الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وإذا كان الإنذار لا بدَّ فيه من شيئين:
* الإعلام بالمَخُوف.
* والإعلام بسبيل النجاة منه.
فمعلومٌ أن الأول هو الوعيد، وهو مستلزمٌ للوعد الصَّريح
(1)
أو اللازم وهو التبشير. والثاني هو الأمر والنهي؛ لأن النجاة من العذاب بأداء الواجبات وترك المحرمات.
فصارت هذه الأصول الأربعة: الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، لازمةً لا بدَّ منها في الإنذار الذي لا بدَّ منه لبني آدم، وبذلك بعث الله الرسل جميعهم.
ولكن
الأمر والنهي لا بدَّ للناس من معرفته مفصَّلًا
؛ إذ قد يَحْتَاجُ إلى العمل، والعمل لا يكون إلا مفصَّلًا، لكن إنما يَحْتَاجُ إلى معرفة التفصيل فيما يجبُ عليه، وأما ما يجبُ مطلقًا فيكفي فيه العلمُ المجمل.
ولكن لا بدَّ أن يكون في الأمَّة من يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما أوجب الله ذلك، وهذا لا يكونُ إلا إذا علموا ما يدعون إليه ويأمرون به وينهون عنه مفصَّلًا؛ إذ المجملُ لا يكفي عند الحاجة إلى الامتثال.
ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة،
(1)
الأصل: "للوعد والوعيد الصريح". وزيادة "الوعيد" من سهو الناسخ.
وإنما تنازعوا في تأخيره من حين الخطاب إلى حين الحاجة
(1)
.
وأما العلمُ بالوعد والوعيد فقد يكفي فيه المجمل؛ فإنه إذا عَلِم أن هذا الفعل يكون سببًا للعذاب حصَل ذلك، فأما العلمُ بالوجوب والتحريم بدون الإيمان بأن المعصية سببُ العذاب فلا يحصِّلُ النجاة، وهذا الأصل هو من الإيمان بالوعد والوعيد، كما أن الأول من الإيمان بالأمر والنهي.
ومتى صدَّق العبد بذلك خاف عقوبة المعصية؛ فإن الحيَّ مجبولٌ على أنه يخاف ما يُجَوِّزُ وجودَه من الضرر، فإذا استشعر أن المعصية سببٌ للضرر خافَ، وهو يرجو مع ذلك السَّلامة من الضرر إذا أطاع، ولو لم يكن الرجاء مقرونًا بما يُجَوِّزُ وجودَه من النفع.
وإذا لم يقترن بالخوف رجاءٌ لم يكن خوفًا، وإنما هو يأسٌ
(2)
وقُنوطٌ،
و {لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، ولا {يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].
ومتى لم يقترن بالرجاء خوفٌ لم يكن رجاءً، وإنما هو أمنٌ، ولا {يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
ولهذا كان الرجاء والخوف واجبَين، وهما مُوجَبُ الوعد والوعيد، كما أن الطاعة والامتثال مُوجَبُ الأمر والنهي.
(1)
انظر: "المسوَّدة"(387 - 390، 392).
(2)
الأصل: "يائس". والمثبت أقوم.
وهما متلازمان؛ فكلُّ خائفٍ راجٍ مطيعٌ، وكلُّ مطيعٍ خائفٌ راجٍ
(1)
، كما أن كلَّ أمرٍ ونهيٍ فهو مستلزمٌ للوعد والوعيد، وكلَّ وعدٍ ووعيدٍ فهو مستلزمٌ للأمر والنهي.
فالمُعْرِض عن الخشية والرجاء عاصٍ، وقد يكون بعض ذلك ذنبًا، وقد يكون فسقًا، وقد يكون كفرًا، ولذلك أمر الله بهما، وأثنى على أهلهما، وذمَّ المعرضين عنهما، فقال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55 - 56]، فأمر بدعائه، وأن يكون الداعي خائفًا طَمِعًا.
