الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن الرجاء بفضل الله ورحمته، وإن كان العبد قد فعَل عملًا صالحًا، فإن العمل الصالح غايته أنه سببٌ للخير، ولو أقام الله سببًا أكملَ منه للخير لكان
(1)
الواجبُ على العبد أن لا يرجو إلا رحمة الله، ولا يتوكَّل إلا عليه، لا على الأسباب المخلوقة؛ فإنه سبحانه خالقُها وخالقُ العمل الصالح وسائر الأسباب، ومع هذا فليس من الأسباب ما هو موجِبٌ لا محالة إلا بمشيئة الله تعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فما من سببٍ يلتفتُ إليه العبد [إلا]
(2)
وهو يقفُ على شروطٍ ويتخلَّفُ عنه لموانع، فالعمل الصالح قد يَحْبَط، وقد يكون له من السيئات ما يعارضه، وقد لا يكون في نفسه صالحًا؛ لكون العبد لم يتَّقِ الله فيه.
وسائر ما ينظر إليه في أمر الرزق والنصر والهدى شأنُه كذلك، ف
ليس في الأسباب ما هو مستقلٌّ
، وهي جميعُها من الله وحده لا شريك له، لا قيام لها إلا بمشيئة الله وقدرته.
فـ "لا حولَ" وهي الحركة والتحوُّل من حالٍ إلى حال، و"لا قوَّة" على ذلك الحَوْل إلا به، سواءٌ في ذلك الحولُ والقوَّة الموجود
(3)
في السَّماء، والأرض، والآدميِّين، والملائكة، والجنِّ، وسائر الدوابِّ، وغيرها.
(1)
الأصل: "لكن"، وليس من عادة الناسخ إسقاط الألف.
(2)
بياض في الأصل. وبما أثبت يستقيم السياق.
(3)
كذا في الأصل بالإفراد، وسبق نظيره.
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23]، فليس لغيره مِلْكٌ ولا شِرْكٌ في مِلْك، فلا مَلِيك غيرُه، ولا شريك له، وهذان
(1)
الصنفان هما اللذان لهما مِلْكٌ إما كاملٌ وإما مُشَاع. ومن ليس له مِلْكٌ فإما أن يكون عونًا للمالِك، كالوكلاء، والأُجَراء
(2)
، والغلمان، والجند، والأولياء، وإما أن يكون سائلًا طالبًا منه؛ لأنه إما أن ينفع المالكَ فيكون له عليه حقٌّ، وإما أن لا ينفع لكن يسأله، فأخبر سبحانه أنه ليس له من المخلوقات ظهير.
وأما مسألة الشفاعة، فلم يَنْفِها، لكن أخبر أنها لا تنفعُ إلا لمن أذن له في الشفاعة له، فنفعته الشفاعة
(3)
، وإلا فلا.
وهذا بخلاف الشفعاء للمخلوقين، فإنهم قد يشفعون لمن لم يؤذن لهم في الشفاعة له، وقبل استئذان المشفوع إليه.
وهذا كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وكقوله:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال:{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} الآية [يونس: 3].
(1)
الأصل: "هذان".
(2)
الأصل: "والوجراء"، وأحسبه من سبق القلم مشاكلة للفظ "الوكلاء" الذي قبله. ولم أجد لفظ "الوجراء" مستعملًا عند المصنف أو غيره.
(3)
كذا في الأصل.
وهذا يوجبُ انقطاع تعلُّق القلوب بغيره، ولو كان ملَكًا أو نبيًّا، فكيف بالمشايخ، والعلماء، والملوك، والأغنياء؟! فإن غاية الراجي لهم، المعتمد عليهم، أن يقول: هم يشفعون لي. فقد أخبر أنه ما من شفيعٍ إلا من بعد إذنه، وأنكر أن يشفع أحدٌ إلا بإذنه، وأخبر أن الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن له.
ولهذا إذا جاء سيِّد الشفعاء يوم القيامة إلى ربه، ورآه سَجَد وحَمِدَه بمحامد يفتحُها عليه، لا يبتدي بالشفاعة حتى يقال له:"أي محمَّد، ارفع رأسَك، وقُل يُسْمَع، وسَلْ تُعْطَه، واشفَع تُشَفَّع"
(1)
.
