المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وليس الأمرُ كذلك؛ لأن الشهيد أقدَم باختياره على القتال، صابرًا - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٩

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصلفي "الكلام" الذي ذمَّه الأئمَّة والسَّلف

- ‌التحقيق أن الذي نهى عنه السَّلف هو الكلام المبتدَع

- ‌الكلام المبتدَع المذموم هو الذي ليس بمشروعٍ [ولا] مسنون

- ‌لم ينكر السَّلفُ مجرَّد إطلاق لفظٍ له معنًى صحيح

- ‌مسألةفي مذهب الشافعي في القرآن وكلام الله

- ‌مسألةفي الأولياء والصالحين والأقطاب والأبدالورجال الغيب

- ‌ الحكمة في ابتلاء الكُبراء بالذنوب

- ‌ الجهل، والظلم ــ مبدأ الفتن والشرور

- ‌فصلفي الكلام على الاتحادية

- ‌مسألةفي الأفعال الاختيارية من العباد

- ‌ تاريخ المسألة ومكانها

- ‌ فعلُ العبد خلقٌ لله وكسبٌ للعبد

- ‌حُسْنُ المسألة نصفُ العلم إذا كان السائلُ قد تصوَّر المسؤول

- ‌ هل قدرةُ العبد المخلوقة مؤثرةٌ في وجود فعله

- ‌ كيف انبنى الثوابُ والعقابُ(1)، وصحَّ تسميتُه فاعلًا حقيقةً

- ‌في هذا المقام تاهت عقولُ كثيرٍ من الخلائق

- ‌ سبب الفرق بين الخلق والكسب

- ‌ضلَّ بالأسباب خلقٌ كالتراب

- ‌لا يضافُ الفعلُ إلى الأداة، ولا يُجْعَلُ وجودُها كعدمها

- ‌ الأمر والنهي لا بدَّ للناس من معرفته مفصَّلًا

- ‌ليس في الأسباب ما هو مستقلٌّ

- ‌مسائل عقدية

- ‌ كرامات الأولياء

- ‌يأجوج ومأجوج

- ‌ سببُ حياء الملائكة من عثمان

- ‌العدم المحض لا يُسْتَحَقُّ به الثواب

- ‌الفسادُ المطلق يتناول إرادة العلوِّ

- ‌المدحُ بالأمور العدميَّة لا يكونُ إلا لأنها تستلزم أمورًا وجودية

- ‌النفس طبيعتُها الحركة

- ‌{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} استثناءٌ منقطعٌ في أصحِّ القولين

- ‌العبادة تجمع الحبَّ والخضوع

- ‌أصل كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة الخوفُ من الله

- ‌الإنسان ضعيفٌ جبَّار، ضعيفُ القدرة جبَّارُ الإرادة

- ‌فصلٌفي الكلام على آياتٍ من سورة الشورى

- ‌ الجمع بين العبادة والاستعانة والتوكل والإنابة

- ‌ خصَّ التوكل بالذكر لوجهين:

- ‌الشهوة الظاهرة شهوةُ البطن والفرج

- ‌مبدأ البغي من البغض والنُّفرة والغضب

- ‌فصلفي تفسير سورة المسد

- ‌الرجلُ في الجملة أشرفُ من المرأة

- ‌العطفُ على الضمير المرفوع مع الفصل عربيٌّ فصيح

- ‌مسألةفي تفسير استعاذة النبي صلى الله عليه وسلممن الهمِّ والحزن، والعجز والكسل

- ‌البخل والجبن" قرينان

- ‌ضِلَع الدين وغلبة الرجال" من جنسٍ واحد

- ‌مسائل حديثية

- ‌ حديث "الصَّلاة في أول الوقت رضوانٌ من الله

- ‌مسألةفي حكم صوم الدهر

- ‌ الشوق فرعُ الشعور، ومن لم يشعُر بالشيء لم يشتق إليه

- ‌رسالةإلى القاضي محمد بن سليمان بن حمزة المقدسيفي حاجة الناس إلى مذهب الإمام أحمدومسألة ضمان البساتين

