الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكثيرًا ممَّا أوقعهم ــ أو أكثر ما أوقعهم ــ في البدع المخالفة للكتاب والسُّنَّة احتجاجُهم لنوعٍ من الحقِّ بحجَّة مبتدعةٍ اعتقدوا أنها لا تَسْلَمُ من المناقضة والمعارضة إلا بما التزموه لتصحيحها من اللوازم التي قد يخالفون بها الكتابَ والسُّنَّة.
وكان مبدأ ذلك تكلُّمهم في "الجسم، والجوهر، والعَرَض"، وظنُّهم
(1)
أن بهذا التقسيم والترتيب يَثْبُت لهم وجودُ الصانع، وحدوثُ العالم، ونحو ذلك.
ف
لم ينكر السَّلفُ مجرَّد إطلاق لفظٍ له معنًى صحيح
، كما يعتقده قومٌ من الناس من أهل الكلام وغيرهم؛ فإنَّا عند الحاجة إلى الخطاب نخاطبُ الرجل بالفارسية والرُّومية والتُّركية.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لما كتب إلى أهل اليمن، كتب إليهم بلغتهم التي يتخاطبون بها، وليست هي لغة قريش.
ولما قَدِمت أمُّ خالدٍ من أرض الحبشة، وكانت قد سمعت لغتهم، قال لها لما أعطاها الخَمِيصة:"يا أم خالد، هذا سَنَا"
(2)
، والسَّنا بلسان الحبشة: الحَسَن، أراد مخاطبتَها بذلك إفهامًا لها وتطييبًا لنفسها.
ولا بأس أن يخاطِبَ المسلمُ كلَّ قومٍ بلغتهم التي يعرفون؛ لِقَصْدِ إفهامهم، إذا لم يحصُل المقصودُ بخطابهم بالعربية.
(1)
ألحق ناسخ الأصل قبلها: "وظنوا"، ثم رسم حاء صغيرة لعلها إشارة إلى أنها من نسخة أخرى، والسياق يستقيم بأي الكلمتين.
(2)
أخرجه البخاري (5823) من حديث أم خالد رضي الله عنها.
لكن كَرِه السَّلفُ والأئمَّة، كمالك والشافعي والإمام أحمد التخاطبَ بغير العربية لغير حاجة
(1)
؛ لأنها شعارُ أهل القرآن والإسلام، وبها يَعْرِفون ما أُمِروا بمعرفته من أمر دينهم، ولمعاني أُخَر ذكرتُها في "اقتضاء الصِّراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم"
(2)
.
فلم تكن كراهةُ السَّلف لمجرَّد اللفظ.
ولا كَرِهوا أيضًا معنًى صحيحًا يكون دليلًا على حقٍّ، كما يتوهَّمه أيضًا هؤلاء، ويقولون: "إن كُرِه اللفظُ فهو اصطلاحيٌّ كاصطلاحات سائر العلماء من الفقهاء والنحاة، وإن كُرِه المعنى فلا يريد
(3)
إلا الدلالة على أصول الدين، مثل: ثبوت الصانع، ووحدانيته، وصحة الرسالة والنبوة"
(4)
؛ فإن هذا المعنى لم يكرهه السَّلف، ولا يكرهه مؤمنٌ عليم.
كيف والقرآن من أوله إلى آخره إنما هو في تقرير هذه المعاني التي هي أعلامُ علوم الدين، وأشرفُ مقاصد الرسل؟!
وقد صرَّف الله في القرآن الدَّلالات بوجوه المقاييس
(5)
، وضرب الأمثال، وأنواع القصص، وغير ذلك مما هو دليلٌ ومرشدٌ إلى الإيمان بهذه الأصول.
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة (13/ 402)، و"المدونة"(1/ 161)، و"مسند الفاروق" لابن كثير (2/ 494).
(2)
(1/ 461 - 470).
(3)
أي: صاحب الكلام.
(4)
انظر: "إحياء علوم الدين"(1/ 96، 97).
(5)
المقاييس العقلية، وهي الأمثال. انظر:"مجموع الفتاوى"(2/ 61، 10/ 355).