وبهذا تتبيَّن الشفاعة المنفية يوم القيامة، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48]، وكذلك نظيرُه في الآية الأخرى [البقرة: 123]، وقال:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، وقال:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].
وذلك أن الإنسان في الدنيا يُحَصِّلُ ما ينفعُه إما بمعاوضةٍ وإما بغير معاوضة، فالمعاوضة هي البيعُ، [والعَدْلُ من المعاوضة]
(2)
؛ فإنَّ عَدْلَ الشيء ما عادله من [غير]
(3)
جنسه، وهي الفدية، كما قال:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95].
(1)
أخرجه البخاري (4476)، ومسلم (193) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
ما بين المعقوفين بياض في الأصل بمقدار أربع كلمات، وأتممته بما يلائم السياق.
(3)
زيادة ضرورية سيأتي ما يدل عليها. وانظر: "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 394)، و"مجموع الفتاوى"(17/ 137، 208).
وهذا أجود من قول من قال في قوله: "لا يُقْبَل منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ"
(1)
: إن الصَّرْفَ هو [التطوُّع، والعدلَ: الفريضة.
بل الصَّرْفُ هو]
(2)
التوبة، وهو صَرْفُه وانصرافُه عن الذنب، والعَدْل: النظير، وهو الفداء والعِوَض من غير الجنس؛ فإن التوبة من جنس السيئة، والعَدْل من غير جنسها، ولهذا لما كانت التوبةُ تبديلَ السيئة بجنسها جعل الله للتائب مكان كلِّ سيئةٍ تاب منها حسنة
(3)
، فكأنه قال: لا يُقْبَل منه البدلُ، لا بجنسه وهو الصَّرْف، ولا بغير الجنس وهو العَدْل.
ولهذا شَرَع الله ما يمحو السيئات تارةً صَرْفًا، وهو التوبة. وتارةً عَدْلًا، وهو الحسناتُ الماحية، كالكفَّارات المشروعة لذنوبٍ معيَّنة، أو للذنوب المطلقة، فإن الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تكفِّر فتنة الرجل في أهله وماله وولده، كما نطق بذلك حديثُ حذيفة الذي في الصَّحيح
(4)
.
فأخبر سبحانه أنه يوم القيامة لا يُحَصِّلُ ما ينفعه، ويدفعُ ما يضرُّه، لا بمعاوضةٍ وهي البيع والعَدْل، ولا بغير معاوضة؛ لأن غير المعاوضة إما أن يكون مِن عند الباذِل
(5)
، وإما أن يكون سائلًا لها من غيره.
(1)
أخرجه البخاري (1870)، ومسلم (1370) من حديث علي رضي الله عنه.
(2)
ما بين المعقوفين لعله سقط على الناسخ لانتقال نظره، وإثباته ضروريٌّ لاستقامة السياق. وانظر:"معالم السنن" للخطابي (4/ 22)، و"المعلم" للمازري (2/ 118).
(3)
انظر: "طريق الهجرتين"(544).
(4)
أخرجه البخاري (525)، ومسلم (144).
(5)
الأصل: "الرجل". تحريف. وستأتي على الصواب.
والتي مِن عنده أعلى مراتبها أن يكون خليلًا له، وهو الكاملُ في محبَّته، التي تخلَّلت محبَّتُه كلَّه
(1)
، كما قيل:
قد تخلَّلتَ مَسْلَكَ الرُّوح مني
…
وبذا سُمِّيَ الخليلُ خليلا
(2)
فيبذلُ له ما ينفعُه، ويَدفعُ عنه ما يضرُّه، بلا عِوَض.
فنفى سبحانه أن يكون هناك خُلَّة
(3)
، وهو تنبيهٌ على انتفاء ما سواها بالعموم بالفحوى.
ونفى في الأخرى
(4)
بصيغة العموم اللفظي، فقال:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} ، وهو في معنى قوله:{وَلَا خُلَّةٌ} ، فهذا الباذِلُ من عنده. والطالبُ من غيره وهو الشفيع، فقال:{وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} ، وقال:{وَلَا شَفَاعَةٌ} .