- ‌لو أنفقتُ ملء القلعة ذهبًا شكرًا على هذه النعمة كنتُ مقصِّرًا

- ‌ مسألة(3)المساقاة والمزارعة

- ‌ لا يُلْزَم الزوجُ بالصَّداق المؤخَّر حتى يحصُل بينهما فُرقةٌ بموتٍ أو طلاق

- ‌ إثبات الجائحة في المَزارع إذا أُكْرِيَت الأرض بألفٍ، وكان بالجائحة يساوي كِرَاها تسعمئة

- ‌الجهاد لا بدَّ فيه من اجتهاد

- ‌فصلإذا استأجر أرضًا لينتفع بها فتعطلت منفعتُها

- ‌ إذا تعطَّلت المنفعةُ المستحَقَّة كلُّها سقطت الأجرة كلُّها

- ‌فصلفي انعقاد النكاح بأي لفظٍ يدلُّ عليه

- ‌إذا أعلنَا النكاحَ، ولم يكتماه

- ‌قاعدةالاعتبار بموجب اللفظ والمعنى

- ‌ إذا عبَّر عن المعنى بأيِّ لفظٍ دلَّ على معناه انعقد به العقدُ

- ‌معنى اللفظ هو ما يَعْنِيه(3)المتكلِّمُ، أي: يَقْصِده ويريده

- ‌فصلالشُّروط في النكاح

- ‌لو تزوَّج المرأة مدَّةً

- ‌إذا تزوَّجها على أنه إن أحبَلَها إلى عامٍ وإلا فلا نكاح بينهما

- ‌سؤال منظومفي حكم الرقص والسَّماع وجوابه

- ‌فصلفي دفع صِيَال الحراميَّة

- ‌وإن قُتِل الدافعُ كان شهيدًا

- ‌وكذلك إذا دخل الحراميُّ إلى داره

- ‌مسائل فقهية

- ‌[الطهارة]

- ‌[الصلاة]

- ‌[الجنائز]

- ‌[الزكاة]

- ‌[الصيام]

- ‌[البيع]

- ‌[الشركة]

- ‌[الإجارة]

- ‌[الغصب]

- ‌[الوقف]

- ‌[الهبة والعطية]

- ‌[الفرائض]

- ‌[النكاح]

- ‌[الطلاق]

- ‌[ما يلحق من النسب]

- ‌[الرضاع]

- ‌[النفقات]

- ‌[الحدود]

- ‌[القضاء]

- ‌قاعدةفي الصبر والشكر

- ‌ الأصل الثاني:

- ‌ الأصل الثالث:

- ‌ الأصل الرابع:

- ‌ الأصل الخامس:

- ‌[الأصل] السادس:

- ‌ الأصل السابع:

- ‌جزءٌ فيه جوابُ سائلٍ سأل عن حرف "لو

- ‌الجواب مرتَّبٌ على مقدمات:

- ‌المقدمة الثانية:

- ‌ المقدمة الثالثة:

- ‌المقدمة الرابعة:

- ‌مسألةفي الانتماء إلى الشيوخ

- ‌مسائل متفرقة

- ‌ هل يجوز لوليِّ الأمر أن يُستفتَى

- ‌ شروط القاضي

الفصل: وليس الأمرُ كذلك؛ لأن الشهيد أقدَم باختياره على القتال، صابرًا

وليس الأمرُ كذلك؛ لأن الشهيد أقدَم باختياره على القتال، صابرًا على الأهوال، محتسبًا ذلك عند الله، لتكون كلمة الله هي العليا، ولهذا قيل: يا رسول الله، أيُفْتَنُ الشهيدُ في قبره؟ فقال:"كفى ببريق السيف فتنة"

(1)

.

ولا بدَّ أن يكون ممن يختارُ القتلَ إذا وقعَ به، لا يَسْخَط ذلك.

ففعلُه لسببه الذي أُمِرَ به حصَل له به عملٌ صالح، وكذلك كلُّ ما يحصُل من أنواع المصائب بسبب طاعة الله ورسوله، في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد باللسان واليد في سبيل الله عز وجل؛ فالمصيبة الحاصلةُ بسبب ذلك في ذلك من نعم الله في سائر المصائب

(2)

، وتمتازُ هذه بأنها من أفضل أعماله الصالحة التي يثابُ عليها، كما يثابُ الشهيدُ على كونه يُقْتَل.