وكيفَ وعلمُ الإيمان بهذه الأصول هو أفضلُ علمٍ في الدين، والكاملون فيه هم خلاصةُ الأمة؟!
وبمثله برَّز السابقون والمقرَّبون، وقيل في الصدِّيق رضي الله عنه صدِّيق الأمة:"ما سبقهم أبو بكرٍ بفضل صلاةٍ ولا صيام، ولكن بشيءٍ وَقَر في قلبه"
(1)
.
وقد مدح الله أهلَ العلم به في غير موضع، وقال فيهم:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، وقال فيهم:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي} [سبأ: 6]، إلى غير ذلك مما ليس هذا موضعه.
فكيف يكره السَّلفُ رضي الله عنهم معانٍ إما هي واجبةٌ وإما مستحبَّة؟!
وكيف وهؤلاء السَّلف لهم من الدلائل والبراهين في مسائل السُّنَّة والردِّ على أهل البدع ما ليس هو لمن ذمُّوه من أهل الكلام؟! وإن أنكروا الطرق والدلائل المُحْدَثة المبتدَعة؛ لما فيها من الفساد والتناقض، وأنها من جنس الكذب والخطأ.
(1)
أخرجه أحمد في "فضائل الصَّحابة"(118)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(127، 1117، 1269) من قول بكر بن عبد الله المزني بإسنادٍ صحيح.
ورفعه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصل له، وذكره ابن القيم في "المنار المنيف" (109) فيما وضعته جهلة المنتسبين إلى السنة في فضائل الصدِّيق رضي الله عنه. وانظر:"المغني عن حمل الأسفار"(1/ 23).
فتدبَّر هذا؛ فإنه فرقانٌ يفرِّق الله به بين الحقِّ والباطل
(1)
.
وإنما أضربُ لك أمثلةً من أدلتهم وحججهم الفاسدة، كما ضربتُ لك أمثلةً من مسائلهم الفاسدة.
وذلك أن أهل الكلام من أهل قبلتنا يأخذون كثيرًا في
(2)
الردِّ على من خالف المسلمين
(3)
من المشركين والمجرمين واليهود والنصارى، ويأخذ كثيرٌ منهم في الردِّ على من خالف السُّنَّة في بعض المواضع، وإن كان الرادُّ قد يخالفُ هو السُّنَّة في موضعٍ آخر
(4)
.
فيريدون أن يثبتوا وحدانية الصَّانع وكماله، ويثبتون
(5)
نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، ويسمُّون هذه المطالب "العقليات"؛ لاعتقادهم أنها لا تثبتُ إلا بالعقل الذي ادَّعوه وكانوا مختلفين في طرقه!
وقد يعتقدون أن الكتابَ والسُّنَّة لم تبيِّن أدلة هذه المطالب الشريفة! والقرآن مملوءٌ منها.
ولم يعلموا أن [كون]
(6)
العقل قد يعلمُ صحَّتها لا يمنع أن يكون الشرعُ
(1)
انظر: "درء التعارض"(1/ 44، 232، 7/ 154، 166، 176، 351)، و"بيان تلبيس الجهمية"(1/ 221)، و"مجموع الفتاوى"(3/ 307، 13/ 147).
(2)
الأصل: "من". تحريف. وسيأتي نظيره على الصواب.
(3)
رسمت في الأصل: "المساله". ولعله تحريف عما أثبت.
(4)
انظر: "بيان تلبيس الجهمية"(2/ 291)، و"التسعينية"(232)، و"مجموع الفتاوى"(3/ 348).
(5)
كذا في الأصل.
(6)
زدتها لحاجة السياق.
دلَّ عليها وأرشد إليها، فهي شرعيةٌ عقلية، بل ما يبيِّنه الكتابُ والسُّنَّة من أدلة هذه المطالب فوق ما في قُوى البشر، ولم يأت أهلُ الفلسفة والكلام من ذلك إلا بحقٍّ قليلٍ مخلوطٍ بباطلٍ كثير، فلبَسُوا الحقَّ بالباطل.
آخر ما وُجِد من ذلك