فالآيتان سواء، وهما جامعتان للأنواع نوعًا نوعًا.
(1)
كذا في الأصل. وانظر: "منهاج السنة"(5/ 351)، و"مجموع الفتاوى"(10/ 67، 203).
(2)
البيت لأبي بكر الشبلي في "عَطف الألِف المألوف" للديلمي (42). ولبشار في "أدب الدنيا والدين"(161)، وتفسير القرطبي (5/ 400) وغيرهما، وجزم بصحة نسبته الطاهر بن عاشور في ملحقات ديوانه (4/ 139). وللبحتري في إحدى نسخ ديوانه (1912). وبلا نسبة في "معاني الأخبار" للكلاباذي (276)، و"المنتخل"(801)، و"الدر الفريد"(4/ 300)، ومصادر كثيرة.
(3)
آية البقرة: 254.
(4)
آية البقرة: 48.
وهذا مِن معنى كون القرآن متشابهًا مثاني، ومِن معنى كونه من جوامع الكَلِم، ومِن معنى أنه أُحْكِمَت آياتُه ثم فُصِّلَت، ومِن معنى كونه ضُرِبَ فيه من كلِّ مثل.
وهو كما قال ابن عباس: " فيه الأقسام والأمثال"
(1)
.
فالأمثال
(2)
: الأمور المتشابهة المتماثلة. ويُضْرَبُ لها المثلُ بقياس الشَّبه، والتمثيل، وقياس الشمول.
والأقسام: هي الأصنافُ والأنواع المختلفة، وهي التي تُثَنَّى أي: تُعَدَّد وتُقَسَّم، فتُذْكَر كلمةٌ بعد كلمة، واسمٌ بعد اسم، بخلاف المتشابهة، فإنه يجمعها اسمٌ واحدٌ وكلمةٌ واحدة. ويُضْرَبُ لها المثلُ بقياس التقسيم والتفصيل
(3)
.
ومثل هؤلاء الآيات قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70].
فلما نفى سبحانه أن يُقْبَل في الآخرة من النفس الشفاعة، وأخبر أنه لا شفاعة في ذلك اليوم، [بيَّن أنه في من قُبِلت شفاعتُه]
(4)
هو الآمرُ بالشفاعة،
(1)
أخرجه ابن جرير (5/ 193) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(2)
الأصل: "فالاشباه". تحريف.
(3)
الأصل: "والتفضل". تحريف.
(4)
ما بين المعقوفين بياض في الأصل بمقدار أربع كلمات، وأتممته بما يلائم السياق.
وأَذِنَ له فيها، ففي الحقيقة ليس هو شفيعًا، وإنما هو عبد مطيع
(1)
.
يبيِّن ذلك أن "الشفاعة" سُمِّيت بذلك لأن الشفيع يصيرُ شَفْعًا للطالب، فإنه يكون طالبًا لأمرٍ، فإن أعانه آخرُ صار شافعًا
(2)
، والشفيعُ كالمُعِين والنصير، وهذا في الدنيا يُفْعَلُ ابتداءً، وأما في الآخرة فلا مُعِين ولا نصير إلا بأمر الله، فلا فرق بين الذي هو يشفعُ بإذنه وبين سائر جنود الله الذين لا يفعلون إلا بإذنه، والذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
وهكذا قولُ المشركين: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 97 - 101]، فإن الصديق الحَمِيم هو مِثل الخليل، ومثل قوله:{لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، ومثل قوله:{لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33].
والله سبحانه بيَّن [أنَّ] ذلك يوم القيامة؛ لأنه في الدنيا قد خلق أسبابًا تعلَّق بها كثيرٌ من الناس، وأشركوا بها خالقَها، وأعرضوا عنه، واتخذوا عباده من دونه أولياء، ونازعه المستكبرون الربوبيَّة والإلهيَّة، ونازعوه العظمة والكبرياء، فوقع الإشراك من الأتباع والمتبوعين.
فإذا كان يومُ القيامة، ونادى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، لم يبق أحدٌ يدَّعي ذلك، فهو مالكُ يوم الدين، الذي كان يكذِّبُ به
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(1/ 118)، و"إغاثة اللهفان"(398 - 400).