وهذا الأصلُ يتناول كلَّ ما يؤذى به العبد في سبيل الله، سواءٌ كان جهادًا أو لم يكن، وسواءٌ كان الأذى بأفعال العباد أو لم يكن، كالجوع والنَّصَب الحاصل في سفر الجهاد والحجِّ وصوم الصَّائم؛ فإن هذا الأذى من الله عز وجل يشاركُ المصائبَ في كونه مصيبةً، ويمتازُ عنها بكونه له به عملٌ صالح.

* ‌

[الأصل] السادس:

أن الأعمال الصالحة كلَّها من أعظم نعم الله على عبده المؤمن، وهي مستوجبةٌ لأعظم الشُّكر؛ إذ هي من الله، كما قال تعالى:{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17].

(1)

أخرجه النسائي (2053) من حديث راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده صحيح، ولفظه:"كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة".

(2)

أي كنعم الله في سائر المصائب.

ص: 420

وشهودُ هذا للقلب يدفعُ عنه العُجْبَ بها، والفخر، ونحو ذلك مما يحصلُ بإضافة ذلك إلى النفس.

وفي الحديث الصَّحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أوحِيَ إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد"

(1)

.

وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].

والناسُ في هذا المقام أربعُ طبقات

(2)

:

* فخيرُ الناس: أهلُ الإيمان المحض، الذين يشهدون نعمة الله في الطاعة، ويشهدون ذنوبهم في المعصية، كما في الحديث الصَّحيح الإلهيَّ:"يا عبادي، إنما هي أعمالُكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه"

(3)

.

* وشرُّ الناس: الذين يشهدون أنفسَهم فاعلةً للطاعات، ويشهدون المعاصي أنها من القَدَر، فيضيفونها إلى الله، كما قال بعض العلماء:"أنت عند الطاعة قَدَرِيٌّ، وعند المعصية جَبْرِيٌّ، أيُّ مذهبٍ وافق هواك تمذهبتَ به"

(4)

.

والأولون إذا عملوا طاعةً لله عز وجل، أو أحسنوا إلى أحدٍ من خلقه،

(1)

أخرجه مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.

(2)

انظر: "مجموع الفتاوى"(8/ 107، 332).

(3)

أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(4)

القول لابن الجوزي في "المدهش"(264)، ولفظه:"أنت في طلب الدنيا قدريٌّ، وفي طلب الدين جبريٌّ، أي مذهب وافق غرضك تمذهبت به". ونسبه إليه شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى"(8/ 446، 16/ 248).

ص: 421

شكروا الله الذي أعانهم على ذلك ويسَّرهم لليسرى، فلم يروا لهم أمرًا يَمُنُّون به على الخلق، ولا يُدِلُّون به على الخالق؛ إذ كان ذلك من نعمة الله عليهم وعلى الناس.

وأما الآخرون، فهم إن فعلوا مع أحدٍ خيرًا مَنُّوا به عليه، وآذوه، وربما اعتدوا عليه وظلموه. وإن فعلوا فاحشةً قالوا:

ألقاه في البحر مكتوفًا وقال له:

إيَّاكَ إيَّاكَ أن تبتلَّ

(1)

بالماء

(2)

يحتجُّون على ربهم بحجةٍ داحضةٍ عند ربهم، تُغَلِّظُ ذنوبهم، وتزيدُهم شرًّا، من جنس احتجاج المشركين الذي قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148].

وإن عمل أحدٌ معهم ما يكرهونه لم يضيفوا ذلك إلا إليه، وقد يكون عادلًا عاملًا

(3)

بحقٍّ، ولا يشهدون القَدَر في هذا الموضع، مع أن ذلك المؤذي إن كان ظالمًا فالذي سلَّطه عليهم ليس بظالم، فكيف إذا كان هو عادلًا فيهم، مطيعًا للشرع؟!

