الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذه بحوثٌ عقليةٌ معنويةٌ نافعة.
المقدمة الرابعة:
أن أدوات الشَّرط وغيره من معاني الكلام قسمان:
منها: ما يسمِّيه النحويون: "أمَّ الباب"، وهو ما دلَّ على الشَّرط أو الاستفهام ونحوهما دلالةً مجرَّدةً من غير أن يدلَّ [على] شيءٍ آخر.
ومنها: ما يدلُّ على الاستفهام أو الشَّرط ومعنًى آخر.
فالأول في الشَّرط "إنْ"، فإنها تقتضي ربط الجزاء بالشَّرط، من غير أن تدلَّ على ثبوت الشَّرط وانتفائه، ولا على حالٍ من أحوال الشَّرط، من مكانٍ أو زمانٍ أو فاعلٍ أو غير ذلك. فإذا قلت: إن قام زيدٌ قام عمرو، لم
(1)
يدلَّ على أكثر من ارتباط هذا بهذا.
والثاني: سائر أدوات الشَّرط، فإن "متى" مثلًا تدلُّ على الاشتراط في الزمان، و"أينما" في المكان، و"مَن" في أعيان من يَعْلَم، و"ما" في ما لا يَعْلَم وفي صفات ما يَعْلَم
(2)
، ونحو ذلك ممَّا
(3)
هو معروفٌ عند العالِمين
(1)
الأصل: "ولم". خطأ.
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(16/ 228، 596).
(3)
الأصل: "فيما". والمثبت أقوم.
بتفاصيل لسان العرب.
فهذه الأدوات تدلُّ على شيئين: على الشَّرط، وعلى حالٍ في المشروط. وحرف "لو" من هذا الباب، لكن من وجهٍ آخر، وهو الجوابُ الحاصل بعد تلك المقدمات.
فنقول: حرف "لو" المسؤول عنه، إذا قلتَ مثلًا:"لو رُدُّوا لعادوا"، يدلُّ على شيئين:
أحدهما: أن الردَّ سببٌ مستلزمٌ للعَوْد.
وقولنا: "سبب"، و"ملزوم"، و"علة"، و"مقتضى"، عباراتٌ متقاربة في هذا الموضع.
كما لو قيل: "إن رُدُّوا عادوا"؛ فإن الاشتراط بـ "إنْ" يدلُّ على أن الأول مستلزمٌ للثاني.
المدلول الثاني: عدم الردِّ الذي هو السببُ المستلزِم.
وهذه خاصَّة "لو" التي انفردت بها عن "إنْ"؛ فإن "لو" تدلُّ على تعلُّق الجزاء بالشَّرط، وعلى انتفاء الشَّرط، و"إنْ" تدلُّ على التعلُّق فقط، من غير أن تدلَّ على الشَّرط بنفيٍ أو إثبات.
وهذا أمرٌ مستقرٌّ في جميع مواردها، كما في قوله تعالى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47]، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156]، {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} [النساء: 46]، لو جاء زيدٌ
لجاء عمرو، لو زرتنا لأكرمناك، قول الشاعر
(1)
:
لو كنتُ من مازنٍ لم تَسْتَبِحْ إبلي
…
بنو اللَّقِيطة من ذُهْلِ بن شيبانا
فإن "لو" مع ما رُكِّبت معه تدلُّ على الشَّرط والجزاء، وعلى انتفاء الشَّرط أيضًا.
وهذا هو الذي قصده بعض النحويين حيث قال في حدِّها: "إنها حرفٌ يدلُّ على امتناع ما
(2)
يلزم من وجوده وجودُ غيره"، وصَدَق في أن هذا من معناها؛ فإنها تدلُّ على عدم الشَّرط الملزوم الذي يلزم من ثبوته ثبوتُ الجزاء الذي هو الجواب
(3)
.
لكن قد يقال: معناها [ليس] هو مجرَّد الامتناع، بل هو التعليق والامتناع جميعًا، وإنما هي دالةٌ على الامتناع بالتضمُّن لا بالمطابقة.
وقد يقال: هي لا تدلُّ على امتناع الشَّرط، وإنما تدلُّ على عدمه، وليس كلُّ معدومٍ ممتنع الوجود.