وقال تعالى لمَّا ذكر دعاء زكريا له، وإصلاحه زوجَه له، قال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، وقال:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].
وقال عن الملائكة والنبيِّين، كالمسيح وعُزَير:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الآية [الإسراء: 57].
(1)
انظر: "الانتصار لأهل الأثر"(50)، و"مجموع الفتاوى"(27/ 256).
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218].
وقال الخليل: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82].
وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر: 8]، وابتغاء ذلك هو طلبُه، وهو الرجاء في العمل.
فإن الرجاءَ قد يكونُ من باب المحبَّة والإرادة والطلب الذي يَتْبَعُ اعتقادَ جواز [وقوع]
(1)
المحبوب، والخوفَ من باب النفرة والكراهة والبغض الذي يَتْبَعُ اعتقادَ جواز وقوع المكروه.
ولهذا قيل: "من رجا شيئًا طَلَبه، ومن خاف من شيءٍ هَرَبَ منه"
(2)
، أي: من رَجَاه بقلبه طَلَبه بنفسه، ومن خافه بقلبه هَرَب منه.
(1)
ليست في الأصل، وكتب الناسخ في الطرة:"لعله كذا: وقوع". وهو كما رجا، وسيأتي نظيره.
(2)
روي مرفوعًا من حديث حذيفة رضي الله عنه عند ابن أبي الدنيا في "حسن الظن بالله"(132)، وأبي القاسم الأصبهاني في "الترغيب والترهيب"(505)، ومن حديث أنس رضي الله عنه عند الخطيب في "تلخيص المتشابه"(2/ 697)، ولا يصحُّ منهما شيء.
وأخرجه ابن المبارك في "الزهد"(305)، وأحمد في "الزهد"(1400)، وابن أبي الدنيا في "الوجل والتوثق بالعمل"(1)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 292) وغيرهم عن مسلم بن يسار. وهو في "الحنائيات"(253) عن المضاء بن عيسى. وينسبُ إلى عليٍّ رضي الله عنه في كتب الأدب.
وقد يكونان من باب الاعتقاد والظنِّ، كما يقال: أخاف أن لا يُقْبَل، وأرجو أن يُتقبَّل مني، وأرجو أن لا يأمره بهذا، وأرجو أن لا يكون فلانٌ مؤمنًا، وأخافُ أن يكون عدوًّا.
وفي الجملة، فالرجاء والخوف متضمِّنٌ
(1)
للتجويز في الاعتقاد الذي يكونُ ظنًّا وأقوى وأضعف، وللمحبة والبغض التابع لذلك الاعتقاد، فهو مشتملٌ على جنس الظنِّ والإرادة معًا
(2)
.
ولهذا قال: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2]، وقال:{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، وكذلك قوله تعالى:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]، وقوله تعالى:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]، وقوله تعالى:{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19 - 20]، وقوله تعالى: {
…
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152].
وكذلك ما في القرآن من المسألة والدعاء، ومن التوكُّل على الله والاستعانة به، وكلُّ ذلك متضمِّنٌ للرجاء.
وقد ذمَّ الله تعالى من لا يرجو رحمة الله، فقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا
(1)
الأصل: "يتضمن". والمثبت أولى بالصواب. والإفراد من باب الحمل على المعنى، وهو سائغٌ في العربية، ومألوفٌ في أسلوب المصنف.
(2)
انظر: "جامع المسائل"(8/ 90)، و"درء التعارض"(6/ 47).
رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9]، وقال تعالى:{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].
وقال عن يعقوب: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} الآية [يوسف: 87].
وقال تعالى عن إبراهيم: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} لمَّا قالت له الملائكة: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 55 - 56].
وقال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} الآية [الفتح: 12]، وقال:{وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} الآيتين [الأحزاب: 10 - 11].
