الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، وقال إبليس:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83].
وقوله تعالى:
{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} استثناءٌ منقطعٌ في أصحِّ القولين
(1)
؛ فإن المراد بالعباد هنا الذين عبدوه، وهم عباده المخلصون الذين قال فيهم:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، وقال تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6]، وقال تعالى:{يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68]، وقال تعالى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30] ، وهؤلاء عباده الذين عبدوه.
و
العبادة تجمع الحبَّ والخضوع
، فالحبُّ بلا خضوعٍ لا يكون عبادة، والخضوع بلا محبةٍ لا يكون عبادة، والله تعالى يستحقُّ أن يُعبد وحده ولا يُشْرَك به شيء، فلا بد أن يكون أحبَّ إلى العبد مما سواه، وأن يكون أعظم عند العبد من كل ما سواه، بحيث يَخْضَعُ له ولا يَخْضَعُ لشيءٍ كما يَخْضَعُ له، وكذلك يحبُّه ولا يحبُّ شيئًا كما يحبُّه.
فالربُّ تعالى يستحقُّ غاية الحبِّ وغاية الخضوع، ويستحقُّ أن يكون ذلك خالصًا له لا يُشْرَك فيه غيره، فمن استكبر عن عبادته لم يكن عابدًا له، ومتى عبد معه غيره كان مشركًا به، فلم يكن عابدًا له وحده.
(1)
انظر: "جامع الرسائل"(2/ 264)، و"جامع المسائل"(1/ 215).
وحبُّ العبد له وخضوعُه له ينافي إرادة العلوِّ في الأرض والفساد؛ فإنه إذا شَهِد العبد أنه العليُّ الأعلى، وأن كلَّ ما سواه مفتقرٌ إليه، وشَهِد فقرَ نفسه وحاجتَه إليه من جهة ربوبيَّته له، ومن جهة إلهيَّته له، فإنه لا بدَّ له من أن يعبده، ولا بدَّ له من إعانة الرب له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ما لا يكون بالله لا يكون، فليس يوجدُ للعبد ولا لغيره شيءٌ إلا به.
وهذا تحقيق "لا حول ولا قوَّة إلا بالله"، فكل ما سواه فقيرٌ إليه دائمًا، وهو غنيٌّ عن كل ما سواه دائمًا، والعبد لا يصلح إن لم يكن الربُّ معبوده وهو غاية محبوبه ومطلوبه، وإلا فكلُّ عملٍ لا يراد به وجهُ الله فهو فاسدٌ ضارٌّ لا ينفعُ صاحبه. فكما أنه [ما] لا يكونُ به لا يكون، فما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم
(1)
، ولهذا أُمِرْنا أن نقول في كلِّ صلاة:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
فشهودُ العبد هذا ينفي أن يريد علوًّا في الأرض أو فسادًا، ويستلزم أن يكون من المتقين؛ فإن شهود العبد لحقيقة حاجته وفقره يمنع عنه العلوَّ، وشهوده لحاجته إلى ما ينفعه ينفي عنه إرادة ما يضرُّه، ولكن هو جاهلٌ ظالم، وقلبه يغفل عن الله فيتبع هواه، قال الله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وقال تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] ، فهو بغفلته عن ذكر ربه، ونسيانه إياه، ينسى نفسَه وحاجتَها ومصلحتها، فهو في غاية الفقر والحاجة.
وقد ينفخُ فيه الشيطانُ الكِبْرَ فينسى حاجتَه وفقرَه، ويطغى إذا استشعر
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(8/ 329).