسير ابن كثير (8/ 8 - 11)، و"الإرواء"(6/ 34 - 38).
وقال ابن حجر في "الفتح"(13/ 525) بعد أن تكلم على طرق الحديث وشواهده: "وهذه جميع طرق هذا الحديث، وهي وإن لم يكن فيها ما يُحْتَجُّ به، لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلًا".
إلا اتباعي".
وثبت في الصَّحيح أن عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل إلى الأرض، فإنما يحكم في الأمة بكتاب ربِّها وسنَّة نبيِّها
(1)
.
فالخَضِر لو كان موجودًا بين الناس لم يَرْجِع إليه المسلمون في شيءٍ من دينهم.
فإن
(2)
لم يكن نبيًّا، كما قاله الجمهور، كالشريف أبي علي بن أبي موسى وغيره، [فمِن هذه الأمة من هو أفضل منه]
(3)
، كأبي بكرٍ وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار.
وإن كان نبيًّا، كما قاله طائفةٌ منهم أبو الفرج ابن الجوزي، وأبو عمرو ابن الصلاح
(4)
، فمحمدٌ وعيسى صلى الله عليهما وسلَّم أفضلُ منه.
وعيسى لا ينزل إلا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لا بشريعته.
وإذا كان وجودُ الخَضِر وحياتُه لا يتعلَّق بدين المسلمين، ولا يرجعون إليه في شيءٍ من دينهم، كان كثرة الكلام في وجوده من باب الضلالات
(1)
أخرجه مسلم (155).
(2)
الأصل: "ان".
(3)
ما بين المعقوفين زيادة يلتئم بها السياق. وانظر: "الرد على المنطقيين"(185)، و"جامع المسائل"(4/ 60)، و"مجموع الفتاوى"(4/ 397)، و"مختصر الفتاوى المصرية"(113، 560).
(4)
انظر: "تلبيس إبليس"(285)، وفتاوى ابن الصلاح (1/ 186)، و"الزهر النضر في حال الخضر" لابن حجر (98)، و"الإصابة"(3/ 232).
والجهالات، وتَطْرِيق الناس على الأكاذيب والأغاليط.
وقد اتفق أئمَّة الدين على أن رجلًا لو روى
(1)
حديثًا في زماننا عن النبي صلى الله عليه وسلم عن
(2)
غير الرجال المعروفين عند الأئمَّة لم يُلْتَفت إليه، مثل ما يرويه بعض الضُّلَّال عن شيخٍ اسمه "رَتَن"
(3)
، ومثل ما ذكره أبو طالب في إسناد المُسَبَّعات أن رَقَبة بن مَصْقَلة رواها عن الخَضِر عن النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
، وأمثال ذلك.
والله قد بعث محمدًا بدينٍ بيَّنه وبلَّغه، وهو محفوظٌ محروسٌ لا يحتاج فيه المسلمون إلى أحدٍ غير نبيهم، وأمَّتُه قد أكمل الله لهم الدين، وأتمَّ عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام دينًا.
(1)
الأصل: "راى". والمثبت أقوم، وكذلك الموضع الآتي.
(2)
الأصل: "من".
(3)
رتن الهندي، شيخٌ دجَّال، ظهر بعد الست مئة وادعى الصُّحبة. وربما لم يوجد، بل اختلق خبره بعض الكذابين. وللإمام الذهبي جزءٌ في بيان حاله وهتك باطله سماه "كَسْر وَثَن رَتَن"، نقل نُبَذًا منه ابن حجر في "الإصابة"(3/ 591 - 595)، و"لسان الميزان"(3/ 457 - 460)، وله فيه أقوالٌ طريفة في كتبه. انظر:"تاريخ الإسلام"(14/ 69)، و"السير"(22/ 367)، و"الميزان"(2/ 45)، و"المغني"(1/ 230)، و"المجمع المؤسس" لابن حجر (2/ 552). ولم أر فيما وصلنا من تراث شيخ الإسلام ذكرًا لرتنٍ إلا في هذا الموضع.
(4)
انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب (1/ 17)، وفيه أن إبراهيم التيمي يرويها عن الخضر، وكذلك رواها ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(16/ 430). وهي روايةٌ مختلقة، وكذبٌ محض لا أصل له. انظر:"مجموع الفتاوى"(10/ 404)، و"المغني عن حمل الأسفار"(1/ 400)، و"فتح الباري"(6/ 435).
فهذا أصلٌ يجبُ على كل مسلمٍ معرفتُه.
وبعد هذا، فالصوابُ أن الخَضِر رضي الله عنه مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يُدْرِك زمنَه، ولا رآه، ولا ذكر أحدٌ من الصَّحابة أنه كان موجودًا، كما قد بسطتُ دلائل ذلك في مواضع كثيرة
(1)
.
