الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتحقيق أن التقسيم إن كان عائدًا إلى اللفظ، كما يقال:"العين" تنقسمُ إلى مبصِرةٍ ومضيئةٍ ونابعة، فقريبٌ، لكن هو خلاف المعروف.
وإن كان عائدًا إلى المعنى فهو غلطٌ واضح.
ومنهم من يحتجُّ في كون مفهوم الشَّرط حجةً بكون النحويين قد سمَّوا هذه الأدوات: "أدوات الشَّرط"، والشَّرط ما ينتفي المشروطُ بانتفائه، فيلزم من ذلك عدمُ الجزاء عند عدم الشَّرط.
وهذا غلط؛ فإن لفظ الشَّرط في المقدمة الأولى معناه مغايرٌ لمعنى لفظ الشَّرط في المقدمة الثانية، وإنما اشتركا في اللفظ، فالشَّرط الذي يجب انتفاء المشروط بانتفائه هو الشَّرط المعنوي، وأما الذي يسمِّيه النحويون شرطًا في باب "إنْ" و"لو" ونحوهما فهو سببٌ مستلزِم.
وحكمُه هو
المقدمة الثالثة:
وذلك أن العلَّة
(1)
والسببَ قد يراد بها
(2)
:
1 -
العلَّة التامة التي لا ينفكُّ عنها المعلول، كمشيئة الله سبحانه؛ فإنها مستلزمةٌ لوجود المراد
(3)
، فإنه ما يشاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا ينتقض هذا أبدًا.
والعلَّة بهذا التفسير لا تتخصَّص، ولا يتخلَّفُ عنها معلولها، لا لفوات شرطٍ ولا لوجود مانع
(4)
.
(1)
الأصل: "العله العله". من سهو الناسخ.
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(20/ 167)، و"جامع المسائل"(2/ 185).
(3)
الأصل: "المواد". تحريف.
(4)
الأصل: "تابع". تحريف.
2 -
وقد يراد بها: العلَّة المقتضِية، وإن توقَّفت على شروطٍ واندفعت بالمُعارِض، كما يقال: الأكل والشرب علةٌ للشِّبع، وإصابة النار علةٌ للاحتراق، ويقال: ملكُ النصاب علةٌ لوجوب الزكاة، والزنا علةٌ لوجوب الرجم.
وإذا صِيغت هذه الأسباب بصيغ الشَّرط والجزاء، كقوله:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: 30] = فإنه يُعْلَمُ من ذلك أن هذا العمل سببٌ مقتضٍ للجزاء، ثم يجوز أن يتخلَّف الحكمُ عن سببه، لفوات شرطٍ أو لوجود مانع.
ويجوز للمتكلِّم أن يبيِّن مراده بهذا اللفظ المطلق تقييدًا وتخصيصًا إذا سوَّغه اللسانُ الذي يتكلَّم به، ولذلك جاز أن ينتفي الجزاءُ لمُعارِضٍ، من توبةٍ، أو حسناتٍ ماحية، ونحو ذلك، وانتفاؤه بالتوبة مجمعٌ عليه بين المسلمين، وفي البواقي خلافٌ بين أهل السُّنَّة وبين الوعيديَّة من الخوارج والقدريَّة.
ومن فَهِم هذا انتفت عنه شُبَه الوعيديَّة، وعرف سرَّ مسألة إخلاف الوعيد، ومسألة الخصوص والعموم؛ فإن الله قد بيَّن مراده بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وبقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25]، إلى أمثال ذلك.
إذا عُرِف ذلك فنقول: أما العلَّة التامة فإن ثبوتها دليلٌ يقينيٌّ على وجود
المعلول، وأما العلَّة المُقتضِية فهي دليلٌ ظاهرٌ على وجود المعلول، وقد يصير يقينيًّا إذا عُلِم انتفاءُ المُعارِض بطريقه
(1)
، فإن ذلك ممكنٌ في الجملة.
وأما عدم العلَّة فهو المتعلِّق بباب "لو" كما سنذكره.
فإن عُدِمت العلَّة مطلقًا فهو دليلٌ على عدم المعلول؛ فإن وجود المعلول بدون العلَّة محال.