والربُّ عادلٌ في خلقه وأمره، منزَّهٌ عن الظلم، كما في الحديث الصَّحيح الإلهيَّ: "يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا

(1)

الأصل: "تقبل". تحريف.

(2)

ثاني بيتين للحلاج في ديوانه (179)، و"وفيات الأعيان"(2/ 143).

(3)

مهملة في الأصل رسمها قريبٌ من "قالا"، والمثبت أشبه بسياق الكلام، ويحتمل أن تكون: قائما، من القيام بالحق.

ص: 422

تظالَموا"

(1)

.

فهذا الضربُ لا هم مع قَدَرٍ ولا شرع، بل هم مع هواهم، يَمْدَحون من القَدَر والشرع ما وافق هواهَم، ويَذُمُّون ما خالف هواهم، وهؤلاء شرارُ الخلق، ومن سلَكَ طريقتَهم فطَرَدَها قادته إلى الانسلاخ من دين الإسلام، بل إلى ما هو شرٌّ من حال اليهود والنصارى.

* وأما الطبقة الثالثة

(2)

: فهم الذين ينظرون إلى الشرع لهم وعليهم، ولا ينظرون إلى القَدَر، يتحرَّون فعلَ الحسنات وتركَ السيئات، لكن يُضِيفون هذا وهذا إلى أنفسهم، ومن آذاهم انتَصَفُوا منه، ولم يجعلوا ذلك مما ابتلاهم الله به.

وهذا مذهبُ القدريَّة، وكثيرٌ من الناس حالُه حالُهم، وإن لم يكن اعتقادُه اعتقادَهم.

وهؤلاء مطيعون لله عز وجل في امتثال أمره، لكنهم عاصون لله في ترك الإيمان بقَدَرِه، والصبر على ما ابتلاهم به، فيفوتُهم من طاعة الله التي أمرهم بها، من الإيمان بالقَدَر، والصبر على أذى الخلق، ما لا يعلمُه إلا الله تعالى، ويقعون في أنواعٍ من الذنوب والمعاصي بهذا السبب.

* وأما الطبقة الرابعة

(3)

: من

(4)

ينظر إلى القدر فيما يفعله هو ويفعله

(1)

أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(2)

رسمت كلمة "الثالثة" في الأصل رقمًا، هكذا:"الطبقة 3". ولعله من الناسخ.

(3)

رسمت كلمة "الرابعة" كذلك في الأصل رقمًا.

(4)

جواب "أما".

ص: 423

غيرُه.

وهذا لو أمكن طردُه لكان مذهبًا يقال، وهو دون مذهب القدريَّة، لكنه لا يمكنُ طردُه، ولم يذهب إليه طائفةٌ من بني آدم، وإنما هو في الإرادات والأعمال من جنس السفسطة في الاعتقادات والأقوال، وهو أمرٌ يَعْرِض لكثيرٍ من الناس، بل للإنسان

(1)

في كثيرٍ من أحواله، وليس هو مذهبًا يصيرُ إليه

(2)

طائفةٌ من بني آدم.

وذلك أن الإنسان مجبولٌ على حبِّ ما ينفعُه وبغض ما يضرُّه، فما يمكن أن يستوي عنده جميعُ الحوادث المقدَّرة، حتى يكون الخبزُ والترابُ عنده سواء، والبولُ والماء عنده سواء، ومن يعطيه ما يحتاجُ إليه و [من] يمنعه ما يحتاجه عنده سواء؛ فإن هذا ممتنعٌ عقلًا وطبعًا، كما هو مذمومٌ عُرفًا وشرعًا

(3)

.

وإذا كانت الأعمال الصالحة من أعظم نعم الله، فكلما كان العملُ أفضلَ كانت النعمةُ به أتمَّ.

والجهادُ سنامُ العمل، كما في حديث معاذٍ المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم:"رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذروةُ سنامه الجهادُ في سبيل الله"

(4)

.

(1)

الأصل: "الإنسان".

(2)

الأصل: "عليه". والمثبت أقوم.

(3)

انظر: "الرد على البكري"(747)، و"مجموع الفتاوى"(8/ 106، 14/ 356).