فهذه مناقشاتٌ لفظية، وإذا ظهر المعنى فلا عليك في ترك المناقشة اللفظية.
وإذا قيل: هي حرفُ شرطٍ يدلُّ على عدم الشَّرط، كان هذا منطبقًا عليها في جميع مواردها.
(1)
قريط بن أنيف العنبري، من كلمةٍ في صدر "الحماسة"(1/ 57). وفي "خزانة الأدب"(7/ 442 - 443) القول في صواب رواية البيت.
(2)
الأصل: "مما". خطأ.
(3)
انظر: "الرد على السبكي في مسألة الطلاق"(1/ 29).
ثم مِن هذا ينحلُّ الإشكال المشهور، وذلك أن الشَّرط اللفظيَّ الذي هو سببٌ معنويٌّ إذا انتفى فإنه ينتفي ذلك المعلول المعيَّن قطعًا، وينتفي أيضًا نوع المعلول إذا لم تَخْلُفْه علةٌ أخرى، فإن خَلَفَتْه علةٌ أخرى لم ينتفِ النوع، بل قد يوجد منه غيرُ ما انتفى، وقد يكون عدمُ إحدى العلتين دليلًا على ثبوت المعلول؛ لدلالة عدمها على ثبوت العلَّة الأخرى، كما تقدَّم؛ لأن الحكم الواحد بالنوع قد تكون له علَّتان باتفاق العقلاء من الفقهاء وغيرهم.
فإذا كان أهل اللسان يفهمون من قولهم: "لو زرتنا لأكرمناك" أن الزيارة علةٌ للإكرام، وأنها معدومة، فقد ينضمُّ إلى هذه المقدِّمة السَّمعيَّة مقدِّمةٌ أخرى عقليَّة، وهو أن عدم العلَّة يدل على عدم المعلول، كما فصَّلناه.
فيعقلون من ذلك انتفاء ذاك الإكرام المعيَّن، وقد يفهمون انتفاء الإكرام مطلقًا إذا غلب على ظنِّهم أن لا سببَ للإكرام إلا الزيارة، بالأصل النافي أو بالقرائن ونحوها من الدَّلائل.
ثم لما كان الغالبُ أن العلَّة إذا انتفت انتفى معلولها؛ إذ غالبُ الكلام يكون في نوع حكمٍ ليس له إلا علَّةٌ واحدة، وغيرُه من الأنواع قد عُلِم أنه منتفٍ في ذلك المقام = صار هذا الغالبُ كأنه من جملة معناها، وليس هو من معناها في أصل وضعها، ولا في جميع موارد استعمالها، وإنما هي دالةٌ عليه بالالتزام العقلي [الذي] أبديتُه لك.
ولهذا يُسْتَعْمَلُ كثيرًا مع عدم الدَّلالة على انتفاء المعلول الذي هو الجزاء، كما سيأتي، ومحالٌ أن يوضعَ لنفي المعلول وثبوته معًا.
وكذلك على سبيل البدل على قول بعضهم
(1)
قد كثر استعمالها دالةً على هذا المعنى في عرف المتأخرين، حتى ظُنَّ أن انتفاء المعلول الذي هو الجزاء جزءٌ من معناها، وهذه حقيقةٌ عرفيةٌ طارئة، إن لم يُسَمَّ لحنًا وتحريفًا للَّغة! وإنما معناها اللغويُّ هو ما أبديتُه.
ولكون انتفاء المعلول قد صار يُفْهَم منها غالبًا، إما باللُّزوم العقلي، أو بالغلبة العُرفية، قال من قال من النحاة: إن "لو" حرفٌ يمتنعُ به الشيءُ لامتناع غيره، وأرادوا بذلك أنه يمتنع بها الجزاء لامتناع الشَّرط، فجعلوا عدم الجزاء من معناها التي هي دالةٌ عليه بالوضع.