فإن عُدِمت العلَّة المعيَّنة، سواء كانت تامةً أو مُقتضِية، فإنه يدلُّ على عدم المعلول إذا لم تَخْلُفْها علةٌ أخرى.
ثم عَدَمُ الخُلْف قد يُعْلَم يقينًا، ويُعْلَم ظاهرًا بدليلٍ خاصٍّ من سائر دلائل النفي. وقد يُنفى؛ فإن الأصل عدم علةٍ أخرى.
وقد يستقرُّ في النفس أن لا علة إلا هذا الحكم، ثم تستشعرُ النفس انتفاء العلَّة، فيحكم بانتفاء المعلول. مثل: أن يقال مثلًا في بعض الأشربة المتنازع فيها: هذا ليس بحرام؛ لأنه ليس بمُسْكِر، أو لأنه ليس بخمر، فإنه قد عُلِم أن لا مُوجِبَ لتحريمه إلا كونه خمرًا أو مسكرًا.
وهذا يكثر في الأنواع، مثل أن يقال في بيع الفُضولي: لا يصحُّ؛ لأنه ليس من مالكٍ ولا وليٍّ ولا وكيل. فكأنه قال: من جملة العلَّة في صحة البيع الملكُ أو الولايةُ أو الوكالة، والثلاثة منتفية. والنزاع في المقدمة الأولى.
ويقال لمن يعطي الفقراء أو الفقهاء: لم لا تعطي هذا؟ فيقول: لأنه ليس بفقيرٍ وليس بفقيه. وهذا مضمومٌ إلى مقدمةٍ مستقرَّة، وهو أن العلَّة هي الفقر
(1)
كذا في الأصل.
مثلًا أو الفقه، لا علَّة غيرها، وهي منتفية.
ويقول الفقهاء: إذا قال لامرأته: إن كلَّمتِ أسودًا فأنت طالق، فكلَّمت أبيض = لم تَطْلُق؛ أي: لانتفاء العلَّة، وهي مقتضيةٌ لعدم المعلول، فإنَّا ما تكلَّمنا إلا في انتفاء الطلاق الواقع بهذه العلَّة.
ثم هنا مسألة مفهوم الشَّرط، إذا قيل:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، هل يُشْعِر عدمُ هذا الشَّرط اللفظيِّ الذي هو سببٌ معنويٌّ بعدم المشروط؟ وفيه الخلاف المشهور، والجمهور على أنه يدل على عدمه
(1)
. ولا ريب أن عدم هذا الحكم المعلق بالشَّرط ينتفي؛ لأن بقاء عين الحكم بدون علةٍ محال.
لكن هل ينتفي النوع؟ فالذي يجبُ القطعُ به أن نوع الحكم لا يكون حالُه بعد انتفاء السبب المعيَّن وقبل انتفائه سواءً، ومتى فُرِض استواء الأمرين على مذهبٍ عُلِم بطلانه، لكن يدلُّ على نفي النوع دلالةً ظاهرة، بشرط أن لا يَخْلُفَه
(2)
سببٌ آخر.
ثم إن كان السببُ الخالِف جزءًا من المخلوف كان ضعيفًا؛ فإن الأعمَّ إذا كان مستقلًّا بالحكم كان الأخصُّ عديمَ التأثير، كما في قوله:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ، فإن كونه واحدًا جزءٌ من كونه فاسقًا، فلو كان التبيُّن واجبًا عند مجيء الواحد سواء كان عدلًا أو فاسقًا لم يعلَّق التبيُّنُ بكونه فاسقًا الذي هو الأخصُّ من كونه واحدًا.
(1)
انظر: "المسوَّدة"(693)، و"مجموع الفتاوى"(16/ 159).
(2)
الأصل: "يتخلفه". تحريف.
فهذا الاستدلال بعدم العلَّة لفظًا أو معنًى على عدم المعلول.
وقد يُجْعَل عدمُ العلَّة المعيَّنة دليلًا على ثبوت المعلول بعلةٍ أخرى أكملَ منها أو مثلها، وذلك إذا كانت العلَّتان متعاقبتين على محلٍّ، فعدمُ إحداهما مستلزمٌ لثبوت الأخرى، وثبوتُها مستلزمٌ للمعلول، فيصيرُ عدمُ العلَّة المعيَّنة مقتضيًا للمعلول، لكن بهذه الواسطة، وهي واسطةُ ثبوت العلَّة الأخرى.