(4)

أخرجه أحمد (22016)، وابن ماجه (3973)، والترمذي (2616) من حديث أبي وائل عن معاذ رضي الله عنه، وقال الترمذي:"حديثٌ حسنٌ صحيح"، وأعله ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(2/ 135) من وجهين.

وروي من وجوه أخرى عن معاذ رضي الله عنه. انظر: "العلل" للدارقطني (6/ 73)، و"إرواء الغليل"(2/ 138).

ص: 424

(1)

فيظن أن الجهاد هو الثلاثة، وهذا إن كان محفوظًا فالمراد به أن الجهاد يتضمَّن الثلاثة؛ فإن المجاهد لا بدَّ أن يكون مسلمًا مقيمًا للصلاة، فمع الجهاد تحصُل له الثلاثة، وإلا فحقيقة الأمر ما في الرواية المفصَّلة:"رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذروةُ سنامه الجهاد".

قال الإمام أحمد: "لا يَعْدِلُ الجهادَ عندي شيء"

(2)

.

ونصوص الكتاب والسُّنَّة تدلُّ على أنه أفضلُ من غيره، ولهذا قال الفقهاء

(3)

: إنه أفضلُ ما تُطُوِّعَ به.

والتحقيق أنه أفضل من جميع الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله؛ فإنه مكمِّلٌ لمقصود الإيمان بالله ورسوله.

فإذا كان فرض عينٍ قُدِّم على كلِّ ما يزاحمه من فروض الأعيان، يُقَدَّم على إيتاء الزكاة، وعلى الصيام، وعلى الحجِّ، وعلى برِّ الوالدين، وعلى طاعة السيِّد والأب، وعلى قضاء الدَّين.

(1)

بياض في الأصل بمقدار سطرين. ولا ريب أنه ذكر فيه اللفظ الآخر الذي يروى به الحديث: "رأس الأمر وعموده وذروة سنامه الجهاد"، وهو عند ابن ماجه (3973)، وانظر:"جامع المسائل"(8/ 164).

(2)

انظر: "المغني"(4/ 481، 13/ 18)، و"شرح العمدة" لابن تيمية (3/ 714).

(3)

متأخرو فقهاء الحنابلة. انظر: "الهداية"(207)، و"المحرر"(2/ 170)، و"الفروع"(2/ 343).

ص: 425

ولهذا قال الفقهاء: إذا حَضَر

(1)

العدوُّ بلدًا وجب الجهادُ على كلِّ أحدٍ، حتى يغزو العبد بدون إذن سيده، والولدُ بدون إذن والده، والمرأة بدون إذن زوجها، والغريمُ بدون إذن غريمه.

وأما الصلواتُ الخمس، فإن أمكن الجمعُ بينها وبين الجهاد، كما في صلاة الخوف في غير وقت القتال، فلا مزاحمة بينهما، فيجبُ فعلُهما جميعًا؛ فإن الصلاة عمود الدين، وهذا ذروة سنامه، فلا يقوم أحدُهما إلا بالآخر.

وإن ازدحما، كما في وقت المُسَايَفَة، ففيه ثلاثة أقوالٍ للفقهاء

(2)

:

أحدها: أنه يجمع بينهما، فيصلي صلاةً خفيفةً مع قتاله. وهذا قولُ أكثرهم، كمالك، والشافعي، وأحمد في أشهر الروايتين عنه.

والثاني: أنه يُخَيَّر بين تقديم الصلاة وتأخيرها بحسب المصلحة. وهذا هو الرواية الثانية عن أحمد، وقول طائفةٍ من الفقهاء.

واحتجَّ هؤلاء بما ثبت في الصَّحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: "لا يصلِّينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة"

(3)

، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا: لم يُرِد منا تفويتَ الصلاة، وبعضهم قال: لا نصلي إلا في بني قريظة، فأخَّروها حتى غربت الشمس، فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فلم

(1)

مهملة في الأصل. وانظر لترجيح إعجامها: شرح الزركشي على الخرقي (6/ 428)، و"الإنصاف"(4/ 118).

(2)

انظر: "المغني"(3/ 316)، و"جامع المسائل"(3/ 328، 5/ 353، 6/ 317).