وينبغي لمن أحسَن الظنَّ بمن قال هذا أن يقال: هي دالةٌ على هذا غالبًا، كما بينَّا، أو هي دالةٌ عليه في العُرف والحادث
(2)
العامِّي، مع أن هذا فيه نظر، وكونُ دلالتها على هذا المعنى وضعيًّا
(3)
أو عقليًّا لا تتعرَّض له النحاة غالبًا. فأما أن يقال: إن هذا هو معناها أبدًا، فهذا غلطٌ ممن يقوله أو ينصرُه:
أما أولًا: فلعدم
(4)
الدليل عليه.
وأما ثانيًا: فلورود
(5)
الدليل على خلافه.
(1)
رسمت في الأصل: "تعم"، دون إعجام، ويحتمل أن يكون أراد بها العموم على سبيل البدل وهو العموم المطلق، إلا أن المثبت أدنى إلى الصواب.
(2)
كذا في الأصل. ولعلها: العرف الحادث.
(3)
الأصل: "وضيعا". من سهو الناسخ.
(4)
الأصل: "فلعل". تحريف.
(5)
الأصل: "فلورد".
فإن قيل: هذا قد قاله بعض فضلاء النحاة.
فيقال: مفهومُ تراكيب الكلام ونحو ذلك نِسْبَتُه إلى لغة العرب نسبةُ طائفةٍ
(1)
من علم الفقه إلى كلام الشارع، وهو أمرٌ يوجَدُ بالاستدلال، تارةً بالاستعمال، وتارةً بالقرائن، وغير ذلك.
ولهذا تختلفُ النحاة في مفهوم حروفٍ ومقتضى تراكيب، كما يختلفُ الفقهاء في مفهوم بعض كلام الشارع، ثم الدليلُ يقضي بين المختلفين.
وكما أن علمَ الشريعة نوعان:
* نوعٌ يُتَلقَّى من المحدِّثين، وهو الرواية، فإذا كان الراوي ثقة ضابطًا لم تُرَدَّ روايتُه إلا بحجَّةٍ تدلُّ على غلطه، وهو نادر.
* ونوعٌ يُتَلقَّى من الفقهاء، وهو فهمُ كلام الشارع، وبناءُ بعضه على بعض، والنظر في لوازم تلك المعاني وموجَباتها.
كذلك علم العربية:
* منه المسموع، وهو ما يرويه الثقةُ كما سمعه من العرب، منظومًا ومنثورًا، وما يرويه أيضًا أنهم أفهموه ذلك المعنى عندما تكلَّموا بذلك اللفظ. وهذا هو نقلُ اللغة، وهذا نقلٌ لأشياء معينة.
* ومنه المعقول، وهو الحكمُ الكليُّ على لفظٍ مفردٍ أو مركَّب. وهو علمُ النحو والتصريف والمعاني والبيان؛ فإن العرب وغيرهم من الأمم لم يُسْمَع منهم حكمٌ كليٌّ للفظٍ أو لدلالة لفظ، وإنما استقراء كلام الأمم يوجبُ
(1)
أي: كنسبة طائفة. وضُبِط في الأصل: "نَسَبه طائفةٌ". وهو غلط.
للعقل حكمًا كليًّا، كما إذا استقرينا كلَّ اسمٍ بعد فعلٍ على صيغة "فَعَلَ"، فوجدناه مرفوعًا، علمنا أن الفاعل مرفوع، وأن رفع الاسم على هذه الصفة دليلٌ على أنه فاعل.
كذلك "لو" مثلًا إذا سَمِع الناقلُ العربَ تقول: "لو زرتنا لأكرمناك"، وأفهموه أن كل واحدٍ من الأمرين ممتنعٌ في هذا المعنى، أوجب ذلك الحكمَ على هذا المثال بهذا الحكم، ثم رأينا هذا المعنى يُفْهَمُ من سائر الأمثلة، حكمنا حكمًا عامًّا بما حكموا به.
وإن وجدنا الأمر ينتقض أحيانًا من غير قرينةٍ طارئةٍ علمنا أن الموجب المفهم
(1)
هناك معنًى انفرد به.
