الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا ينفعهم، إما بجهلهم بقدر ما جاء به الرسول، وإما بجحودهم وعنادهم، حسدًا وبغيًا وكِبرًا، فرأوا أن في متابعته
(1)
زوال رياستهم التي هي أحبُّ الأشياء إليهم، ورأوا أن ترك ذلك المحبوب هو مفارقةُ النعمة لا الدخول فيها، وقد قدَّمنا أن الشاكر هو في النور، وأن كافر النعمة في الظلمة.
*
الأصل الثالث:
أن تعرفَ أن الثباتَ على العلم والإيمان عند وقوع الفتن والشبهات هو من أعظم النعم؛ فإن من الناس من يؤمنُ في العافية، ثم إذا فُتِنَ ارتدَّ، فينبغي أن يعلم أن ثباته على الإيمان عند الفتنة والشبهة من أعظم النعم.
قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} إلى قوله: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144 - 145]، وهم الذين يثبتون على الإيمان إذا انقلب على عقبه من ينقلبُ عند قتل الرُّسل وموتهم، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} إلى قوله:
{الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].
فذكر الشاكرين في هذه الآية والتي قبلها، ثم قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ
(2)
مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
(1)
كتب ناسخ الأصل: "متابعة الرسول"، ثم ضبب على "الرسول"، وأصلح "متابعة" في الطرة.
(2)
هذه قراءة أبي عمرو، وهي قراءة المصنف وأهل الشام لعهده.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، فذكر الصابرين.
ثم قال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 147 - 148].
والرِّبِّيُّون: الألوف الكثيرة.
وفي الآية قولان:
* قيل: وكأيِّن من نبيٍّ قُتِل هو، وكان معه رِبِّيُّون كثير.
* وقيل: وكأيِّن من نبيٍّ قُتِل، وقُتِل
(1)
مع النبيِّ رِبِّيُّون كثير.
والقول الأول يناسبُ كون النبيِّ مقتولًا؛ لقوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} . والثاني يدلُّ عليه ظاهر اللفظ؛ فإن المشهور لو أريد الأول لما قيل
(2)
: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}
(3)
.
فأنكَر على من انقلب على عقبيه عند قتل النبيِّ أو موته.
فالله تعالى ذكر الشاكرين الذين يثبتون على الإيمان عند الفتن العظيمة، مثل قتل النبيِّ وموته؛ فإن هذا من أعظم الفتن، ولهذا لما قيل يوم أحد: "قُتِل
(1)
كتب الناسخ في الطرة: "لعله كذا: قاتل وقُتِل". وليس بشيء. والخلاف الذي يحكيه المصنف هو: هل قُتِل النبيُّ وحده أم قُتِل وقُتِل معه الربيون؟
(2)
الأصل: "لقيل"، والأشبه ما أثبت، كما يعلم من المصادر التالية.
(3)
انظر: "جامع المسائل"(3/ 59 - 62)، و"مجموع الفتاوى"(1/ 58، 14/ 373)، و"الاختيارات" لابن عبد الهادي (131). ولشيخ الإسلام في هذه الآية رسالةٌ في نحو عشر ورقات ذكرها ابن رشيق في أسماء مؤلفاته (223 - الجامع).
محمد" انهزم أكثرُ الناس، ولما مات النبيُّ صلى الله عليه وسلم ارتدَّ أكثرُ الناس.
وفي الحديث: "ثلاثٌ من نجا منهنَّ فقد نجا: موتي، وقتلُ خليفةٍ مضطهدٍ
(1)
بغير حقٍّ، والدَّجَّال"
(2)
.
فموتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان من أعظم الفتن للناس؛ فإنه ارتدَّ عامَّة الناس إلا المدينة، ومكة، والطائف.
* أما المدينة، فهي دار المهاجرين والأنصار، وهم وإن لم يرتدُّوا لكن ضَعُفَت قلوبُهم، وتغيَّرت أحوالُهم، وجَبُن أكثرُهم
(3)
عن قتال المرتدين، وشكُّوا في قتال مانعي الزكاة، حتى قام الصِّدِّيقُ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
كذا في الأصل، والصواب:"مُصْطَبِر"، أي صابر، كما هي الرواية في عامة كتب السنة، ولم أغيِّرها لأني رأيتها وقعت كذلك في مواضع من كتب المصنف، ويبعد أن تكون في جميعها من خطأ النساخ، ولعلها رواية وقف عليها أو هو وهمٌ وتحريف. انظر:"بيان تلبيس الجهمية"(2/ 209)، و"منهاج السنة"(4/ 545، 6/ 364)، و"مجموع الفتاوى"(25/ 303).
(2)
أخرجه أحمد (22488) وغيره من حديث عبد الله بن حوالة رضي الله عنه بسندٍ جيد. وصححه الحاكم (3/ 101)، وخرجه الضياء في "المختارة"(9/ 280)، وهو خير أسانيده.
وروي من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، عند الروياني في مسنده (170)، والطبراني في "الكبير"(17/ 288)، وفي سنده راوٍ لم يعرفه الهيثمي، وهو قاضٍ معروف. انظر:"مجمع الزوائد"(7/ 335)، و"الفرائد على مجمع الزوائد" لخليل العربي (32). إلا أن الحديث معلول، والمحفوظ روايته من حديث عبد الله بن حوالة رضي الله عنه، كما جلَّاه الخطيب في "المتفق والمفترق"(1/ 202).
(3)
الأصل: "اكثر". ولعلها: كثير.
فعلَّمهم ما جهلوا، وذكَّرهم ما نَسُوا، وقوَّى قلوبَهم، وأمرهم بالجهاد،
فثبَّت الله عز وجل به الإيمان، حتى أدخل أهل الردَّة من الباب الذي خرجوا منه
(1)
.
* وأما أهل مكة، فأراد من أراد منهم أن يرتدَّ، فقام فيهم سهيلُ بن عمرو خطيبًا بنحوٍ من خطبة أبي بكر الصِّدِّيق بالمدينة، قال:"من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت"، ثم تلا:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}
(2)
.
والشاكرون هو وأتباعه الذين ثبتوا على الإيمان، المجاهدون عليه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الآية [المائدة: 54]، وهؤلاء هم الذين قاتلَ بهم الصِّدِّيقُ المرتدِّين من الكفَّار، كأهل اليمن، مثل أبي موسى الأشعري وقومه الأشعريِّين الذين قال فيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"هم مني وأنا منهم"
(3)
.
* وأما أهل الطائف، فأراد من أراد منهم الردَّة، فقام فيهم عثمان بن أبي العاص ــ وهو إمامهم وأميرهم ــ فنهاهم عن ذلك، فقال: "كنتم آخر الناس إسلامًا، وتكونون أوَّلهم ردَّة؟! اثبتوا، فإن أقام الله الإسلام كنتم على دينكم،
(1)
انظر: "منهاج السنة"(7/ 478).
(2)
أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(6/ 122)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 367).
(3)
أخرجه البخاري (2486)، ومسلم (2500) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.