(3)

أخرجه البخاري (946)، ومسلم (1770) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 426

يُعَنِّف

(1)

واحدةً من الطائفتين.

فقال هؤلاء: هذا دليلٌ على جواز تقديمها في الوقت، وتأخيرها عنه، عند الضرورة.

والقول الثالث: أنه يؤخِّرها عند المُسَايَفَة إلى أن تنقضي المُسَايَفَة، ثم يصلِّيها ولو بعد الوقت، كما هو مذهب أبي حنيفة.

واحتجُّوا بتأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم الأحزاب، فصلَّى العصر بعد ما غربت الشمس، وقال:"ملأ الله قبورَهم وبيوتَهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس"

(2)

.

ومن نصَر القول الأول قال: هذا منسوخٌ بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية [البقرة: 238]، وأن هذه الآية نزلت بعد ذلك لمَّا أخَّر صلاة العصر، ولهذا قال عقيبها:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} .

وبهذا يجيبون عن تأخير من أخَّرها إلى بني قريظة، يقولون: هذا كان قبل الفتح والأمر بالمحافظة [على الصلاة] وقت الخوف.

وطائفةٌ من الفقهاء أجابوا عن هذا بجوابٍ آخر، وقالوا: إن التأخير كان باجتهادهم، فلم يُعَنِّفهم؛ لأن المجتهد المخطئ لا إثم عليه.

وكذلك يقول من قال: كان فرضُهم تأخيرَها، يقول: لم يَذُمَّ المتقدِّمين، لأنهم كانوا مجتهدين.

(1)

في طرة الأصل: "يَعِب". وفوقها خـ، إشارة إلى أنها كذلك في نسخة أخرى.

(2)

أخرجه البخاري (2931)، ومسلم (627) من حديث عليٍّ رضي الله عنه.

ص: 427

فحديثُ بني قريظة يجيبُ عنه أهلُ القول الأول بجوابين، وأهلُ الثالث بجوابٍ واحد.

وأهل القول الثاني يجيبون عن حديث الخندق بأنه يدلُّ على الجواز، ونحن نقول به.

وأما أهل القول الثالث، فيحتجُّون في جواز التأخير بخبر بني قريظة، يقولون: إنما لم يَذُمَّ المتقدِّمين، لأنهم كانوا مجتهدين مخطئين.

وأهل القول الأول يقولون: جواز التأخير منسوخ، كما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّة، ولهذا كان أكثر الفقهاء عليه.

وعلى كلِّ قول، فمصلحة الجهاد الواجب مأمورٌ به

(1)

، لا يجوز أن يُفَوَّتَ الجهادُ المتعيِّنُ لا لصلاةٍ ولا غيرها، بل إما أن تُخَفَّف الصلاة، وإما أن تؤخَّر.

ولهذا قال عمر: "إني لأجهِّز جيشي وأنا في الصلاة"

(2)

؛ لأن ذلك كان من باب الجهاد الواجب عليه، فلم يكن ليدَعَه لأجل الاشتغال بالصلاة، كحال المصلِّي وقت المُسَايَفَة والخوف، فإنه لا يكونُ كحاله عند الأمن

(3)

، ولهذا قال تعالى:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239].

(1)

كذا في الأصل.

(2)

علَّقه البخاري في صحيحه (2/ 67)، ووصله ابن أبي شيبة (8034) بسند صحيح. وانظر:"فتح الباري"(3/ 90)، و"تغليق التعليق"(2/ 448).

(3)

انظر: "مجموع الفتاوى"(22/ 609)، ومختصر الفتاوى المصرية (66).

ص: 428

وقال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الآية [النساء: 103]، فدلَّ على أن الصلاة وقت الخوف لم تكن مقامةً على الوجه التامِّ؛ لأنه زاحَمَها في هذه الحال ما هو أوجبُ من إقامتها الكاملة، فكان تركُ إقامتها الكاملة في هذا الوقت للجهاد الذي هو أوجب، فهو المأمور به في هذه الحال.

وقد قال تعالى في فضل الجهاد: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إلى قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 - 22].