وكلُّ من ذكَر أنه حيٌّ، فإن كان صادقًا فهو مُلَبَّسٌ عليه؛ رأى رجلًا ظنَّ أنه الخَضِر غلطًا منه، أو قال له رجلٌ: أنا الخَضِر ــ وكان كاذبًا ــ، أو تخيَّل شيئًا في نفسه ظنَّه الخَضِر في الخارج
(2)
.
وإن كان كاذبًا كان من أهل الإفك والبهتان المستحقِّين التعزير، مثل كثيرٍ ممن يتظاهر برؤيته ليُحْسِنَ الناسُ به الظنَّ ويجتمعوا عليه؛ فإن هؤلاء كلُّهم كذابون دجَّالون يستحقُّون العقوبة البليغة. وقد رأينا من هؤلاء
(1)
انظر: "الرد على المنطقيين"(184)، و"منهاج السنة"(1/ 97، 4/ 93)، و"مجموع الفتاوى"(1/ 249، 4/ 337، 27/ 18، 100 - 101)، ومختصر الفتاوى المصرية (198 - 199)، و"جامع المسائل"(5/ 133 - 137)، و"المنار المنيف" لابن القيم (63 - 69)، و"العقود الدرية" لابن عبد الهادي (91).
ولا ريب أن ما في "مجموع الفتاوى"(4/ 338) من القول بحياة الخضر منحولٌ على شيخ الإسلام أو منتزعٌ من سياقه إذ كان نقلًا لقول من يذهب إلى حياته، كما بيَّنه الخيضري في كتابه "افتراض دفع الاعتراض". انظر:"جامع المسائل"(5/ 9 - مقدمة التحقيق).
(2)
انظر: "الرد على المنطقيين"(185)، و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"(237)، و"الجواب الصحيح"(2/ 319، 335، 3/ 114)، و"الإخنائية"(191)، و"منهاج السنة"(1/ 104، 4/ 94، 8/ 262)، و"النبوات"(1056)، و"مجموع الفتاوى"(1/ 249، 13/ 93).
طوائف، منهم من عُزِّر، ومنهم من تاب قبل أن يحتاج إلى التعزير.
ولهذا كان المثبتون لوجوده منهم من يجعله مغيَّبًا، ومنهم من يجعل ذلك مرتبةً، كما يقولون ذلك في "الغوث"، وكلُّ ذلك غلطٌ كما قد بُسِط في موضعه
(1)
.
وطائفةٌ ثالثةٌ تُعَبِّر بالخَضِر وإلياس عن حالين للقلب، وهما: القبض، والبسط، كما فعل ابن عربي صاحبُ "الفصوص"
(2)
، وأمثاله من الملاحدة الباطنية، والله أعلم.
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(27/ 97)، و"جامع المسائل"(2/ 60، 5/ 137).
ومن ملاحدة المتصوفة من يزعم أن أرسطو كان هو الخضر. انظر: "الانتصار لأهل الأثر"(227)، و"الرد على المنطقيين"(183).
(2)
ذكره في "الفتوحات المكية"(2/ 131). وانظر: "اصطلاحات الصوفية" للكاشاني (179)، و"التعريفات"(99)، و"التوقيف على مهمات التعاريف"(156).
رسالة
إلى الشيخ قطب الدين ناظر الجيش
في الكلام عن ابن عربي وطائفته
الحمد لله
بسم الله الرحمن الرحيم
نقلتُ ما صورته:
من المملوك أحمد بن تيمية إلى الشيخ السيد الإمام الكبير، جلال الأعيان الكبراء، وجمال الصدور الرؤساء، قطب الدين
(1)
، أصلح الله له وبه أمر الدنيا والآخرة، وأتمَّ عليه نعمه الباطنة والظاهرة، وألَّف به بين القلوب المتنافرة، وأطفأ به البدعَ وأحيا به السُّننَ الزاهرة.
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته.
فإنا نحمدُ إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيءٍ قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيِّد ولد آدم محمدٍ عبده ورسوله، وعلى آله وسلَّم تسليمًا.
أما بعد، فقد وصل مُشَرِّفُ الشيخ
(2)
أيَّده الله تعالى، وفهمتُ مضمونه،
(1)
قطب الدين موسى بن أحمد بن الحسين، ابن شيخ السلامية، ناظر الجيوش بالشام ومصر، ومن رجال الدهر سؤددًا وفضلًا، توفي سنة 732. انظر: ذيل "العبر" للذهبي (176)، و"أعيان العصر"(5/ 469)، و"البداية والنهاية"(18/ 351).