وقد وجدناهم يقولون: "لو زرتنا لأكرمناك"، وكلاهما منتفٍ، ونظائره كثيرة، ووجدناهم يقولون مثلًا:"هذا محسنٌ إلى زيدٍ ولو أساء إليه"، "ولو أسأتَ إليَّ أحسنتُ إليك"، "ولو قلتَ لي ألف كلمةٍ ما قلتُ لك كلمة"، "ولو عصيتَ الله تعالى فيَّ لأطعتُ الله فيك"، "ولو شتمتني لما شتمتُك"، كما يقال: إن رجلًا من العرب قال لآخر منهم: لو قلتَ لي كلمةً لقلتُ لك ألف كلمة، فقال له الآخر: لكن لو قلتَ لي ألف كلمةٍ لما قلتُ لك كلمة.
ونحو هذا كثير، يقصدون بذلك إثباتَ الملازمة بين هذين الأمرين، ونفيَ الملزوم لا نفيَ اللازم، أي: إن إساءتك مستلزمةٌ لإحسانك، وسببٌ فيها، بمعنى أنها مستلزمةٌ لما هو علةٌ للإحسان، لأنك إذا أسأتَ قارن إساءتَك ما في خُلُقي من الإحسان، فصارت هذه المقارنةُ سببًا لوجود
(1)
كذا في الأصل.
إحساني أو دليلًا على وجود إحساني، كما قدَّمناه في مقدِّمة الشَّرط، وأنه ليس يجبُ أن يكون هو المؤثِّر في الجزاء خارجًا، وإنما المعتبر هو الملازمة والارتباط والتعليق.
ثم مثل هذا الكلام لا يقصدون به عدم إحساني إليك، ولا عدم طاعة الله فيك
(1)
، ونحو ذلك، بل إما أن يكون الجزاء مسكوتًا، أو يكون مُخْبَرًا بوجوده
(2)
، أي: أنا أُحْسِنُ إليك ولو أسأتَ، فكيف إذا لم تُسِئ؟! فالمقصود أن الإحسان
(3)
موجودٌ على التقديرين.
فصار جواب "لو" له ثلاثة أحوال:
* تارةً يدلُّ الكلام على انتفائه بانتفاء الشَّرط، كما في قوله:"لو زرتني لأكرمتك".
* وتارةً يدلُّ لا على ثبوته ولا على انتفائه، كما في قوله:"لو أسأتَ إليَّ لأحسنتُ إليك"؛ إذ كان
(4)
عدم الإساءة قد يكون معه الإحسان في العادة، وقد لا يكون إذا كان المحرِّك على الإحسان الإساءة.
* وتارةً يدل على وجود الجواب مع انتفاء الشَّرط، وذلك إذا كان عدم العلَّة أولى باقتضاء الجواب من حال ثبوتها، كما في قوله:"لو شتمتني لما شتمتك"؛ فإن اقتضاء عدم الشَّتم لعدم الشَّتم أقوى من اقتضاء الثبوت
(1)
الأصل: "منك". تحريف.
(2)
الأصل: "بوجود".
(3)
الأصل: "الانسان". تحريف.
(4)
الأصل: "إذا كان". والمثبت أقوم.
للعدم، فإذا كانت الشتيمةُ تنتفي مع وجود الشَّتم فمع العدم أولى.
فإذا كانت "لو" تستعملُ على هذه الوجوه الثلاثة، فإن جعلناها حقيقةً في البعض فقط، أو في كلِّ معنًى بخصوصه، لزم الاشتراكُ اللفظيُّ أو المجازي، وهما على خلاف الأصل، فالواجب أن تُجْعَل حقيقةً في المعنى المشترك بين مواردها، وهو تعليقُ أمرٍ بأمر، مع الدلالة على انتفاء الشَّرط، ثم ثبوتُ الجزاء أو انتفاؤه يُعْلَمُ من خصوص الموارد
(1)
، ولا يدلُّ اللفظ عليها، مع أن الغالب عليها في الاستعمال انتفاء الجواب؛ لما قدَّمته من أن انتفاء العلَّة
(2)
يُشْعِرُ بعدم المعلول كثيرًا أو غالبًا.
إذا تحرَّر هذا، فنقول:"لولا" و"لو لم" هي "لو" مع حرف النفي، فلهذا قالوا: المثبت بـ "لو" منتفٍ بـ"لولا" و"لو لم"، والمنتفي بـ"لو" منتفٍ بـ"لولا" و"لو لم".