وفي صحيح مسلمٍ وغيره عن النعمان بن بشيرٍ قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أسقيَ الحاجَّ، وقال الآخر: لا أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أعمُرَ المسجد الحرام، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمرُ بن الخطاب، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صلَّيتُ الجمعة دخلتُ فاستفتيتُه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية

(1)

.

وفي الصَّحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيل الله"

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم (1879).

(2)

أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (84) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

ص: 429

وفيهما عن أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دُلَّني على عملٍ يَعْدِلُ الجهاد، قال:"لا أجده"، قال:"هل تستطيعُ إذا خرج المجاهدُ أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تَفْتُر، وتصوم ولا تفطِر؟ "، فقال: من يستطيع ذلك؟ فقال أبو هريرة: إن فَرَس المجاهد يَسْتَنُّ في طِوَلِه، فتُكْتَبُ له حسنات

(1)

.

وفي الصَّحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم الذي لا يَفْتُر من صلاةٍ ولا قيام حتى يُرْجِعَه الله إلى أهله بما يُرْجِعه من غنيمةٍ أو أجر، أو يتوفَّاه ليُدْخِلَه

(2)

الجنة"

(3)

.

وإذا كان الجهادُ أفضلَ الأعمال بعد الفرائض المتعيِّنة، وهو أفضلُ الفرائض المتعيِّنة بعد الإيمان، كان نعمةُ الله عز وجل به أعظم، فيستحقُّ من الشكر ما لا يستحقُّه ما هو دونه من الأعمال.

ثم الجهاد هو في

(4)

نفسه أنواع

(5)

؛ فإنه يتناول الجهاد بالمال والنفس.

والجهادُ بالنفس:

* قد يكون بالقتال بالبدن.

(1)

أخرجه البخاري (2785).

(2)

كذا في الأصل، ورواية الصحيحين وعامة كتب السنة:"فيدخله".

(3)

أخرجه البخاري (2787)، ومسلم (1878).

(4)

الأصل: "الجهاد وفي". من سهو الناسخ.

(5)

انظر: "الفصل" لابن حزم (4/ 107)، و"منهاج السنة"(8/ 86)، و"الاختيارات" للبعلي (447)، و"الفروع"(10/ 226).

ص: 430

* وقد يكون بتدبير الحرب والرأي، وهو أعظمُ نفعًا.

* وقد يكون بتبليغ رسالة الله تعالى، وإظهار حُجَجه ودفع ما يعارضها، وهو أفضل الأنواع الثلاثة.

* وقد يكون بالدعاء لله والتوجُّه إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وهل تُنْصَرون وتُرْزَقون إلا بضعفائكم؟ بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم"

(1)

، هذا يقوى تارةً، ويَضْعُف أخرى، كالجهاد بالبدن.

ولهذا كان أبو بكرٍ رضي الله عنه أفضلَ المجاهدين؛ لأنه قام بهذا قيامًا لم يَشْرَكه فيه غيرُه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مشاركًا للنبي صلى الله عليه وسلم في النوع الأوسط

(2)

مشاركةً لم يشاركه فيها أحدٌ غيره، بخلاف الثالث

(3)

فإنه كان يقوم به مِن شُبَّان الصَّحابة رضي الله عنهم عددٌ كثير، وكذلك كان مقدَّمًا في الجهاد بالقلب، والدعاء، واليد، مقدَّمًا بالمال على كل الصَّحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين

(4)

.

وإذا كان الجهادُ أنواعًا، فمن قام بأفضل أنواعه، أو بكثيرٍ من أنواعه، كان نعمةُ الله عليه أعظمَ من نعمته على من لم يُعْطَ ما أُعْطِي، كما أن نعمة الله على أبي بكرٍ في الجهاد أعظمُ من نعمته على عمر وعثمان وعليٍّ وغيرهم من الصَّحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

(1)

أخرجه البخاري (2896)، والنسائي (3178) والزيادة التي بعد الاستفهام له، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

(2)

يعني تدبير الحرب والرأي.

(3)

يعني القتال بالبدن، وهو الأول في الذكر.

(4)

انظر: "منهاج السنة"(5/ 20، 7/ 156، 8/ 87).

ص: 431