(2)
أي: خطابه، ومن الرسوم في العهد المملوكي إطلاق "المشرِّفة" على الرسالة، على جهة التكريم، كأنها تشرِّف المرسل إليه. انظر:"صبح الأعشى"(8/ 214)، و"تكملة المعاجم"(6/ 297). وفي رسالة شيخ الإسلام هذه ضروبٌ من مراعاة تلك الرسوم في الألفاظ، والتزام السجع ونحوه مما شاع في ذلك العهد، وكأنه جارى فيها رسالة قطب الدين إليه، وأجراها على منوالها.
وتقبَّلتُه بالقبول والطاعة، والسَّعي في مصلحة الجماعة
(1)
؛ فإن هذا من أوجب الواجبات على الناس عمومًا وعلى الخادم خصوصًا، وهو من أقرب القربات إلى الله تعالى، وأفضل الحسنات؛ لما في ذلك من رضا الرحمن، وسرور الإخوان، وقمع الشيطان، وصلاح السرِّ والإعلان، وفتح أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران.
فإنه غير خافٍ على علم الشيخ أن الحسد والبغضاء هو داء الأمم قبلنا، وهو لهذه الأمة من أعظم الأدواء، وكذلك اتباع الظنون والأهواء، وتفرُّق القلوب وتشتُّت الآراء. وهذه الأمور السيئات، ينشأ غالبها من شبهاتٍ وشهوات.
وقد روي في الحديث: "إن الله يحبُّ البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحبُّ العقل الكامل عند ورود الشهوات، ويحبُّ الشجاعة ولو على قتل
(1)
وذلك أنه وقع خلافٌ بين جماعة من المتصوفة ببعلبك في كلام ابن عربي ونحوه من الاتحادية، فقدموا إلى شيخ الإسلام بدمشق سنة 704، واجتمعوا عنده بدار الحديث السكرية حيث كان يسكن، بحضور جماعةٍ من كبار أصحابه، وجرى الحديث فيما وقع الخلاف فيه من أمر الاتحادية، وقرئ بعض ما به بيان حقيقة أمرهم من كلامهم، ثم اتفقوا على أن تلك المقالات وما أشبهها كفر، وتبرؤوا منها، وجمع الله قلوبهم على الهدى، وكُتِب محضرٌ بذلك وقَّع عليه الحاضرون، وكتب شيخ الإسلام إلى أهل بعلبك رسالة بيَّن لهم فيها الحقَّ وشرح ما وقع في ذلك الاجتماع، والمحضر والرسالة في "جامع المسائل"(7/ 245 - 259).
ويظهر أن خبر ذلك الاجتماع وما جرى فيه قد بلغ ناظر الجيش الشيخ قطب الدين، فكتب إلى شيخ الإسلام يسأله عنه، ويحثُّه على جمع الكلمة، وإصلاح ذات البين، ونحو ذلك مما يُفْهَم من سياق هذه الرسالة.
الحيَّات، ويحبُّ السَّماحة ولو بكفٍّ من تمرات"
(1)
.
وهذه الأربعة هي الفضائل التي ترتفعُ بها الدرجات، ويتميَّز بها ذوو المراتب العليَّات، وقد اتفق على فضلها جميعُ أنواع البريَّات، والشيطانُ فهِمَّتُه مصروفةٌ إلى أصحابها، وسهامُه مُفَوَّقةٌ نحو أربابها؛ لأنهم إذا سَلِمُوا منه قطعوا عنه مادة الفساد، وأصلحوا بأمر الله العباد والبلاد.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
وفي الحديث: "مثَل المؤمن مثَل الفَرَس في آخيَّته، يجولُ ثم يرجعُ إلى آخيَّته، كذلك المؤمنُ يجولُ ثم يرجعُ إلى الإيمان"
(2)
.
(1)
أخرجه أبو عبد الرحمن السُّلمي في "الأربعون في التصوف"(6)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1080)، والبيهقي في "الزهد"(954)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 199) وغيرهم من حديث الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
وفي إسناده ضعفٌ شديدٌ وإرسال. انظر: "المغني عن حمل الأسفار"(1774)، و"تخريج الأربعين السلمية" للسخاوي (49 - 51). وقد استشهد به شيخ الإسلام في "درء التعارض"(5/ 131) ومواضع أخرى وأشار إلى أنه مرسل.
(2)
أخرجه أحمد (11526)، وأبو يعلى (1106)، وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بسندٍ ليِّن، وصححه ابن حبان (616).
وله شاهدٌ واهٍ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عند الرامهرمزي في "الأمثال" (126). انظر:"السلسلة الضعيفة"(6637).
والآخيَّة: حبلٌ أو عودٌ يُعْرَض في الحائط، ويُدْفَنُ طرفاه فيه، ويصيرُ وسطُه كالعُروة، تُشَدُّ إليه الدابة. "النهاية"(أخو).