ومن هنا يزول الإشكالُ في باب "لو" و"لولا"، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا كانت العلَّتان مجتمعتين في المحلِّ.
فالأول كما لو وصَّى الميت لوارثه، فإنه يقال: لو لم يُوصِ له لمَلَكَه بالإرث. وكما لو ألقى رجلًا من شاهقٍ في بحرٍ، فتلقَّاه آخرُ بسيفٍ فقَدَّه،
فإنه يقال: لو لم يَقُدَّه لمات. فيضافُ الموتُ إلى عدم القَدِّ، لا مستلزمًا للغَرَق
(1)
.
ومَثَل الثاني: إذا سُئلتَ عن لحم خنزيرٍ ميِّتٍ، فتقول: لو لم يكن خنزيرًا لحَرُم. فتجعل عدم كونه خنزيرًا مستلزمًا للتحريم، لأنه ميِّت.
فهذا الكلام في دلالة ثبوت العلَّة وانتفائها.
وأما دلالة المعلول، فإنَّ عدم المعلول مستلزمٌ لعدم العلَّة التامة قطعًا، ويدلُّ على عدم العلَّة المقتضية إذا عُلِم أن الانتفاء لم يكن لوجود مانعٍ ولا
(1)
الأصل: "مستلزم للعرف". والمثبت أشبه.
لفوات [شرط].
فيُعْلَمُ حينئذٍ أن الانتفاء إنما هو لانتفائها، وإلا فلو كانت موجودة، والموانع زائلة، والشُّروط حاصلة، لوجب وجودُ المعلول. فانتفاءُ اللازم دليلٌ على انتفاء الملزوم، ووجودُ المعلول يدلُّ على وجود العلَّة التامة، فتدخل فيه الشُّروط وضد
(1)
الموانع.
لكن إذا لم يكن للحكم إلا علةٌ واحدةٌ عُلِم وجودُها بعينها، وإن كان له علَّتان فصاعدًا دلَّ على وجود إحداهنَّ أو جميعهنَّ.
وإن عُلِم أن له علَّة
(2)
، وجاز أن يكون له علَّةٌ أخرى، لم نقطع بوجود تلك العلَّة المعدومة، لكن هل يُحْكَمُ بوجودها ظاهرًا؟
وكذلك لو عُلِم وجودُ العلَّة الواحدة، ووُجِد الحكم، وجاز أن يكون قد وُجِد بغيرها، فهل يضيفُه إلى ما عُلِم وجودُه أو يتوقَّف فيه؟ قولان للفقهاء، وأصحُّهما أنا نضيفه إلى تلك العلَّة. ويُسْتَدلُّ بوجود المعلول على وجودها؛ عملًا بالأصل الباقي الذي لم يعارضه ما يضعفه.
وعلى هذا ينبني: لو جَرَحَ صيدًا غاب عنه ثم وجده ميتًا، فهل يحالُ موتُه على جرحه، فيباحُ إن كان حلالًا ويجبُ الضمانُ إن كان محرَّمًا، أو يتوقفُ فيه؟ على خلافٍ مشهور بين الفقهاء، وهي مسألة الإصماء والإنماء
(3)
.
(1)
كذا في الأصل. ولعل الصواب: وتنفى.
(2)
الأصل: "انه عله". والمثبت أشبه.
(3)
الأصل: "والايماء". تحريف.
وفي المسألة حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا قال له: إني أرمي الصيد فأُصْمِي وأُنْمِي، فقال:"ما أصميتَ فكُل، وما أنميتَ فلا تأكل". والإصماء ما رأيته، والإنماء ما توارى عنك. أخرجه عبد الرزاق (8455)، وابن أبي شيبة (20037) بسند صحيح، ويروى عنه من وجوه أخرى.
وروي مرفوعًا، ولا يصحُّ. انظر:"البدر المنير"(9/ 261).
وانظر لخلاف الفقهاء: مختصر "اختلاف العلماء للطحاوي"(3/ 195)، و"تفسير القرطبي"(6/ 71)، و"المغني"(13/ 276).