(2)
انظر: "الصفدية"(2/ 291)، و"مجموع الفتاوى"(1/ 278، 28/ 300).
الكافرون، حيث يقول:{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الانفطار: 9].
والأمر يومئذٍ لله وحده، فلا أحد يظنُّ أو يدَّعي أن له أمرًا أو شِرْكًا في أمر، بل باتفاق الخلق كلِّهم أن ذلك كلَّه لله، وإن كان في الدنيا ينازعونه ويشركون به.
والمستحِقُّ للحقِّ إذا نازعه المُبْطِلون، ثم سلَّموا له حقَّه، فهو في الموضعين قد
(1)
كان حقَّه، لكن حقٌّ مُسَلَّمٌ، أو حقٌّ ينازِع فيه المُبْطِلُ أو يدَّعيه لنفسه.
فأما شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة غيره يوم القيامة، فهي بأمره وإذنه، وهي منه لا من الشافع، فلا يشفعون إلا بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فلا يتوكَّل العبد إلا على الله، ولا يعبد إلا إياه؛ فإنه الذي يسَّر له الشُّفعاء.
ولهذا لمَّا سأل أبو هريرة النبيَّ صلى الله عليه وسلم: من أسعدُ الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: "لقد ظننتُ أن لا يسألني عن هذا أحدٌ أوَّل منك؛ لِمَا رأيتُ من حرصك على الحديث. أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله"
(2)
.
فقد أخبر أن أسعد الناس بشفاعته هم أهلُ التوحيد لله، الذين أخلصوا له الدين، الذين لم يتألَّهوا غيرَه
(3)
.
(1)
الأصل: "وان". ولعله تحريفٌ عن المثبت.
(2)
أخرجه البخاري (99).
(3)
انظر: "الصفدية"(2/ 291)، و"اقتضاء الصراط"(2/ 362)، و"الرد على البكري"(296)، و"شرح الأصبهانية"(436)، و"قاعدة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق"(128)، و"مجموع الفتاوى"(7/ 78، 11/ 528، 14/ 410، 18/ 323، 27/ 440).
فبيَّن أن كلَّ من كان بالأسباب أشدَّ تعلُّقًا ورجاءً كان عن رحمة الله بشفاعة الشفعاء وغيرها أبعَد، وكلَّ من كان لله أعظمَ إخلاصًا وعليه أشدَّ توكُّلًا كان أولى برحمة الله بشفاعة الشفعاء وغيرها؛ فإن الأسباب جميعها كالشفاعة ليست مستقلَّةً مُوجِبة، ومع هذا فالله خالقُها وربُّها.
وأعظمُ الأسباب التي يرجو بها العبد رحمة الله: العمل الصالح، والدعاء، والشفاعة، ومع هذا فالثلاثة بمنزلة الأسباب التي ليست من فعل العباد، من جهة أنها من جملة مخلوقات الله ومصنوعاته وما سبَّبه من الأسباب، ومن جهة أنها غيرُ مُوجِبةٍ ولا مستقلَّة.
فلذلك وجب أن لا يتوكَّل العبد إلا على ربِّه، ولا يتَّخذ من دونه وليًّا ولا شفيعًا.
قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} الآية [الأنعام: 51]، وقال:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4].
فليس للعباد وليٌّ يتولى أمورهم دونه، ولا شفيعٌ يعينُهم على أمورهم دونه.
ولهذا قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ} [الزمر: 43 - 44]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} الآية [الأنعام: 94]، وقال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، وقال تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} الآية [الروم: 12 - 13].
ومعلومٌ أن الخلق إنما دَعَوا غيره لرجاء المنفعة به، أو خوف الضرر في ترك ذلك، كما دَعَوا
(1)
الشمس والقمر أو شيئًا من الكواكب، أو دَعَوا الملائكة أو النبيين، أو دَعَوا غير ذلك من المخلوقات، كالفلَك والسَّحاب والمطر وغير ذلك؛ فإن جميع المخلوقات عُبِدَت من دون الله سبحانه وتعالى
(2)
.
(1)
الأصل: "يدعوا". وكذلك المواضع التالية. ولعله من غلط الناسخ.
(2)
هذا آخر الفصل في الأصل الذي بين يدي.