وكذلك ذَمَّ من لا يخشاه، وأمَر بخشيته دون خشية الخلق، فقال:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150]، وقال تعالى:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران: 175]، وقال:{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41]، وقال:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
(1)
[آل عمران: 175]، وقال:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3]، [وقال:] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} إلى قوله:
(1)
كذا تكرر الاستشهاد بالآية في الأصل.
{إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]، وقوله تعالى:{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 13].
وقال في التوراة: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} إلى قوله: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} الآية [المائدة: 44].
وقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، وقال:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52]، وقال:{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [فاطر: 18]، وقال:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11]، وقال:{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}
(1)
[الأعلى: 10]، وقال:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45].
وقال عن أهل الجنة: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26].
وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} الآية [المؤمنون: 60]، وقال:
{وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]، وقال:
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وقال:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41]، وقال:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وقال:{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:
(1)
الأصل: "إنما يتذكر من يخشى". وهو سهو من المؤلف أو الناسخ.
16]، وقال:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} إلى قوله: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 50 - 51]، وقال:{وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} الآية [لقمان: 33]، وقال:
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33].
فصل
الرجاء والخوف قد يتعلَّقان بما بعد الموت من النعيم والعذاب، وقد يتعلَّقان بما يكون في الدنيا من نعيمٍ أو عذاب. وكذلك الوعدُ والوعيد، يتعلَّقان بما بعد الموت، ويتعلَّقان بما في الدنيا.
ولهذا يجمعُ الله سبحانه بين قصص الأمم المتقدِّمين التي فيها عبرةٌ [وبين ذِكر هذين الأمرين؛ فيَذْكُر]
(1)
من الخوف والرجاء ما يتعلَّق بالدنيا، ويَذْكُر ما في الآخرة من الثواب والعقاب، كما فعل ذلك في غير سورة
(2)
.
فكلٌّ منهما قد يتعلَّق بفعل، مثل أن يرجو الثوابَ ويخاف العقاب على حسناته وسيئاته
(3)
.
وقد يكون متعلِّقًا بغير فعله، كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12]، فقد قيل:"خوفًا للمسافر، وطمعًا للمُقِيم"
(4)
.
(1)
ما بين المعقوفين بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات، وأتممته بما يلائم السياق.
(2)
انظر: "الاستقامة"(2/ 236).
(3)
يرجو الثواب على حسناته ويخاف العقاب على سيئاته.
(4)
روي عن قتادة عند ابن جرير (13/ 475، 18/ 480) وغيره.
وكلٌّ من الرجاء والخوف لا يجوز تعليقُه إلا بالله.
وقد تقدمت آيات الخوف.
وكذلك آياتُ الرجاء، مثل قوله:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17]؛ فإن ابتغاء الرزق هو من الرجاء.
وكذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؛ فإن المستعين راجٍ.
وكذلك قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]؛ فإن التوكُّل رجاءٌ وزيادة.
وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].
وكذلك [ما وَرَد]
(1)
من أنه لا يُدْعى إلا الله، ولا يُستعان إلا به.
وبينهما
(2)
فرقٌ من وجهٍ آخر
(3)
، كما قال عليٌّ عليه السلام:"لا يرجونَّ عبد إلا ربَّه، ولا يخافنَّ عبد إلا ذنبه"
(4)
.
(1)
زيادة تقديرية يقتضيها السياق.
(2)
الرجاء والخوف. وفي الأصل: "بينهما". والمثبت أولى.
(3)
انظر: "طريق الهجرتين"(619 - 620).
(4)
أخرجه معمر في "الجامع"(21031 - المصنف لعبد الرزاق)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(35645)، وغيرهما في سياقٍ طويل من طرقٍ كثيرة خيرها طريقا أبي إسحاق وعكرمة عن علي رضي الله عنه، ولم يدركاه.
ولشيخ الإسلام جوابٌ مبسوط في شرحه، ذكره ابن عبد الهادي في "العقود الدرية"
(107)
، وهو في "مجموع الفتاوى"(8/ 161 - 180).