وهذا أجودُ من قول من قال: المثبت بعد "لو" منتفٍ، والمنتفي بعدها مثبت، والمثبت بعد "لولا" منتفٍ، والمنتفي بعدها مثبت؛ فإن "لولا" كما قدَّمتُه تنفي الشَّرط، ولا تنفي الجزاء إلا بتوسُّط الاستدلال على عدم العلَّة بعدم المعلول، وهذه دلالةٌ عقليةٌ لا لفظية، ولها شروط، كما قدَّمتُه، و"لولا" و"لو لم" تقتضي ثبوت الشَّرط بعدها، وإنما ينتفي الجزاء بتوسُّط ثبوت علَّته التي هي المانع، كما سنبيِّنه.
فإذا قيل: "لولا جاء زيدٌ لجاء عمرو" أفاد تعلُّق الثاني بعدم الأول،
(1)
الأصل: "المواد". تحريف.
(2)
الأصل: "اللغة". تحريف.
وثبوت الأول. فلو قيل: "لولا زيد لجاء عمرو" أفاد تعلُّق عدم الثاني بعدم الأول، وثبوت الأول. فأفاد شيئين:
أحدهما: أن عدم الأول سببٌ لوجود الثاني أو عدمه.
وثانيهما: أن ذلك العدم غيرُ حاصل، فهو معنى "لو" بعينه، إلا أنك تجعل المثبت هناك منتفيًا هنا.
ومعلومٌ أن عدم الأول إذا كان سببًا لوجود الثاني أو انتفائه، فانتفاء العدم هو انتفاء العلَّة، وانتفاء العلَّة ينتفي معها المعلول إلا أن تَخْلُفَه علةٌ أخرى.
فقول عمر رضي الله عنه: "لو لم يخف الله لم يعصه" موضوعُ هذا اللفظِ أن عدم الخوف في حقه لو فُرِض كان مستلزمًا لعدم المعصية، وأن هذا العدم منتفٍ لوجود ضدِّه، وهو الخوف.
فيفيد الكلام فائدتين:
أحدهما
(1)
: أنه خائفٌ لله؛ لأن ما انتفى بـ"لو" ثبت بحرف النفي معها.
والثاني: أن هذا الثابت في حقِّه، وهو
(2)
الخوف، لو فُرِض عدمُه لكان مع هذا العدم لا يعصي الله؛ لأن تركَ المعصية
(3)
قد يكونُ لخوف الله، وقد يكون لأمرٍ آخر؛ إما لنزاهة الطبع، أو إجلال الله، أو الحياء منه، أو لعدم المقتضي إليها، كما كان يقال عن سليمان التَّيميِّ: "إنه كان لا يُحْسِنُ أن
(1)
كذا في الأصل، من باب الحمل على معنى شيئين.
(2)
هذا آخر السقط من كتاب "الأشباه والنظائر".
(3)
الأصل: "المعصية له" وضبَّب الناسخ على "له".
يعصيَ الله عز وجل"
(1)
.
فقد أخبَرنا عنه
(2)
أن عدم خوفه لو فُرِض موجودًا لكان مستلزمًا لعدم معصية الله، لأن هذا العدم يضافُ إلى أمورٍ أخرى؛ إما عدمُ مقتضٍ أو وجودُ مانع، مع أن هذا الخوفَ حاصل.
وهذا المعنى يفهمُه من الكلام كلُّ أحدٍ صحيح الفطرة، لكن لمَّا وقع في بعض القواعد اللفظية والعقلية نوعُ توسُّعٍ إما في التعبير
(3)
وإما في الفهم، اقتضى ذلك خللًا إذا بُنِي على تلك القواعد المحتاجة إلى تتميم.
فإذا كان للإنسان فهمٌ صحيح ردَّ الأشياء إلى أصولها، وقرَّر الفِطَر
(4)
على معقولها، وبيَّن حكم تلك القواعد وما وقع فيها من تجوُّزٍ أو توسُّع، فإن الإحاطة في الحدود والضوابط عسيرٌ عزيز
(5)
.
ومنشأ الإشكال أخذُ كلام بعض النحاة مسلَّمًا أن المنفيَّ بعد "لو" مثبت، والمثبتَ بعدها منفيٌّ، وأن جواب "لو" منتفٍ
(6)
أبدًا، [وجواب
(1)
قاله حماد بن سلمة. أخرجه أبو القاسم البغوي في "الجعديات"(1310)، وأبو الفضل الزهري في حديثه (202)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 28).
وقاله كذلك سفيان بن عيينة في محمد بن سُوْقَة. أخرجه الدينوري في "المجالسة"(324)، ومن طريقه ابن جماعة في مشيخته (594).
(2)
أخبرنا عمر عن صهيب رضي الله عنهما.
(3)
الأصل: "التعيين". والمثبت من "الأشباه والنظائر" أشبه بالصواب.
(4)
"الأشباه والنظائر": "النظر". تحريف.
(5)
"الأشباه والنظائر": "غير تحرير". وهو تحريف.
(6)
الأصل: "ثابت". وهو من سهو الناسخ أو أصله.
"لولا" ثابتٌ أبدًا]
(1)
، وأن "لو" حرفٌ يمتنع به الشيءُ لامتناع غيره، و"لولا" حرفٌ يدلُّ على امتناع الشيء لوجود غيره مطلقًا.
فإن هذه العبارات إذا قُرِن بها "غالبًا" كان الأمر قريبًا، وأما أن يُدَّعى أن هذا مقتضى الحرف دائمًا فليس كذلك، بل الأمرُ كما ذكرناه من أن "لو" حرفُ شرطٍ يدلُّ على انتفاء الشَّرط.
فإن كان الشَّرط ثبوتيًّا فهي "لو" محضة، وإن كان الشَّرط عدميًّا مثل "لولا" و"لو لم" دلَّت على انتفاء هذا العدم بثبوت نقيضه، فيقتضي أن هذا الشَّرط العدميَّ مستلزمٌ لجزائه، إنْ وجودًا وإنْ عدمًا، وأن هذا العدم منتفٍ.
وإذا كان عَدَمُ شيءٍ سببًا في أمرٍ فقد يكون وجودُه سببًا في عدمه، وقد يكون وجودُه أيضًا سببًا في وجوده، بأن يكون الشيءُ لازمًا لوجود الملزوم ولعدمه، والحكمُ ثابتًا مع العلَّة المعيَّنة ومع انتفائها لوجود علةٍ أخرى.
وإذا عرفتَ أن مفهومها اللازم لها إنما هو انتفاء الشَّرط، وأن فهم نفي الجزاء منها ليس أمرًا لازمًا، وإنما يُفْهَمُ باللزوم العقليِّ أو العادة الغالبة، وعطفتَ على ما ذكرته من المقدمات = زال الإشكالُ بالكلية.
وقد كان يمكننا أن نقول: إن حرف "لو" دالةٌ على انتفاء الجزاء، وقد تدلُّ أحيانًا على ثبوته، إما بالمجاز المقرون بقرينةٍ أو بالاشتراك، لكنَّ جعلَ اللفظ [حقيقةً] في القدر المشترك أقربُ إلى القياس. مع أن هذا إن قاله قائلٌ كان سائغًا
(2)
في الجملة؛ فإن الناس ما زالوا يختلفون في كثير من معاني
(1)
ساقط من الأصل، واستدركته من "الأشباه والنظائر".
(2)
الأصل: "سابقا". تحريف.
الحروف هل هي مقولةٌ بالتواطؤ أو بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز؟
وإنما
(1)
الذي يجبُ أن يُعْتَقَد بطلانُه ظنُّ ظانٍّ إن ظنَّ
(2)
أن لا معنى
لـ "لو" إلا عدم الجزاء والشَّرط؛ فإن هذا ليس بمستقيمٍ البتة.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(1)
الأصل: "واما". تحريف.
(2)
كذا في الأصل. وفي "الأشباه والنظائر": "ظنُّ ظانٍّ ظنَّ"، وفي بعض نسخه الخطية:"ظن ظان أن الظن"، وفي بعضها:"ظان إن ظن".